وسط كل الحديث السريالي عن "الرجال الباكستانيين اللطفاء"، و"الخوادم الحاسوبية لهيلاري كلينتون"، و"التربُّص والترصُّد" في وقتٍ سابق من هذا الأسبوع بالعاصمة الفنلندية هلسنكي، تحدَّث الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قضية سياسة محددة: سوريا، وعلى وجه التحديد، اندلاع مواجهة محتملة على الحدود السورية-الإسرائيلية.
الحرب الأهلية السورية ربما تقترب من نهايتها البائسة، لكن وحسب موقع The Daily Beast الأميركي، فإن المخاوف تتزايد بإسرائيل في ظل اقتراب النظام السوري وحلفائه -إيران، وحزب الله اللبناني، بالإضافة إلى وكلاء آخرين لإيران- من الحدود الإسرائيلية أكثر من أي وقتٍ مضى.
ويضيف التقرير أنه حتى قبل ظهور ترمب في هلسنكي، سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى موسكو الأسبوع الماضي للقاء بوتين، وهي القمة الثالثة من نوعها بينهما خلال الأشهر الستة الأخيرة. وكانت هناك قضيةٌ واحدة حقيقية هيمنت على جدول أعمال هذه القمة: سوريا.
بداية "الحملة الأخيرة" من الحرب السورية
وما أدَّى إلى إضفاء المزيد من صفة الاستعجال على الإجراءات المتعلقة بالقضية هو أنَّه جرى، بالتزامن تماماً مع قمة ترمب وبوتين، إسقاط طائرة عسكرية سورية من دون طيار فوق شمالي إسرائيل (وإطلاق النار على طائرةٍ أخرى في أيامٍ لاحقة)؛ الأمر الذي أدَّى إلى ضرباتٍ انتقامية من جانب الجيش الإسرائيلي ضد أهدافٍ تابعة للجيش السوري.
بدأت المرحلة الأخيرة من الحرب السورية الشهر الماضي (يونيو/حزيران 2018)، بشن النظام السوري هجوماً على أحد آخر معاقل المعارضة، محافظة درعا (جنوبي سوريا). ومع إلقاء القنابل من الطائرات الروسية وقتال إيران ووكلائها على الأرض، سقطت القرى الواقعة تحت سيطرة المعارضة الواحدة تلو الأخرى -غالباً بعد التفاوض على الاستسلام- وتُوِّج ذلك بالسيطرة على مدينة درعا، مهد الانتفاضة السورية. وفرّ عشرات الآلاف من المدنيين؛ سعياً وراء الأمان النسبي عند الحدود الأردنية أو الإسرائيلية.
خاصة بعد سُقوط القنيطرة في أيدي النظام
وفي الأيام الأخيرة، تحرَّك بشار الأسد وحلفاؤه باتجاه محافظة القنيطرة المجاورة لمرتفعات الجولان المحتلة من جانب إسرائيل. ومثلما قال رون بن يشاي، المراسل الحربي الإسرائيلي المخضرم، مؤخراً: "سيسقط الجانب السوري من هضبة الجولان بشكل شبه مؤكد في يد النظام السوري الآن كما لو كان ثمرة ناضجة".
وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية، الخميس 19 يوليو/تموز 2018، توصُّل روسيا والفصائل المعارضة إلى اتفاق يقضي بتسليم الأخيرة مناطق سيطرتها بمحافظة القنيطرة في جنوبي سوريا إلى الجيش السوري، ما من شأنه أن يُنهي عملية عسكرية معقدة في منطقة تتسم بحساسية بالغة؛ لقربها من إسرائيل.
وتزامن ذلك مع الانتهاء من تنفيذ اتفاق آخر رعته روسيا أيضاً، وتم بموجبه، فجر الخميس 19 يوليو/تموز 2018، إجلاء جميع سكان بلدتي الفوعة وكفريا المواليتين للنظام بمحافظة إدلب في شمال غربي البلاد، بعد 3 سنوات على حصار فرضته فصائل مقاتلة وإسلامية.
