جزيرة نيفيس: كيف ترفض أكثر الملاذات الضريبية سريةً تصحيح أوضاعها؟

وفرت الملاذات الضريبية الكثير من الدعم للتهرب الضريبي، ورغم أن السنوات الأخيرة شهدت قيوداً لكن بعضها لايزال يقاوم

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/18 الساعة 14:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/19 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش

تكره الملاذات الضريبية لفت الانتباه، فقد جنت مناطق، مثل جزيرة جيرزي، وسويسرا، وجزر العذراء البريطانية، الكثير من الأموال عن طريق مساعدة عملائها على مخالفة قوانين بلادهم لعقودٍ دون أن يلاحظ أحد فعلياً ذلك.

كان هذا الوضع يروق لهم ثم أتت الأزمة المالية العالمية 2007-2008 وولت الأوقات الجيدة؛ إذ بدأت الدول الغنية، الغاضبة من الخسائر التي تكبدتها موازناتها بسبب التهرب الضريبي، في ممارسة ضغوط دبلوماسية على الملاذات الضريبية.

وحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، فقد كشف النشطاء، الغاضبون من سرقة مئات المليارات من  الدولارات من الدولة الفقيرة، أمر هذه الملاذات في الصحافة. وأكد الكشف عن عدد ضخم من كنوز المعلومات السرية حول هذه الملاذات – مثل سويس ليكس، وملفات بنك إتش إس بي سي، وأوراق بنما، وأوراق الجنة – التصور الشعبي السائد بأنَّ هذه المراكز المالية الخارجية موجودة لمساعدة الأقوياء على التهرب من التزاماتهم تجاه بقية الشعب، واصطفت الحكومات لمعاقبتهم. وكانت آخر الصفعات التي تلقتها هذه الملاذات الضريبية في مايو/أيار الماضي، عندما صوّت البرلمان البريطاني على إنهاء سرية ملكية الشركات على جزر العذراء البريطانية.

الملاذات الضريبية تعاني

هددت هذه الحملة المُدبّرة نموذج عمل الملاذات الضريبية. وتراجعت حصة البنوك السويسرية من الثروة العالمية الخارجية من النصف تقريباً إلى أقل من الثلث منذ أن أجبرتها وزارة العدل الأميركية على الكشف عن البيانات السرية لعملائها عام 2010. وتراجعت نسبة إنشاء الشركات الجديدة سنوياً بأكثر من 50% منذ عام 2012  في جزر العذراء البريطانية؛ حيث أصبح لدى المحققين البريطانيين حالياً الحق في الوصول إلى بيانات ملكية الشركات. وأصبح حجم القطاع المصرفي في جزيرة جيرزي حالياً نصف حجمه عام 2007.

ورغم أن التعاون مع الجهات الحكومية الخارجية ثبت أنه مكلفٌ للغاية، استنتجت الملاذات الضريبية أنَّه ليس أمامها الكثير من الخيارات. فإذا حُرم أي مركز مالي خارجي من الوصول إلى النظام المالي العالمي، أو عاقبته بروكسل وواشنطن، فسيتوقف نشاطه بالكامل.

ويُعتبر هذا أمراً جيداً؛ لأن الملاذات الضريبية ساعدت أكثر الأشخاص ثراءً ونفوذاً في العالم على الحفاظ على حصة متفاوتة من فوائد العولمة عن طريق منع بقيتنا من معرفة حجم ثروتهم. وأدى هذا، بدوره، إلى تآكل ثقتنا في الديمقراطية والرأسمالية في مختلف أنحاء العالم. ويُعد فرض قيود على نشاط الملاذات الضريبية، وتفعيل الشفافية بشأن ملكية العقارات هناك أمراً ضرورياً؛ كي يستعيد المواطنون سيطرتهم على مصائر بلادهم.

جزيرة نيفيس.. هناك ملاذات ضريبية ترفض الاستسلام

لكن، في قلب هذه الصورة المُشجّعة بصورة متزايدة، لا تزال هناك المعاقل التي تأبى الاستسلام – وهي أماكن لا تزال ملتزمة بعادتها القديمة في الحفاظ على سرية بيانات عملائها النافذين.

من بين هذه المناطق، جزيرة نيفيس، وهي جبلٌ بركاني منعزلٌ في البحر الكاريبي، ولا يتجاوز تعداد سكانها 11 ألف نسمة، وتورطت هذه الجزيرة في بعض أكثر جرائم الاحتيال المالي دنائة في العصر الحديث، بدءاً من فضيحة الاحتيال الضريبي الأكبر في بريطانيا وصولاً إلى نهب 620 ألف أميركي في عملية احتيال في قروض الراتب وصلت حصيلتها إلى 220 ألف دولار. وتكشف قصة جزيرة نيفيس ما يواجه العالم من صعوبات في محاولة وضع حد للتهرب الضريبي، والاحتيال، والكلِبتوقراطية (أي نظام حكم اللصوص ويشير إلى المسؤولين الحكوميين الذين يستغلون مناصبهم لمراكمة ثرواتهم الشخصية).

وفي الوقت الذي خسرت فيه المناطق المنافسة لجزيرة نيفيس جزءاً كبيراً من نشاطها بعد انفتاحها ودفعها إلى إتاحة بيانات عملائها للمسؤولين الحكوميين، ضاعفت نيفيس من سرية بيانات عملائها. ومنذ وقتٍ ليس ببعيد، تحدث محامٍ لديه خبرة طويلة في الجزيرة، طلب عدم الكشف عن هويته؛ لأنه لا يزال يحتاج إلى العمل مع مسؤولين في نيفيس، قائلاً: "الشيء الوحيد الجيد الذي يمكن لدونالد ترمب فعله، إذا ما كانت لديه رغبة حقيقية، هو توجيه سفينة حربية صوب نيفيس وإشهار الأسلحة نحوها حرفياً، ليقول لهم: تخلصوا من هذه القوانين المزرية وإلا قتلتكم".

باختصار قال المحامي: "يجب التخلص من هذا الوباء".

الملاذات الضريبية ليست متشابهة كما نعتقد

يُنظر إلى الملاذات الضريبية غالباً باعتبارها كتلةً واحدةً كما لو أنَّ جميعها يؤدي الوظيفة نفسها. لكن في واقع الأمر، هم مفترسون مختلفون عن بعضهم البعض ومتخصصون للغاية في حوض أسماك القرش/shark Tank (أي كبار المستثمرين من ذوي الثروات الطائلة وأصحاب الخبرة). وتتربع مناطق مثل لندن، وسويسرا، ونيويورك على قمة السلسلة الغذائية.

ويحيط بهؤلاء المفترسين الرئيسيين أسراب من أسماك الزامور التي تلتقط الفتات: وهي مناطق مثل إمارة موناكو، وجزيرة جيرزي، وجزر كايمان.

