“أجسادنا تركية، وأرواحنا إسلامية!”.. صعود القوميين المتشدِّدين في تركيا

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/22 الساعة 17:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/22 الساعة 17:46 بتوقيت غرينتش
Women wave flags outside the AK Party headquarters in Ankara, Turkey November 2, 2015. Turkish Prime Minister Ahmet Davutoglu described the outcome of a general election which swept his AK Party back to a parliamentary majority on Sunday as a victory for democracy. REUTERS/Umit Bektas

يصف قوميو تركيا المتشددون أنفسهم بأنَّهم مثاليون، ويفضلون تسمية أنفسهم بالمصطلح التركي "Ulkucu" أي المثاليين. لكنَّ الآخرين يصفونهم بعدة أوصاف متناقضة: ساسةٌ شديدو المعاصَرة أو رجعيون، وطنيون مُخلِصون أو مقاتلو شوارع مجرمون، أنصار للهوية التركية أو عنصريون للغاية.

حسب تقرير موقع Middle East Eye البريطاني، فإنَّ قوميي تركيا المتشددين يتمتَّعون الآن من جديد بالشعبية، والأهمية الاجتماعية، ودورٍ أكبر في المشهد السياسي التركي.

شهدت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، التي أُقيمت في شهر يونيو/حزيران عام 2018، أقوى استعراضٍ للأحزاب القومية اليمينية التركية رأته البلاد منذ عقود. وحظي حزب الحركة القومية وحزب الخير مجتمعان بـ%1 من أصوات الناخبين، وفازا بـ92 مقعداً في البرلمان. وجديرٌ بالذكر أنَّ حزب الخير انفصل عن حزب الحركة القومية في أكتوبر/تشرين الأول.

كان نجاح حزب الحركة القومية خصيصاً مفاجِئاً بالنسبة للعديد من المراقبين. إذ كانت الحملة الانتخابية للحزب مشتَّتة، وكان من المتوقَّع أنَّ انفصال الحزبين سيُقلِّل من حصَّته الانتخابية. لكن على النقيض من التوقُّعات، تمكَّن الحزب من الإبقاء على نصيبه من أصوات الناخبين، وحظي بعددٍ أكبر من المقاعد في البرلمان.

لدى جماعات الشارع القومية المتشددة المناصرة لحزب الحركة القومية عدة أسبابٍ للاحتفال. ولأوَّل مرة، فاز أولجاي كيلافوز زعيم الحركة المعروفة باسم "الذئاب الرمادية"، التي كانت في الماضي ذراعاً شبه عسكرية، سيئة السمعة لحزب الحركة القومية، بمقعدٍ في البرلمان بصفته ممثلاً عن حزب الحركة القومية.

تحالُف حزب الحركة القومية الانتخابي مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي ينتمي إليه أردوغان، منح الحزب ورئيسه دولت بهتشلي (70 عاماً) سُلطةً أكبر حتَّى مما يوحي أداؤه الانتخابي.

أبرز هذه السُّلطات الجديدة، هوَ أنَّ حزب العدالة والتنمية سيعتمد الآن على أصوات ممثلي حزب الحركة القومية، ليحصل على الأغلبية في البرلمان.

وبينما لم يُطالب الحزب بأية مناصب وزارية مقابل تحالفه مع حزب العدالة والتنمية، إلَّا أنَّه سعى لأن تشغل قيادته مناصب حكومية وبيروقراطية في الدولة. واحتفل مؤيدو حزب الحركة القومية بنتيجة الانتخابات الأخيرة. ورُفِعَ أحد الشعارات مؤخراً مكتوبٌ به: "الدولةُ لنا، نحن الأمة".

لم يكن حزب الحركة القومية وحده من اعتنق اتجاه القومية التركية. إذ أدار حزب أردوغان هو الآخر حملةً انتخابية بطابعٍ قومي لا شك فيه. ومنذ عام 2015، اتَّبع أردوغان أجندة تقارب جداً تِلك التي تمتلكها الحركة القومية، في حثِّه على شنَّ حربٍ ضد المقاتلين والنشطاء الأكراد جنوب شرقي البلاد، وإقامة علاقة حيوية مع بهتشلي.