وقال مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن، لوكالة الأنباء الفرنسية: "توصلت روسيا والفصائل المعارضة إلى اتفاق ينص على مغادرة رافضي التسوية إلى الشمال السوري ودخول مؤسسات الدولة إلى مناطق سيطرة المعارضة".
ما جعل الجيش الإسرائيلي يُعزز تواجده بالمنطقة
وعند خط الحدود، الأسبوع الماضي، مع ضابط رفيع المستوى في الجيش الإسرائيلي مسؤول عن هضبة الجولان، كانت الرسالة المسيطرة هناك هي التأهب المصحوب بحالة من انعدام اليقين. قال اللواء أتسيك الفاسي: "ما كان يحدث هنا في الأشهر الماضية، لن يكون هو ما يحدث غداً. نافذة الفرصة تنتهي؛ وستعود المنطقة إلى النظام السوري، سواء كان هذا بموجب اتفاقٍ أو من دون". ورغم أمنيات إسرائيل، فإنَّ هذا -على الأرجح- لن يعني العودة إلى الوضع اللراهن الذي كان قائماً قبل الحرب السورية.
من جانبه، عزَّز الجيش الإسرائيلي وجوده في هضبة الجولان بإضافة المزيد من القوة النيرانية (مدرعات ومدفعية)، وهو مستعد لصون الخطين الأحمرين اللذين وضعتهما الحكومة الإسرائيلية: عدم ترسُّخ أي قوات لإيران أو حزب الله (سواء في منطقة الجولان أو بسوريا كلها)، والتمسك باتفاقٍ قديم لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وسوريا يعود لعام 1974.
ويبدو أنَّ الخط الأحمر الأول يجري بالفعل تجاوزه؛ إذ أخبر الفاسي بأنَّ "الحلفاء الذين تقودهم إيران"، مثلما يُشار إليهم هنا، يحاولون إقامة خلايا نائمة في الجزء السوري نفسه من هضبة الجولان، بهدف تحويل سوريا إلى جبهة أخرى ضد الدولة اليهودية.
وتعليقاً على "البنية التحتية الإرهابية" التي يجري إنشاؤها بالقرب من حدود إسرائيل، قال وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، خلال زيارة له للجولان مؤخراً: "نحن عازمون على عدم السماح بهذا الأمر. بعد فترةٍ، سيتحمل كل طرفٍ مسؤوليته، وكل طرف سيدفع الثمن، وضمن ذلك نظام الأسد".
في ظل وجود مخاوف من تجاوز "المنطقة العازلة"
وفيما يتعلَّق بالخط الأحمر الثاني -المتمثل في اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1974، والمعروف رسمياً باسم اتفاقية فض الاشتباك بين إسرائيل وسوريا- فهنا هو الميدان الذي تتحطم فيه الأفكار المجردة التي نُوقِشت في هلسنكي على صخرة الواقع القائم على الأرض.
وكانت الاتفاقية، التي توسط فيها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسنجر، ساعدت في الحفاظ على هدوء الحدود السورية-الإسرائيلية طوال 4 عقود تقريباً. وفي الواقع، كانت تلك هي أكثر حدود إسرائيل استقراراً إلى أن اندلعت الحرب الأهلية السورية في 2011.
وأنشأت تلك الاتفاقية منطقةً منزوعة السلاح بطول هضبة الجولان، من قمم جبل حرمون (جبل الشيخ) وصولاً إلى السهول التي تلتقي عندها الحدود الإسرائيلية والسورية والأردنية. ويُمثل "خط ألفا" غرباً "وخط برافو" شرقاً الحد الذي يمكن أن تصل إليه قوات الجيشين الإسرائيلي والسوري، ويتوسط الخطين منطقةٌ تنتشر بها قوة من الأمم المتحدة -قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (أوندوف)- للتأكُّد من التزام الطرفين بالاتفاقية.