وتؤدي هذه المراكز الأصغر أدواراً مختلفة في لعبة الاحتفاظ بالثروات خارج البلد الأم؛ إذ تتخصص جزيرة جيرزي في عقود التوكيل ثلاثية الأطراف والتي يُوكل عن طريقها أحد الأطراف ملكية شركة أو عقار لطرف ثانٍ عن طريق طرفٍ وسيط، بينما تتخصص جزر العذراء البريطانية في تأسيس الشركات؛ إذ نسبة الضريبة على الشركات فيها 0%، وتتخصص إمارة  ليختنشتاين في المؤسسات التجارية. كما تختلف هذه المراكز في درجة تسامحها مع الجريمة: تعتبر منطقة جبل الطارق أكثر تحايلاً من جزيرة غيرنزي، لكنها أكثر نزاهةً من جزيرة أنغويلا. وتخدم هذه المراكز مناطق جغرافية مختلفة: توفر جزر موريشيوس خدماتها لإفريقيا والهند، بينما كانت تخدم جزيرة قبرص الاتحاد السوفييتي سابقاً، فيما تكرّس جزر البهاما خدماتها للولايات المتحدة.  

وفي عالم الملاذات الضريبية الخارجية، تقع جزيرة نيفيس في قاع السلسلة الغذائية. وتتخصص الجزيرة في إتاحة المجال أمام عملائها لخلق شركاتٍ مع إخفاء بيانات الملكية بدرجةٍ أكبر من أي مكانٍ آخر في العالم. والعام الماضي، تسرّبت معلومات عن 70 ألف شركة مُسجّلة في جزيرة نيفيس، لكن لم يساعدنا هذا في اكتشاف هوية مُلاكها لأن بيانات الملكية سريةٌ للغاية لدرجة أن شركة التسجيل نفسها  بالجزيرة لا تعرفها. وبمعنى آخر، لم يكن هناك شيءٌ جوهري لتسريبه.

من حق الناس الاحتفاظ بأسرارهم!

يبحث البعض عن ملاذ سري لثروته بعيداً عن أعين الضرائب
يبحث البعض عن ملاذ سري لثروته بعيداً عن أعين الضرائب

وقال مارك برانتلي، رئيس وزراء جزيرة نيفيس، وهو أيضاً محامٍ متخصص في الخدمات المالية الخارجية، في يناير/كانون الثاني الماضي: "نشعر بشدة بأحقية الأشخاص في الحصول على شيء من الخصوصية المالية. لمَ ليس من حقك الاحتفاظ بسرّ؟".

ولا تخص هذه الأسرار سكان نيفيس بالطبع، فمن الصعب الاحتفاظ بأي سر لوقتٍ طويلٍ في جزيرة بمثل هذا الحجم الصغير. وتخص هذه الأسرار الأجانب وهي مُخبَّأة من أجانب آخرين، وتحصل جزيرة نيفيس على مقابل مادي لقاء حماية هذه الأسرار.

 ونستطيع معرفة وجود هذه الأسرار بفضل مصلحة تسجيل الأراضي في بريطانيا، التي تطلق جداول بيانات مدرجاً بها جميع العقارات الموجودة داخل إنكلترا ومملوكة لأشخاص خارج البلاد، بالإضافة إلى العنوان المسجل للشركة المالكة للعقار. وتعد بعض هذه الأسرار هي معلومات عادية وقد لا تضم أي شائبة تماماً. على سبيل المثال، من يقف وراء شركة Li Gao Trustees، والتي تأسست في جزيرة نيفيس وتمتلك العقار رقم 13 في منطقة برونزويك غاردينز، والذي يتميز بشرفة جميلة ويقع على مسافة قصيرة من قصر كنسينغتون؟ إن بعض هذه الأسرار مثير للاهتمام: فما السبب الذي قد يجعل مدرسة ابتدائية كاثوليكية في مدينة ليفربول مملوكة لشركة في هذه الجزيرة البركانية الصغيرة الواقعة في البحر الكاريبي؟ وبعضها الآخر غريبٌ تماماً: فمن على وجه الأرض قرر هيكلة ملكيته لغرفة في فندق بشارع نورث براد في مدينة لاندودنو البريطانية عن طريق شركة تحت اسم Caribbean Establishment LLC؟

لكن يستحيل الإجابة عن كل هذه الأسئلة؛ لأن الأسرار محفوظةٌ بشدةٍ في جزيرة نيفيس. وإذا كانت هذه العقارات مملوكة لشركة بريطانية، فإن المالك الحقيقي لهذه الشركة يجب الإفصاح عنه لمصلحة تسجيل الشركات في بريطانيا، وستكون بياناته متاحةً للجميع على الإنترنت. أما إذا كانت هذه العقارات مملوكة عبر شركة في جزر العذراء البريطانية، فإنَّ المعلومات ستكون متاحة للشرطة البريطانية فقط. لكن أي شركة في جزيرة نيفيس هي كالكتاب المغلق، ويحب بعض الناس حقاً بقاء الوضع على هذا النحو.

جزيرة نيفيس تنجو وسط الأمواج

في الوقت الذي شهدت فيه جزر العذراء البريطانية انهيار الشركات التي تؤسَّس بها كل عام، ظل عدد الشركات التي تؤسَّس في جزيرة نيفيس كل عام  مستقراً.  ومنذ 2012، شهد القطاع المالي بالجزيرة نمواً بأكثر من 25% إذ انتقل الأشخاص، الذين لديهم أسرار، إلى مكان لا يزال قادراً على الاحتفاظ بأسرارهم. ويُعد هذا حجةً جيدة تستطيع حكومة برانتلي استخدامها لتبرير عدم السير على نهج جزر العذراء البريطانية عن طريق كشف بيانات تسجيل الشركات وإتاحتها للأجانب. إن الحفاظ على الأسرار يولّد المال.

وقال برانتلي: "لكن حجم هذه الأموال صغير نسبياً، مقارنةً بصناعات الخدمات المالية الأخرى المحيطة بنا. نحصل على إيرادات مباشرة بنحو 5  إلى  5.5 مليون دولار، ببساطةٍ من أتعاب تجديد تأسيس الشركات". وأتعاب التجديد هي ما تدفعه مقابل الحفاظ على تسجيل شركتك. وكلما زاد عدد الشركات المُسجّلة، زادت الأتعاب التي تحصل عليها الجزيرة. وتابع برانتلي: "إذا أخذنا في الاعتبار الأثر الأوسع لتأسيس هذه الشركات – مثل تأجير المساحات المكتبية والتوظيف – سندرك أن لهذا النشاط تأثيرات متعددة على الاقتصاد".