وخلال الحملة الانتخابية، عَمَدت وسائل الإعلام الموالية لحزب العدالة والتنمية على نحوٍ ثابت إلى استخدام الخطاب القومي. وفي صحيفة يني شفق التركية، وهي ربما تكون الأقرب لأردوغان، تحدَّث رئيس التحرير إبراهيم قراغول في عموده الصحفي عن مؤامراتٍ أجنبية تُحاك ضد تركيا، وعن إحباط الحكومة التركية تِلك المخططات.

كتب قراغول: "لم يعُد من الممكن إبطاء مسيرة تركيا… إنَّها ليست دولةً قومية بالمعنى الصريح، ولا إقليماً صغيراً كفاية لتسعه الأناضول… الآن سيحمل شعبنا هذه الخطة الكبرى إلى كُل ركنٍ من العالم".

ووفقاً لعبدالله أيدوغان، وهو زميلٌ باحث بمعهد بيكر للسياسات العامة بجامعة رايس في مدينة هيوستن، يبدو أنَّ مؤيدي الأحزاب السياسية التركية الكبرى، ومن بينها حزب العدالة والتنمية، قد أصبحوا أكثر تقبُّلاً للخطاب القومي.

وقال أيدوغان لموقع Middle East Eye البريطاني: "هُناك ازديادٌ ملحوظ في العاطفة القومية لدى الأكراد، والأمر لا يتعلَّق فقط بنتيجة الانتخابات التي جاءت في صالح القوميين المتشدِّدين".

يتعقَّب أيدوغان تاريخ تبدُّل نهج حزب العدالة والتنمية للاتجاه القومي إلى احتجاجات متنزه غيزي بإسطنبول عام 2013.

وقال: "منذ احتجاجات غيزي، تغيَّرت نبرة الحوار لتركِّز على أنَّ الغرب شرير يريد الإطاحة بدولتنا، وقد كان هذا هو الحديث الذي يصدِّره حزب العدالة والتنمية لسنواتٍ حتى الآن".

ويقول سونر جاغابتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إنَّ نتائج الانتخابات تؤكِّد نجاح خطاب حزب العدالة والتنمية المستدرّ للعاطفة القومية.

وقال جاغبتاي: "ومع ذلك، فإنَّ حزب الحركة القومية يملك الآن نفوذاً لا يتلاءم وحجمه".

وأضاف: "لم يتضح بعد كيف سيمارس الحزب هذا النفوذ، لكن لولا تحالف أردوغان مع حزب الحركة القومية، ربما كان سيخسر السباقين الرئاسي والبرلماني".

لطالما كانت القومية ذات جاذبيةٍ سياسيةٍ واسعة. لكنَّ قوميي تركيا المتشدِّدين اليوم يمارسونها بشكلٍ مختلف عن غيرهم من الأحزاب السياسية المعاصرة بالبلاد.

يدَّعي القوميون المتشددون تأييدهم لهيبة الدولة التركية واحترامهم قوَّاتها المسلَّحة. وعادةً ما يُشدِّد هؤلاء على أهمية "الطابع التركي"، ويعارضون التعددية الثقافية بشدة، ومعها الحركات الحقوقية التي تُنظِّمها الأقليات في تركيا.

وفي تركيا، ليست السياسة القومية مسألة انتماءٍ إثني فقط، بل إنَّها أمرٌ وثيق بالديانة أيضاً.

يقول شعارٌ شائع يستخدمه حزب الحركة القومية كثيراً: "أجسادنا تركية، وأرواحنا إسلامية. الجسد دون روحٍ هوَ جثةٌ هامدة".

تأسَّس حزب الحركة القومية على يد ألب أرسلان توركيش، الذي كان عقيداً في الجيش التركي له صلاتٌ بعملية غلاديو، وهي عملية استخباراتية تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، قامت على إعانة الجماعات اليمينية شبه العسكرية في أوروبا. وفي بداياته، تورَّط الحزب في حرب شوارع دارت في سبعينيات القرن الماضي بين القوميين اليمينيين، ومن بينهم الذئاب الرمادية، والثوريون اليساريون، وهُم الأكراد، ومنظمات العلويين.

ما زالت قيادة حزب الحركة القومية يسيطر عليها أعضاءٌ سابقون في الذئاب الرمادية (أحدهم، وهو أتيلا كايا، أُدين في السابق بقتل عامل بناء ذي توجُّه يساري).