وكانت المنطقة منزوعة السلاح خاضعة لإدارة سوريا عملياً، الأمر الذي كان مقبولاً في أوقات السِّلم. لكن العديد من فصائل المعارضة سيطرت على المنطقة خلال السنوات الأخيرة وأخرجت النظام السوري منها.
وتمدَّد مخيم بريقة، وهو أحد المخيمات الخاضعة لسيطرة قوى المعارضة، بوتيرة سريعة الشهر الماضي (يونيو/حزيران 2018). وبالنظر إليه من حصنٍ حدوديٍّ مهجورٍ تابع للجيش الإسرائيلي، يمكن رؤية خيام وإنشاءات أخرى مؤقتة مقامة، وصولاً إلى خط وقف إطلاق النار الدولي مع إسرائيل "خط ألفا"، أي في عمق المنطقة منزوعة السلاح.
ووفقاً لمصدرٍ بالمخيم تحدَّث إلى موقع The Daily Beast الأميركي الأسبوع الجاري، قصد نحو 10 آلاف سوري من المُشردين داخلياً، كثير منهم من درعا، المنطقة هنا بسبب أمنها النسبي، لكنَّ الأرقام الرسمية الصادرة عن موقع ReliefWeb الإنساني التابع للأمم المتحدة للإغاثة، تفيد بأنَّ عدد النازحين يتجاوز 20 ألف شخص.
وهو ما وقع بالفعل وجعل إسرائيل تقصف مواقع داخل سوريا
ويُعد "بريقة" واحداً من 12 مخيم أخرى بالمنطقة، تستوعب في الإجمالي نحو 250 نازحاً داخل سوريا. لكن هناك العديد من الأسباب التي تجعل مخيم بريقة مرشحاً لتوافد النازحين إليه؛ إذ يوجد خزان مياه برّاق في الجهة الجنوبية للمخيم، الذي هو نفسه يقع بالقرب من تلة استراتيجية عليها نقطة تابعة للجيش الإسرائيلي .
وعلى مسافة إلى الشرق من مخيم بريقة، على بُعد 7 كيلومترات، تبرز قمة تل الحارة وسط سهول الجولان ذات اللون البني الداكن وكأنها (قمة التل) مشهدٌ في إحدى روايات للكاتب البريطاني جون تولكين. وسقط "تل الحارة" في يد القوات التي يدعمها نظام الأسد، قبل أيام فقط، ويُعَد التل واحداً من عدة جيوبٍ يُضيِّق بها النظام الخناق على قوات المعارضة.
ومن حين لآخر، تتبادل قوات النظام والمعارضة إطلاق النار باستخدام قذائف الهاون والمدفعية والدبابات على الجانبين. ومن حين لآخر أيضاً، تتخطى القذائف الشاردة للنظام السوري الحدود لتصل إلى إسرائيل؛ ما يدفع الجيش الإسرائيلي إلى الرد بقصفٍ انتقامي. وهنا تكمن المعضلة.
قال الفاسي: "ليس من قبيل المصادفة أن تَرَكَ الأسد وإيران هذه المنطقة للنهاية. إنَّها منطقة حساسة، وهم يعلمون أنَّهم لا يستطيعون أخذها عنوةً بسهولة"؛ بسبب اتفاقية عام 1974. من جانبها، تتمسك الحكومة الإسرائيلية ببنود الاتفاقية، ويأتي نتنياهو ومسؤولون آخرون على ذكر الاتفاقية في كل مناسبة؛ بل وطُرِح تعبير "منطقة عازلة"، وإن لم تكن مُتعلِّقة بقوات المعارضة السورية (كقوة وكيلة) في حد ذاتها، بقدر تعلُّقها بالمنطقة والأرض نفسها.