وشرط السرية هذا هو ما يجعل جزيرة نيفيس عقبةً أمام المحققين وسلطة إنفاذ القانون. إذا عجزت الشرطة عن إثبات ملكية شخص ما لشيء ما، فإنهَّا لن تستطيع إثبات أنَّ هذا الشخص حصل على أمواله بطريقةٍ غير مشروعة أو أنَّه تهرب من الضرائب. وهذا تحديداً ما يبحث عنه المحتالون عندما ينقلون أنشطتهم للخارج. ويوجد 300 عقار بريطاني مُسجلة ملكيتها في  نيفيس، ولا يبدي برانتلي أي ندمٍ وهو يدافع عن السرية التي تمنحها جزيرته لمالكي هذه العقارات.

ودافع برانتلي عن السرية التي تمنحها الجزيرة لعملائها قائلاً: "لمَ يتعين على موظف حكومي في لندن، أو أي في مكان آخر، يشعر بفضولٍ تجاه الوضع المالي لجاره، رفع سماعة هاتفه ليقول: أتدري! أريد أن أعرف إذا ما كان جون سميث، وهو جاري، يمتلك حساباً مصرفياً أو شركة في جزيرة نيفيس. لمَ يَعتبر أمراً كهذا من شأنه؟"، مضيفاً: "لماذا قد تكون شؤون جون سميث المالية من شأن أي موظفٍ حكومي في لندن ما لم تكن هناك أي اتهامات ضده بأنه انتهك قانوناً ما في مكانٍ ما؟".

إنَّه تساؤلٌ فلسفي مثير للاهتمام، لكنه أيضاً مشكلةٌ كبيرة. تعترف وتحترم الدول قوانين وسيادة بعضها البعض؛ لذا لدى شركات نيفيس شرعية دولية مثل الشركات الموجودة في أي دولة أخرى. وطالما تُصر جزيرة نيفيس على حرمان الأجانب من حق الوصول إلى المعلومات الخاصة بملكية الشركات الموجودة بها -مهما حاولت المناطق الأخرى فتح وإتاحة بياناتها- سيتمكن الأوغاد من الاستمرار في توجيه نشاط شركاتهم عبر نيفيس لإخفاء أي أثر لتسلسل ملكياتهم. ويعني هذا أن السياسيين الفاسدين، والمتهربين من الضرائب، والمحتالين في أوكرانيا، ونيجيريا، وماليزيا، والولايات المتحدة وأي مكانٍ آخر، سيتمكنون من العبث بموازنات دولهم بما يعود بالفائدة عليهم.

الجزيرة الخلابة ليست دولة مستقلة ولا تحكمها أي دولة أخرى

البركان الذي اقوم عليه الجزيرة كلها
البركان الذي اقوم عليه الجزيرة كلها

لا يبدو أن هناك أي شيء يمكن فعله بشأن جزيرة نيفيس بسبب وضعها الدستوري الغريب، فهي ليست دولة مستقلة ولا تحكمها أي دولة أخرى.

من جهة البحر، تبدو نيفيس كحلمة خضراء مركبة على سطح البحر الكاريبي. إنَّ شكلها متناسق بطريقةٍ أنيقة، فهي عبارة عن بركان استوائي تحاوطه شواطئ ذهبية. وتتساوى مساحتها تقريباً مع حجم مدينة بريستول البريطانية. لكن قمة جبلها أعلى من أي جبل في إنكلترا. وتميل الجزيرة في مركزها لتأخذ مساراً تصاعدياً، فالأرض مسطحة إلى حد ما عند حانات الشاطئ بين أشجار النخيل، لكنها تنحدر في الطريق لأعلى؛ حيث يصبح غطاء الأشجار أكثر كثافةً. وإذا ما تسلقت لقمة الجبل، ستكون في غابة مطيرة حقيقية، وستجد نفسك يحدق بك قرودٌ متدليةٌ من الأشجار.

إنَّه مكانٌ رائعٌ، كثيراً ما يرتاده أشخاصٌ مشهورون

 في بداية الأسبوع الجاري، قال الممثل الإنكليزي جون كليز لبرنامج "Newsnight": إنَّ الكيل طفح به بسبب الطريقة التي تُدار بها بريطانيا، وإنَّه سينتقل إلى نيفيس إلى الأبد. وتابع: "هي واحدة من ألطف الجزر التي زُرتها على الإطلاق. فالأطفال والكبار متعلّمون جيداً، والطقس جيد طوال العام. أنا محظوظٌ للغاية".

كانت الجزيرة مركزاً كبيراً لمزارعي قصب السكر وتجار الرقيق في بريطانيا سابقاً، لكنها ذهبت في غيابة الجب خلال القرن الثامن عشر عندما تفوقت عليها مناطق أخرى أكبر حجماً وأكثر خصوبةً. وفي القرن التاسع عشر، ضمتها بريطانيا لجزيرة سانت كيتس لأسبابٍ إدارية، وكانت بمثابة النصف الأصغر من اتحاد سانت كيتس ونيفيس حتى استقلت عام 1983.

عندما توجه الاقتصاد العالمي نحو الكاريبي

كانت ثمانينات القرن الماضي فترة ازدهار بالنسبة لجزر الكاريبي؛ إذ اتجه الاقتصاد العالمي صوب سياسة الانفتاح ووجدت سُلطة إنفاذ القانون نفسها في موقفٍ مفاجئ؛ إذ لم تكن مستعدة للتعامل مع الوضع الجديد. نقل المتهربون من الضرائب وتجار المخدرات مليارات الدولارات بالطائرات إلى أماكن، مثل جزر كايمان وأنغويلا، وخبّأوها في حسابات مصرفية مملوكة لشركات قشرية، يصعب تتبع تسلسل ملكيتها، ثم استثمروا هذه الأموال في شراء عقارات بولاية فلوريدا، وجنوب فرنسا، ومدينة نيويورك.

في عام 1984، سأل بيل برنارد، وهو محامٍ أميركي كان يحب قضاء عطلاته في نيفيس، رئيس وزراء الجزيرة إذا كان مهتماً بالدخول في لعبة المراكز المالية الخارجية. كان سايمون دانيال، أول رئيس وزراء للجزيرة، حراً في فعل ما يحلو له بفضل الحكم الذاتي الكامل الذي تنعم به نيفيس بموجب الدستور الفيدرالي لسانت كيتس ونيفيس. وافق دانيال على اقتراح برنارد، وأقر قوانين السرية وتأسيس الشركات الذي صاغه المحامي الأميركي، ومنح شركة برنارد Morning Star Holdings الحق في أن تكون الوكيل الحصري لإنشاء الشركات في الجزيرة. كان الأمر مربحاً لكليهما. (ولم تعبر أي من شركة  Morning Star Holdings أو برنارد عن رغبتهما في التعليق على هذا المقال).

في البداية، وجدت نيفيس صعوبةً في منافسة مناطق، أسست اسمها بالفعل ضمن المراكز المالية الخارجية، يرجع الأمر جزئياً إلى عدم امتلاكها أي ميزة خاصة بها.