وهُناك دلالاتٌ تشير إلى أنَّ هذا النوع القديم من القومية المتشدَّدة في طريقه للعودة إلى المشهد التركي.

وظلَّ علاء الدين جاكيجي، وهوَ زعيم عصابةٍ سيئ السمعة ذو صلاتٍ بوكالة الاستخبارات الوطنية التركية وشخصيةٍ بارزة بين أوساط القوميين المتشددين، مسجوناً في تركيا منذ عام 2004 حتى الآن.

ومنذ الانتخابات، مُنِح جاكيجي امتياز تلقِّي زياراتٍ يومية، وأصدر سلسلةً من البيانات العامة مِن محبسه. وفي أحد هذه البيانات وجَّه جاكيجي تهديداتٍ بالقتل لصحفيين يعملون بصحيفة "قرار" التركية.

وقبل إقامة الانتخابات، دعا بهتشلي لإصدار عفوٍ بحق جاجيكي والإفراج عنه هوَ وكورسات يلماز، وهو زعيم عصاباتٍ آخر يقضي عقوبةً بالسجن لمدة 19 عاماً لأمره بقَتل محافظ كوشاداسي، وهي بلدةٌ في غربي تركيا.

وبعد يومين من انتهاء الانتخابات، خصَّص بهتشلي دعاياتٍ بمساحة صفحةٍ كاملة في صحيفتي صباح وحرييت التركيتين، لنشر أسماء 70 صحفياً وأكاديمياً ومُقترِعاً أهانوا برأيه حزب الحركة القومية.

وفقاً لمسعود يَكَن، وهو أستاذ بعلم الاجتماع بجامعة مدينة إسطنبول وخبير بالقومية التركية، يُمكِن إيجاد جذور القومية التركية الجديدة في النزاعات الناشبة في جنوب شرقي تركيا ذي الأغلبية الكردية، وعلى الجانب الآخر من الحدود التركية مع سوريا.

بعد انتهاء الانتخابات المُقامة، في شهر يونيو/حزيران عام 2015، ونجاح حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد، شنَّت وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية حملةً صوَّرت تركيا واقعةً تحت هجومٍ من الحركة الكردية والولايات المتحدة، مستفزَّةً بذلك العاطفة القومية لدى الأتراك.

وأخبر يَكَن موقع Middle East Eye: "اقتنعت المؤسسة التركية كُلها تدريجياً، ليس فقط قيادة حزب العدالة والتنمية، بل حتى البيروقراطيون ذوو الفِكر الكمالي (نسبةً لمصطفى كمال أتاتورك) الآتون من المؤسسة القديمة، بأنَّ الولايات المتحدة تخطط لبناء دولة كردستان جديدة، وهذا ستكون له تداعياتٌ في تركيا".

القومية المتشددة التركية على استعدادٍ للتمتُّع بحضورٍ أثقل فأثقل
القومية المتشددة التركية على استعدادٍ للتمتُّع بحضورٍ أثقل فأثقل

ويجادل يكن أنَّ ما نتَج عن هذا الاقتناع كان إجماعاً بين المؤسسة القديمة والمؤسسة الجديدة، بقيادة حِزب العدالة والتنمية، في صالح السياسة القومية.

وقال يكن: "رأت المؤسسة التركية في ذلك السيناريو أمراً لا يُمكِن السكوت عنه، لذا نشأ ما يُشبه الائتلاف بين أفراد النُّخبةِ الجديدة والقديمة، الأمر المشترك بين الجيلين".

وما كان من الحرب الأهلية في سوريا وموجة اللاجئين السوريين طالبي اللجوء في تركيا التي أسفرت عنها، إلا أن دعمت القضية القومية التركية.

عادةً ما يوصَف حزب الخير المؤسَّس حديثاً بكلماتٍ أرق ممَّا يقال عن منافسه حزب الحركة القومية في الصحافة الدولية. وخلال حملته الانتخابية عام 2018، تلقَّت ميرال أكشينار رئيسة حزب الخير الكثير من الاهتمام باعتبارها منافسة حيوية لأردوغان.

ومع ذلك، فإنَّ قيادة حزب الخير تضم بعضاً من القادة القوميين المتشدِّدين القدامى لحزب الحركة القومية مُخلصي الولاء للحزب، ومن بينهم نوَّاب رئيسة الحزب أركان أيدين وأوميت أوزداغ.