وقال ليبرمان بشكلٍ قاطع: "من وجهة نظرنا، أي جندي سوري يوجد في المنطقة العازلة يُعرِّض حياته للخطر".
وتل أبيب في حيرة من أمرها!
إنَّ التناقضات الاستراتيجية واضحةٌ؛ إذ كيف سيتمكن الأسد وحلفاؤه الإيرانيون وشركاؤه الروس من إجبار المعارضة على الإذعان، واستعادة المنطقة بنهاية المطاف، في ظل حرمانهم من تكتيكاتهم الحربية المفضلة -مثل القصف الجوي العشوائي، وأساليب الحصار، والأسلحة الكيماوية- (خاصةً إذا استمرت إسرائيل في توفير المساعدات)؟
وكيف يمكن لإسرائيل أن تُفضِّل عودة الأسد إلى حدودها -وهو ما تفعله– في حين تعلم جيداً أنَّ الجيش السوري مدعوم بأقصى درجة من جانب إيران وميليشياتها؟ وبالفعل، مثلما أوضح فيليب سميث وحنين غدار (من معهد واشنطن)، بدَّلت الميليشيات الشيعية، المدعومة من إيران، زيها العسكري ببساطة، لتندمج داخل الجيش النظامي التابع للأسد.
ووفقاً لأيمن جواد التميمي، المحلل في شؤون الحرب السورية، ربما يكون نحو 80% من القوات التي تقاتل باسم الحكومة السورية مدعومة من إيران؛ بل ويساعد ضباط حزب الله حتى في قيادة الهجوم على الجبهة الجنوبية لسوريا، وهو ما وصفه مسؤولٌ مؤيد للأسد، خلال حديثه مع وكالة رويترز، بأنَّها "مشاركة أساسية في التخطيط وتوجيه المعركة".
وقال الفاسي: "حزب الله ليس مجرد دُميةٍ في يد النظام. لديهم مصالحهم الخاصة، ولا ينفذون أوامر الأسد وحسب".
وجيشها المرابط على الحدود في حالة تأهب
وعلى هضبة الجولان، ينتظر الجيش الإسرائيلي مستعداً لأي تحركٍ من جانب العدو، في حين يسافر نتنياهو إلى موسكو مُحاوِلاً دفع بوتين للتوسط من أجل التوصل إلى صفقةٍ تُبعِد إيران من سوريا، ويأمل ترمب من بوتين "توفير الأمن لإسرائيل". ما من أحدٍ متأكد من امتلاك بوتين القوة اللازمة لفرض هذه التسوية، حتى لو كان يريد هذا. ومن المُستبعَد أن تحمل إيران ووكلاؤها أمتعتهم للرحيل بعدما استثمروا الكثير للغاية في المقبرة السورية.
وتتزايد حدة قلق السوريين الذين يقطنون في مخيم بريقة مع اقتراب القصف الجوي وقذائف النظام السوري من أطراف محافظة القنيطرة. وفي يوم الثلاثاء 17 يوليو/تموز 2018، سار مئات الأشخاص صوب السياج الحدودي؛ طلباً للحماية الإسرائيلية. وبحسب ما قاله ناشط معارض في المخيم لموقع The Daily Beast: "إذا غزا النظام المنطقة العازلة، فسنقطع السياج ونعبر إلى إسرائيل". وقال الفاسي: "إنَّه كابوسٌ بالنسبة للجيش الإسرائيلي وليس أمراً تخيُّلياً"؛ فعشرات الآلاف من المدنيين اليائسين يسعون للحصول على مأوى. لكنَّ إسرائيل أوضحت بشكلٍ قاطع، أنَّها لن تسمح بمثل هذا الخرق الجماعي لحدودها.
الحرب الأهلية السورية ربما توشك على الانتهاء، لكن بالنسبة لإسرائيل، فإنَّ الأمور -على الأرجح- لا تزال في بدايتها وحسب.