اقتبس برنارد وفريق محاميه الأميركيين قانونهم من ولاية ديلاوير الأميركية التي تقدم خدماتها كملاذٍ ضريبي داخل الولايات المتحدة، عن طريق تخفيف حدة تشريعاتها وفرض ضرائب أقل من الولايات الأخرى؛ لذا لم يكن هناك سبب وجيه للبحث في جزيرة بعيدة عن خدمات يمكن أن تحصل عليها بسهولة في مكانٍ آخر.

يقول ديفيد نيوفيلد، محامٍ من ولاية نيوجيرسي وخبير في هيكلة الشركات والضرائب الدولية: "كانت الجزيرة ناجحة فيما تفعله بكل تأكيد. لكنها لم تكن في مستوى جزر العذراء البريطانية أو كايمان على الإطلاق".

عادت الجزيرة واستعادت نفسها

عندما انتهى احتكار برنارد في عام 1994، استغلت نيفيس الفرصة لتستعيد ذاتها. وكان نيوفيلد يعمل بالفعل مع برنارد، وطُلب منه مساعدة نيفيس في تنويع الخدمات التي  تُقدمها. فالملاذات الضريبية تقترض دائماً الأفكار من بعضها البعض، وتسعى إلى تحسين القوانين التي تُثبت شعبيتها، وقد أدت هذه العملية تدريجياً إلى زيادة السرية التامة، وتقليل الضرائب، وتخفيف القوانين. واتجه نيوفيلد للنظر إلى الولايات المتحدة للحصول على إلهامٍ، وبالتحديد إلى ولاية وايومنغ، التي اخترعت الشركة ذات المسؤولية المحدودة، وهي بنية هجينة مفيدة سمحت للناس بتجنب تحديد الهوية والضرائب في نفس الوقت، بالإضافة إلى تقديم منافع أخرى.

وتجعل الشركات ذات المسؤولية المحدودة من الصعب على الدائنين معرفة أصولك، وهو الأمر الذي يُساعد الأثرياء أيضاً على تجنّب دفع التعويضات في حال خسروا دعوى قضائية. وقد يكون لدى دائنيك حُكم قضائي ضدك، ولكن إذا لم يتمكنوا من العثور على ممتلكاتك، فسوف يقبلون بـ50 سنتاً على الدولار للانتهاء من الخلاف القانوني. ويُطلق المحامون على هذه العملية حماية الأصول.

الولايات المتحدة لا تملك سلطة قضائية على أي شيء مملوك للجزيرة

ولكن في الولايات المتحدة، من الصعب إخفاء الملكية؛ لأنَّ المحاكم يُمكنها أن تأمر بالكشف عن المعلومات. ومن الواضح أنَّ هذه المحاكم ليست لها ولاية قضائية في نيفيس، وهو الأمر الذي جعل فكرة النسخة الكاريبية من الشركة ذات المسؤولية المحدودة جذابة للغاية.

صورة بالأقمار الصناعية للجزيرة
صورة بالأقمار الصناعية للجزيرة

وقال لي نيوفيلد: "في عقلي، كنت أحاول إنشاء شركة ذات مسؤولية محدودة للولاية (الأميركية) رقم 51. إذا رأيت نفسك كشخص يمكن أن يتعرض لنوع من الدعاوى القضائية المفترسة؛ حيث يشعر الناس أنَّ لديك أصولاً مكشوفة (للعلن)، فهذا يمنحك فرصة لحماية أصولك".

بعبارات بسيطة.. تسمح قوانين نيفيس للأغنياء بوضع أسوار حول ممتلكاتهم، لحمايتها من شخص قد يرغب في استخدام المحاكم لأخذها منهم، سواء كان ذلك شريكاً تجارياً، أو زوجاً، أو طفلاً بعياًد، أو أي شخص آخر بالتأكيد. جميع الملاذات الضريبية تفعل ذلك، ولكن نيفيس غالت أكثر من منافسيها في إجراءاتها، في ظل جهودها لإغراء الأعمال التجارية لهجر منافسيها.

ولاتخاذ إجراءات قانونية في نيفيس، يجب عليك تقديم سند بمبلغ 100 ألف دولار للمحكمة، كدليل على أن قضيتك ليست تافهة. إذا ربحت في تلك الإجراءات، فهذا ليس سوى بداية سعيك للحصول على الأصول. لا يحمل مُنظم نيفيس أي معلومات حول ملكية الشركة أو أصولها. لا يمكن الإضرار بشركات نيفيس ذات المسؤولية المحدودة، وهو ما ابتكره نيوفيلد؛ مما يعني أنَّك لن تكون قادراً على مصادرة أي أصول تمتلكها هذه الشركات، وسيتعين عليك طلب التعويض في مكانٍ آخر. إذا كنت تسعى إلى الطعن في قانونية ملكية وُضعت في وديعة مُسجلة في نيفيس، على سبيل المثال، إذا كنت تعتقد أن الملكية هي خاصتك بالفعل، عليك أن تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ عملية إنشاء الوديعة كانت تنطوي على احتيال، وسيكون عليك البدء في هذا التحدي القانوني في غضون عام من إيداعها. هذا أمرٌ صعبٌ؛ لأنَّ قانون نيفيس يتطلب أن تكون جميع المعلومات المتعلقة بالوديعة سرية؛ لذلك من غير المرجح أن تكون على علم بوجودها.

يقولون إنها حماية وليس إخفاء للممتلكات

وليس الهدف من هذه الدفاعات الهائلة السخيفة استخدامها حقاً، ولكن بدلاً من ذلك، مثل الألوان البراقة لضفدع سام، فهي موجودة لتحذيرك من الهجوم في المقام الأول. إذا كان باستطاعة تلك الدفاعات إقناع المُدَّعي بالتساوي خارج أروقة المحكمة بأقل من المُستحق، فبالنسبة إلى شخص غني لديه أصول ضعيفة، هذا أمرٌ يستحق الدفع من أجله.

وقال لوري لورانس، الذي تقاعد منذ عامين، بعد عقدين أمضاهما سكرتيراً دائماً لحكومة نيفيس: "لا أحب كلمة "خفية". إنَّها محمية وليست مخفية. لا يوجد شيء لإخفائه. انظر إلى الأمر من الناحية الأخرى، الكثير من النساء يركضن وراء المال. أنتِ متزوجة من رجل لا تُحبينه حقاً، ولكن لديه المال. يجد الناس طرقاً ووسائل لحماية أصولهم".