قبيل انفصال الحزبين، حاولت قيادة حزب الخير الإطاحة ببهتشلي والسيطرة على حزب الحركة القومية. وعندما فشلت محاولتهم تلك، وهوَ فشلٌ يرجع جزئياً لوساطة أردوغان والبلاط التركي، لجأ فصيل حزب الخير إلى تشكيل حزبٍ جديد بدلاً.

واسمُ الحزب "Iyi"، الذي يعني "جيِّد" أو "خَير" بالتركية، هوَ كذلك رمزٌ قومي متشدِّد يشير لقبيلة قايي من أتراك أوغوز في أسطورة نشأة الشَّعب التركي.

ووفقاً لبوراك كاديرجان، وهو أستاذ مساعد لشؤون الاستراتيجية والسياسات بكليَّة الحرب البحرية في الولايات المتحدة، فإنَّه بينما توجَد اختلافاتٌ بين الحزبين، من الأفضل وصف الانفصال باعتباره انقساماً في الحركة القومية التركية.

يجادل كاديركان بأنَّ حزبيّ الحركة القومية والخير هُما فصيلان لحركةٍ واحدة فرَّقهما الاستعداد، أو عدم الاستعداد، للتعاون مع أردوغان.

وأخبر كاديركان موقع Middle East Eye: "يمكنني القول إنَّ حزب الخير هو أفضل مَن يمثِّل القوميين المتشددين "الجدد"، هؤلاء الآتين من شتَّى ميادين الحياة، على النقيض من صورة "الرجل القوي" البائدة".

أصبحت مواضيع ورموز الحركة القومية المتشدِّدة ذات حضورٌ بارز ومتزايد في الثقافة العامة التركية. إذ ظهر مؤخراً في سلسلةٍ من المسلسلات الطويلة التركية إشاراتٌ للذئب وتبجيلٌ للقوات المسلحة التركية، وفي المسلسل التلفزيوني "Soz" بمعنى العهد، الذي يعود لعام 2017، يُصوَّر الجيش التركي بصفته بطلاً يدافع عن قرى التركمان (مجموعةٍ عرقية).

وربما كان المسلسل المحبوب "Boru"، أي الذئب، أفضل مثالٍ على الثقافة العامة القومية المتشددة في تركيا.

يتتبَّع المسلسل، الذي يحمل شعار الذِّئب، وحدةً من القوَّات الخاصة التركية (توصَف بـ"الذئاب الوحيدة") تقاتل، وعادةً تقتُل أكراداً يرتدون ثياباً تعود للصورة الذهنية عن الأكراد في جنوب شرقي تركيا.

ويحفل المسلسل بإشاراتٍ للعلم، والأرض التركية، والمخططات الأجنبية الخبيثة. وهذا العام، نُظِّم عرض حلقاتٍ إضافية في المسلسل بمناسبة حلول الذكرى الثانية لمحاولة الانقلاب الفاشلة شهر يوليو/تموز عام 2016.

ووفقاً لكاديركان، فإنَّ هذا يقدِّم دليلاً أبعد على المسار الاجتماعي الذي بدأ لتوِّه يظهر على المشهد السياسي التركي.

وقال: "ليست الثقافة العامة هيَ ما يقود العاطفة القومية المتشدِّدة، بل هي استجابةٌ لمطلبٍ موجود، وخاصةً لنسخته العلمانية".

ويقول بيرك إسين، وهو أستاذ مساعد بقسم العلاقات الدولية في جامعة بيلكنت بأنقرة، إنَّه في وقتٍ تضعُف فيه الدول القومية في المنطقة، اتجه العديد من الأتراك لنوعٍ أكثر عدائية من القومية.

وقال إسين لموقع Middle East Eye: "أحدثت الحرب الأهلية السورية والأزمة الأمنية الشاملة في الشرق الأوسط موجةً من الهجرة إلى تركيا، أثارت بدورها مخاوف لدى القوميين الأتراك، الذين هبُّوا إلى المشهد استجابةً لكل ما يحدث".

والآن يبدو أنَّ القومية المتشددة التركية على استعدادٍ للتمتُّع بحضورٍ أثقل فأثقل في ذاك المشهد، لا داخل شاشات التلفاز في تركيا فقط، بل في أعلى دوائر السياسة التركية.

علامات:
تحميل المزيد