ربما هذا هو السبب في أن شخصاً ثرياً قد يرغب في امتلاك منزل في منطقة كنسينغتون بإنكلترا (أو، بالتأكيد، غرفة فندقية في خلنددنو في شمالي ويلز في المملكة المُتحدة) عن طريق شركة في نيفيس أو أي كيان آخر، فهو يمنع زوجة مُطلقة، أو أي دائن آخر، من الوصول إلى تلك المُمتلكات، دون عملية قانونية مُضنية. وأخبرني جيفري فيشر، أحد أبرز مُحامي الطلاق في أميركا، خلال محادثة عبر الهاتف من ويست بالم بيتش في ولاية فلوريدا الأميركية: "بدأت كيانات نيفيس في الظهور منذ حوالي 12 عاماً، وتتزايد في ظل انتشار متزايد".

وقال فيشر: "أنا مُدَّعٍ عام سابق، وعلى دراية بالطرق التي يُخفي بها الناس المال، وما سيفعلونه. وطريقتي في الحصول على الأصول الموجودة في كيانات حماية الأصول مثل شركة ذات مسؤولية محدودة بنيفيس، هي أنَّك لا تذهب إلى نيفيس وتحاول إخراج المال، فهي مؤسسة متهورة. لقد أقرّوا قوانين وأنشأوا كيانات لوقفنا ولِجَعلها مُكلفة وجعلها تستغرق سنوات وسنوات وسنوات. ما نفعله هنا هو أنَّنا نستخدم بعض الطرق الأكثر إبداعاً، لعدم وجود مصطلح أفضل، لجعلهم يسلمونها بأنفسهم".

صناعة حماية الأصول

ويعتمد نهج فيشر على استهداف الممتلكات والحسابات المصرفية في الولايات المتحدة، لجعل حياة خصومه مُرهقة للغاية، بحيث يتوسلون في نهاية المطاف إلى الوصول لتسوية، وهو بارع للغاية في فعل ذلك. والمشكلة هي أنَّ أي شخص لا يستطيع تحمل تكاليف توظيف إخصائيين باهظي الأجر مثل فيشر، ليس لديه أي أمل في العثور على المكان الذي وضع فيه أزواجهم ممتلكاتهم، ناهيك عن أخذ حصة عادلة منهم بالقوة. عليهم أن يقبلوا بما حصلوا عليه، فلا يوجد محكمة يمكنها مساعدتهم.

وأضاف فيشر: "عليك أن تدرك أن صناعة حماية الأصول تُقدَّر بتريليونات الدولارات، وليس مليارات الدولارات، إنَّها تريليونات من الدولارات. بشكلٍ أساسي، إنَّ الأمر يتلخص في أنَّنا سنجد طريقة لخداع الدائنين الشرعيين وإخراجهم من تجميع دين مشروع. هذه هي التجارة التي يعمل بها هؤلاء الناس".

وبرانتلي، رئيس وزراء نيفيس، مُتقن ولديه حماس للدفاع عن الحصون التي تبنيها نيفيس للأثرياء الذين يبحثون عن حماية أصولهم من الدائنين. وقال برانتلي عندما التقينا في مكتبه فوق التل بالقرب من شارلستون، عاصمة جزيرة نيفيس: "كل ما تفعله هو أنَّك تقول إنَّك بصدد إنشاء صندوق مُقفل، إذا جاز التعبير، إذا كنت تريد حماية أصول. ويحمي الناس أصولاً لأسباب متنوعة. وليس دائماً للابتعاد عن طلاق مُعلَّق".

وتكمن المشكلة في أنَّك عندما تنظر إلى ما هو أبعد من قضايا الطلاق، يبدأ نموذج أعمال نيفيس في الظهور بشكلٍ أسوأ. إنَّ النظام المالي في نيفيس بدائي بالمقارنة مع الملاذات الضريبية الكبيرة، مثل جيرسي، أو جزر كايمان، التي لديها شركات محاسبة كبيرة، ومُديرو موارد مالية، وبنوك كبيرة، وغيرها من الشركات العملاقة العالمية. في نيفيس، هناك القليل من المال الثمين لأي شخص ليتجنَّب فرض الضرائب عليه. إلا أنَّها ليست ملاذاً حقيقياً من الضرائب على الإطلاق، بقدر ما هي ملاذ من أي نوع من التدقيق. فقد استغل مُحتالون من جميع أنحاء العالم القوانين نفسها التي تروق لنوع الرجال المتوترين والأثرياء، الذين يريدون إخفاء ممتلكاتهم من زوجاتهم، بشكلٍ منتظم.

نيفيس متورطة في أكبر عملية تزوير في بريطانيا

تضمَّنت أكبر عملية تزوير ضريبي في تاريخ بريطانيا، التي حُبس فيها خمسة رجال في نوفمبر/تشرين الثاني، بعد محاولة لخداع وزارة الخزانة البريطانية، للتهرب من ضرائب بقيمة  107 ملايين جنيه إسترليني، شركات مُسجلة في نيفيس، التي كانت تُساعد على إخفاء هوية المُحتالين. في حين استخدمت عائلة رئيس سابق لتايوان شركة ائتمان في نيفيس لمساعدته في إخفاء ملكيتها لممتلكات أميركية مُكتسبة بطريقة غير شرعية. واستخدم رئيس أوكرانيا المخلوع فيكتور يانوكوفيتش كيانات في نيفيس لإخفاء الأصول التي سرقها، كما فعل المسؤولون الفاسدون الروس، الذين سرقوا 230 مليون دولار من الميزانية عام 2007. (عندما كشف المحاسب سيرغي ماغنتسكي عن عملية الاحتيال، اعتقلوه وتركوه ليموت في السجن). وحوَّل التاجر البريطاني نافيندر ساراو، الذي اعترف بأنَّه مُذنب بالاحتيال بسبب مساعدته في حادث سقوط البورصة الأميركية، والمعروف باسم Flash Crash عام 2010، بعض أرباحه إلى كيان في نيفيس، يُسَّمى NAV Sarao Milking Markets Fund.

الجزيرة تتفوق على غيرها من حيث حجب الأسرار

عدد سكان الجزيرة قليل جداً
عدد سكان الجزيرة قليل جداً

ووفقاً لـTax Justice Network، وهي مجموعة دفاع مُستقلة، تتفوق نيفيس في حجب الأسرار على جميع المراكز الخارجية التقليدية: جزر العذراء البريطانية، وسويسرا، وجزيرة غيرنزي، وجزيرة مان، ولوكسمبورغ، وحتى تلك المراكز التي تأتي في آخر اللائحة مثل دولة بليز، وجُزر كوك. ويعوق حماسها للأسرار جهود الدول الأخرى في فرض الشفافية.

ولترى كيفية ذلك، عليك النظر فقط إلى بريطانيا. من الناحية النظرية، كان من الممكن دائماً معرفة من هم مُساهمو الشركة البريطانية، ولكن حتى وقتٍ قريب كانت هناك ثغرة. إذا كانت شركة مملوكة من الخارج، يمكن للمُساهمين الحفاظ على عدم الكشف عن هويتهم. ولمحاربة هذا، سنَّت الحكومة عام 2016 قانوناً يُلزم الشركات البريطانية بإعلان هوية مالكها الحقيقي أو مالكيها الحقيقيين، وهو أي شخص يتحكم بشكل كبير في الشركة. (وتعريف ذلك: هو الشخص الذي لديه تحكم بشكل كبير، والذي يملك أكثر من 25% من الأسهم أو حقوق التصويت في شركة، وله الحق في تعيين أو إقالة غالبية أعضاء مجلس الإدارة، أو لديه حق القيام بمُمارسات ذات تأثير أو تحكمات كبيرة). هذا النظام الجديد ليس مثالياً، ليس فقط لأنَّ مصلحة تسجيل الشركات البريطانية لا تتحقق من المعلومات المُقدمة إليها، ولكنها خطوة باتجاه الشفافية الكاملة، وجزء من التزام بريطانيا بوقف استخدام شركاتها للتمكين من التهرب الضريبي والكليبتوقراطية.

إلا أن البحث في موقع مصلحة تسجيل الشركات يكشف عن كيفية تمكن نيفيس من إبطال هجوم بريطانيا على السرية. على سبيل المثال، لقد صادفت ثلاث شركات تضامنية محدودة المسؤولية مؤخراً، وكلها مملوكة لنفس الشركتين من نيفيس، وهما، Tallberg، وUniwell. ووفقاً للبيانات التي جمعها Organised Crime and Corruption Reporting Project أو "مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد"، فإنَّ إحدى هذه الشركات التضامنية محدودة المسؤولية تسيطر على حساب بنكي في دولة لاتفيا، والذي يُستخدم في مُخطط لغسل الأموال، فيما لم تتورط الشركتان الباقيتان في أي مخالفات (وكذلك Tallberg  وUniwell).

ووفقاً لمصلحة تسجيل الشركات، فإنَّ الشركات التضامنية محدودة المسؤولية الثلاث، لديها هيكل الملكية نفسه، مما يعني أنَّ الشخص أو الأشخاص الذين لديهم تحكم كبير في هذه الشركات يجب أن يكونوا أنفسهم في الشركات الثلاث. ولكن، وبشكلٍ غامض، كل شركة تضامنية محدودة المسؤولية مُقيدة في السجلات بأنَّ لديها شخصاً ذا تحكم كبير مُختلف عن الأخرى. هذا الأمر يُعد مُمكناً من الناحية الفنية، لكنه بعيد الاحتمال. ولكن ليس لدينا أي وسيلة لمعرفة الحقيقة، بما أنَّ نيفيس لا تتعاون مع بريطانيا في السماح لضُباط إنفاذ القانون بمعرفة من يمتلك حقاً الشركات في نيفيس مثل Tallberg وUniwell. هذه الشركات التضامنية محدودة المسؤولية الثلاث ليست أمثلة معزولة، فشركتا Tallberg وUniwell وحدهما تمتلكان العشرات من الشركات البريطانية، وهناك العديد من شركات نيفيس الأخرى مثل هاتين الشركتين.

قانون الإفصاح لا فائدة منه

ويُعتبر القانون الجديد لبريطانيا الذي يفرض الإفصاح عن المالكين الحقيقيين لا فائدة له إذا كان يمكن إخفاء هذه الملكية في نيفيس. وهذا هو السبب في تورط الشركات الموجودة في نيفيس، ولكنها مسجلة في بريطانيا، التي ليست لها ملكية واضحة، في العديد من عمليات الاحتيال الضخمة لغسل الأموال في أوروبا الشرقية، والتي عرفت مُجتمعة باسم "Laundromats" أو "المغاسل"، والتي نقلت عشرات المليارات من الدولارات خارج الاتحاد السوفيتي سابقاً. ويمكن لملكية نيفيس أن تحول ما يُفترض أنَّها شركة بريطانية واضحة إلى أداة تتمتع بسرية لديها درجة الشر نفسها، الموجودة في أي شيء على وجه الأرض.

وعلى حد تعبير جاك بلوم، المُحقق المخضرم في الفساد، والذي عمل لدى الأمم المتحدة ومجلس الشيوخ الأميركي: "إذا اكتشف أحدهم أن هناك شركة من نيفيس متورطة في عملية احتيال، وذهبوا إلى نيفيس، فإنَّهم يستطيعون إغراق مجلس الإدارة بأكمله، ولا أحد سيعرف أي شيء".

كيف تبدو هذه الجزيرة؟

تشارلز تاون مكانٌ بديع، يتألَّف من شارع ممتد به مبانٍ مُكونة من طابقين بالتوازي مع الشاطئ، ويضم العديد منها شرفة في الطابق الأرضي لالتقاط نسيم البحر. ومع ذلك، فالميزة الأكثر بروزاً هي وجود عدد كبير من اللافتات الإعلانية لمحامين، ومحاسبين، ومُديرين. وتضم ضاحية إلفراكومب في ديفون، والتي يقطنها 11 ألف مواطن، مكتبي محاماة، وشركة تأمين، ومجموعتين من المحاسبين، بالإضافة إلى فرع مصرف لويدز البريطاني، وشركة نيشن وايد الأميركية. وبخلاف ذلك، يحتضن سكان جزيرة نيفيس ستة مصارف محلية، واحداً دولياً، و18 من شركات التأمين، و7 كيانات تأمين دولية، و4 مؤسسات للخدمات المالية، و58 من الوكلاء المُسجلين، غالبيتهم من المؤسسات القانونية. رُبما تكون جزيرة نيفيس هي المكان الأكثر إلماماً بمن يمتهنون المحاماة على الأرض.

حين تنزل من العبَّارة، فأول مسكن تراه هو مبنى Henville، وهو المنزل الرمزي لإمبراطورية الأعمال التجارية للعائلة الأذربيجانية الأولى. إذا استدرت بعدها يميناً عند نقطة التقاء طريقين على شكل "T"، فسترى مبنى إديث سولومون (برغم أن اللافتة التي تحمل اسم المبنى فقدت اثنين من حروفها)، والذي استضاف شركة قروض في ولاية أيداهو، والتي أغلقتها حكومة الولايات المتحدة عام 2012 لمزاولتها العمل بدون ترخيص. وبالكاد على بُعد 100 متر في الاتجاه المُعاكس في الشارع الرئيسي يقع مكتب شركة Morning Star Holdings، رواد البحرية في جزيرة نيفيس.

محاولة الوصول إلى عنوان.. الحذر والحيطة من السكان

كاتب المقال كان حريصاً على إيجاد العنوان المُسجَّل لشركتي Tallberg وUniwell، اللتين نجحتا في التغلب على قانون الشركات في بريطانيا، على أمل -شبه يائس- في التمكُّن من العثور على شخص يمكنه تقديم معلومات عنهما. كان العنوان المُسجل هو نفس عنوان شركة Nevis   International Trust Company (NITC) والتي، وفقاً لموقعها الإلكتروني، لن تُزودك فقط بشركةٍ قشرية، ولكن أيضاً بمديرين ومساهمين مُرشحين، ما يؤدي بالضرورة إلى حجب مشاركتك بها، بالإضافة إلى منحك حساباً مصرفياً، وبطاقة ائتمان، وحساباً لتداول الأسهم. وبحسب ما يعرضه الموقع الإلكتروني فإنَّ: "جزيرة نيفيس هي موقعٌ ممتاز من أجل: السرية، والتخطيط للتصرف في الممتلكات، وحماية الأصول، وتخطيط تخفيض الضرائب، حيازة (عقد) الاستثمارات، وملكية الحقوق والترخيص".

 كان يملك عنواناً لمكتب شركة NITC، ولكن لم يرشده أي من قاطني الجزيرة إليه. قضى يوماً صعباً، وحاراً ومتعطشاً في البحث عنه، وحين تمكَّن أخيراً من الوصول عبر الهاتف، لم تقدم له المساعدة؛ إذ أخبر السيدة التي أجابت على الهاتف، بعد رفضها مساعدته: "أنا لستُ سارقاً"، لتجيبني: "كيف يتسنَّى لي معرفة هذا؟".

وللإنصاف، كانت تملك سبباً وجيهاً لعدم الحديث؛ فوفقاً لقانون عام 1985، فأي شخص يكشف عن معلوماتٍ مالية دون أمر من المحكمة يخضع لعقوبة السجن لمدة تصل إلى العام، فضلاً عن دفع غرامة مالية قدرها 10 آلاف دولار. هذا نطاقٌ آخر تقاوم به جزيرة نيفيس الاتجاه نحو الانفتاح. (كان لدى جُزر الكاريمان في السابق قانون مماثل لخرق السرية، ولكنَّه أُلغي عام 2016).

 حين حاول مهاتفة المكاتب المسجلة لشركتي Tallberg وUniwell، رفض موظف الاستقبال حتى أن يُخبره العنوان، لذا لم أتمكن من زيارة الشركتين. وحين أرسل بريداً إلكترونياً إلى NITC لم يتلق رداً. وفي النهاية، كان عليه قبول استحالة إجراء اتصالٍ معهم، ما يعني أنَّ معلومات الملكية الحقيقية للشركات الثلاث كانت غير قابلة للكشف.

لا الشرطة ولا الصحافيون يمكنهم الوصول لمعلومات

هنا يمكنك الإطمئنان إلى على أموالك
هنا يمكنك الإطمئنان إلى على أموالك

ليس الصحافيون فقط هم العاجزين على التحقق من دقة المعلومات المالية الخاصة بجزيرة نيفيس بأنفسهم؛ فحتى الشرطة الأجنبية لا يتسنَّى لها فعل هذا أيضاً. ويعني هذا أنَّنا جميعاً نعتمد على اللجنة المنظمة للخدمات المالية في نيفيس للقيام بذلك. يقع مقر اللجنة في مكتب في وسط حي شارلستون، وتُديره هيدي لين سوتون، وهي المُنظمة الرئيسية، والتي تعمل في مكتب في الطابق الأول.

بدأت هيدي إدارة الحوار بشكلٍ عدائي، وأصبحت أقل لطفاً مع تقدم محادثتنا التي استغرقت 45 دقيقةً، وتزايدت حدة أسلوبها. ورفضت بشكلٍ قاطع وصف وزارة الخارجية الأميركية لنيفيس بأنَّها "موقعٌ جاذب للمجرمين لإخفاء عائداتهم المالية". وقالت ببساطة إنَّ الحديث حول امتلاك نيفيس حساباتٍ مصرفية مجهولة، وسرية التعاملات المصرفية، وسجل الشركات غير الواضح، هو ببساطة أمرٌ كاذب.

 كان ما قالته أمراً غريباً؛ إذ ينص موقعها الإلكتروني على أنَّ مالكي الحسابات المصرفية في الجزيرة ليسوا مُلزمين بتقديم أي "إفادةٍ، أو بيانٍ، أو معلومات إلى الجهة التنظيمية أو الوزير". ومع ذلك، دافعت هيدي عن نيفيس ضد كل ما قيل من ادعاءاتٍ، أياً ما كانت خطورتها. على سبيل المثال، كانت التكلفة الباهظة لرفع الدعاوى في محكمة نيفيس هي ببساطة لحماية النظام القضائي (نظام العدالة) من "قصفه بدعاوى قضائية طائشة"، بدلاً من حماية الأثرياء. وأضافت هيدي: "تلك هي طريقتنا في التطهير. فبعض الدول مُحبة للنزاع للغاية؛ إذا حرقت يدك جرَّاء انسكاب بعض قطراتٍ من قهوة ماكدونالدز عليها، سيُقاضيك شخص ما".

 حين شرح كاتب المقال الصعوبة التي واجهها ليتمكن من العثور على مركز NITC، ضحكت هيدي، مُتسائلةً لماذا تبحث عنه. أوضح أنَّه كان يأمل في اكتشاف المالك الفعلي للشراكات المحدودة المسجلة لدى بريطانيا. وحين سألها عما إذا كان لجنة المنظمة التي تُديرها قد فشلت في ملاحظة عدد من مخططات غسل الأموال الأخيرة، قالت ببساطة: "لا أستطيع التحدث عن هذا الأمر، فأنا حقاً لا أستطيع التحدث عنه".

وماذا عن حقيقة أنَّ الأسر الحاكمة السابقة في تايوان وأوكرانيا، فضلاً عن المحتالين الأقل أهمية في شتى أنحاء العالم، قد استخدموا آليات نيفيس لإخفاء ملكية أصولهم المسروقة؟ ضحكت هيدي مرةً أخرى، وقالت: "لا يمكنني قبول أنَّه كان هناك استخدام مُتعدد لكياننا لتسهيل أي شيء. لا يمكنني قبول سماع هذا منك. لن يُمكنني التحدث عن هذا الأمر".

لكن.. هل هذه الجزيرة نزيهة؟

إذا كانت الجزيرة نزيهة تماماً، فلماذا أنشأ المُتصيدون عبر الإنترنت الراغبون في تشويه سمعة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل الانتخابات الفرنسية العام الماضي وثائق مزيفةً رُبما توضح امتلاكه شركة وهمية في نيفيس؟ أليست هذه إشارةً إلى أن الصناعة التي تُشرف عليها هيدي لديها سمعة سيئة؟ أجابت هيدي قائلةً: "يختلق الناس الأمور طوال الوقت. بمجرد أن تًصبح مركزاً مالياً دولياً، تُقدم خدمات بعينها، ستكون هدفاً للشائعات على الدوام، ولا يعني هذا أنها صحيحة".

 أمضى الكاتب معظم السنوات الأربع الماضية في البحث حول الجرائم المالية، ولطالما تحدث إلى عشرات المنظمين والمحققين في سلطاتٍ قضائية عدة، ولكن لم يسبق له أبداً أن التقى شخصاً يرد بهذا الأسلوب على مزاعم الفساد الضخم، وغسل الأموال، والاحتيال التي كنت أطرحها ضد السلطة القضائية لنيفيس.

التغيير بيد الأجانب وليس السكان المحليين

كأي مركز مالي آخر، يتوجّب على جزيرة نيفيس الاختيار بين إبعاد الأموال المشبوهة، أو جذب عدد أكبر من الأعمال إليها. ولم أجد زيارتي إلى نيفيس مُطمئنة.

وبما أنَّ المسؤولين في جزيرة نيفيس يشعرون بالرضا حيال الوضع الحالي، فالأمر متروك للأجانب؛ لإجبارهم على إحداث تغييراتٍ في الجزيرة، ومع الأسف –بفضل الاختصاصات الدستورية لاتحاد سانت كيتس ونيفيس- فهذا كله مستحيل. نحن نعلم هذا؛ لأنَّه جُرِّب في السابق.

 وعام 1995، في انتخاباتٍ أُجريت على مستوى الاتحاد، حصل حزب عمال سانت كيتس ونيفيس باكتساحٍ على سبعة مقاعد من أصل 11 مقعداً، وأصبح رئيسه، دينزل دوغلاس، رئيساً للوزراء. لم يكن يملك أي مقاعد في نيفيس، لكنَّه لم يكن بحاجة إليها لتمرير القوانين للاتحاد بأكمله. وكان من أولوياته تقييد القطاع المالي الدنيء في نيفيس.

ومن جهته، قال دوغلاس حين التقينا في مكتبه في باستير، عاصمة الاتحاد، التي تقع في سانت كيتس: "كنا على دراية بأنَّ المجتمع الدولي قد بدأ التجهم من نيفيس، وعلى الخدمات المالية الدولية التي تفتقر للتنظيم الانضباط، ولا تخضع للإشراف.. إلخ، ولقد سعينا وراء سن تشريعات وقوانين جديدة؛ لذا أجرينا استفتاء شعبياً".

 يسمح الدستور الاتحادي لجزيرة نيفيس بإجراء استفتاءٍ حول الانفصال كلما أرادت، وهكذا، وفي عام 1998، وبسبب الانزعاج من محاولة دوغلاس كبح محاميها، أقدمت على هذا. وصوَّت 62% من سكان نيفيس لصالح الانفصال عن جيرانهم، وهي نسبة لم تكن كافيةً للوصول إلى ثلثي الغالبية التي يقتضيها الدستور، لكنَّها تكفي لجعل دوغلاس وحكومته يتراجعان. وقال دوغلاس: "لا تملك الحكومة أي خيار؛ لأننا جربنا من قبل".

ضغوطات وتنازلات لكنها لم تؤثر في الواقع

وعام 2000، أدرجت فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية –وهي مجموعة مقرها باريس شكّلتها مجموعة الدول الصناعية السبع لتطوير سياسات ضد عمليات غسل الأموال- اتحاد سانت كيتس ونيفيس بأكمله في القائمة السوداء، باعتباره واحدة من بين 15 دولة غير مُتعاونة. وهو ما أجبر نيفيس على الموافقة على تشريعٍ اتحادي، لكنَّه لم يُغير الديناميكية الأساسية؛ إذ حصلت على استقلاليةٍ تفوق تلك التي حصلت عليها اسكتلندا داخل المملكة المتحدة، وبطريقةٍ ما، أكبر من تلك الخاصة بالولايات الأميركية منفردة. وهو ما دفع أحد المختصين الماليين في العاصمة باستير إلى تشبيه العلاقة بين نيفيس وسانت كيتس بمراهقٍ لديه إمكانية الوصول إلى بطاقة ائتمان أخيه الكبير.

وحتى لو لم يكن الرئيس الأول برانتلي ملتزماً أيديولوجياً ببيع السرية للأثرياء الأجانب، فإنَّ إحصائيات حكومته توفر له الكثير من الأسباب التي تجعله يُفضِّل البقاء على النظام المبهم لتسجيل الشركات وفقاً لأسسٍ نفعية بحتة؛ إذ شكَّلت رسوم تأسيس الشركات وتجديد تسجيلها أكثر من 16% من عائدات حكومة نيفيس عام 2015، بعد أن كانت تُشكل نسبة أقل من 12% عام 2014.

  لا تنطبق على نيفيس أي من الأدوات التي استخدمتها الدول الكبرى ضد الملاذات الضريبية مثل سويسرا أو جزيرة جيرزي –كالضغوط الدبلوماسية والإجراءات القانونية ضد المصارف البنكية وما إلى ذلك. فهي جزءٌ من بلد مستقل تماماً (بخلاف جزر العذراء البريطانية أو منطقة جبل طارق) والشركات التي تُقدم خدماتها (بخلاف المصارف السويسرية التي تستهدفها وزارة العدل الأميركية) ليست كبيرة بما يكفي للخوف من فقدان مكاتبها في الولايات المتحدة.

 ستضطر الدول الغربية الكبرى إلى توجيه انتقاداتها إلى جزيرة نيفيس عبر القنوات الدبلوماسية، إذا كانوا يرغبون في أن تُغير أساليبها. حصل برانتلي على رد انتقامي في البداية، وبرغم   ذلك، اتهم الحكومة البريطانية بالنفاق.

 "لا يخفى على أحدٍ أنَّ بريطانيا، ولندن بالأخص، لديها عدد مُفرط من الروس الأثرياء، على سبيل المثال، ونُخبة من الأثرياء من مختلف أنحاء العالم، والسؤال هو: لماذا؟ لا يمكن أن يكون هذا بسبب الطقس. إذن، لماذا يندفع الناس نحو لندن؟ وإذا كانت بريطانيا قادرة على فعل ذلك، فكيف هو الأمر بالنسبة للدول الأخرى، التي ليست حبيسة مثل بريطانيا التي تحاول الوقوف على قدميها؟".

 المسألة هي أنَّه إذا كانت كل سلطة قضائية لا تفكر إلا في كيفية الوقوف على قدميها –سواء كانت بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد السوفييتي، أو نيفيس، أو ولاية وايومنغ- فسنسقط جميعاً  كل على حدة على يد المحتالين واللصوص في العالم. برانتلي مُحقٌّ في أنَّ جميعنا بحاجةٍ إلى فعل المزيد لمُحاربة الفاسدين والمحتالين، ولكن من خلال حفظ أسرار الأثرياء، وكسب الأموال منها، فإنَّ جزيرة نيفيس تمنع بقيتنا من المُضي قدماً.

علامات:
تحميل المزيد