بمشيته العسكرية الصارمة وحركاته المضبوطة كان الفريق أحمد قايد صالح يستعرض فيلقا من فرقة الشرف التابعة للجيش الجزائري وهو يشرف على انطلاق أكبر مناورة تخوضها القوات البرية والبحرية والجوية في شواطىء مدينة وهران شرق البلاد تحت اسم طوفان 2018.
فمع تواري الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن الأنظار بسبب المرض الذي أعجزه عن العمل الميداني منذ 2013، ازداد ظهور نائب وزير الدفاع الوطني قائد أركان الجيش الوطني الشعبي ، في أشغال أمنية رسمية ومناورات عسكرية متتالية وبخطابات مطمئنة للجزائريين بشأن أمن البلد وسلامته.
وتحوَّل قايد صالح، مع توالي الأحداث والتغييرات الكبرى بالمناصب العليا في مفاصل الدولة الجزائرية، من مجرد قائد عسكري رفيع إلى واحد من أبرز صناع القرار في البلاد، ورغم تأكيده المستمر عدم التدخل في الحياة السياسية والالتزام بالمهام الدستورية للجيش، فإنه من الصعب تجاوزه في تحديد مستقبل رئاسة الجزائر.
وتعددت التكهنات بين من يرى فيها صانعاً للرئيس الجزائري المقبل أو داعماً شرساً للعهدة الخامسة لعبد العزيز بوتفليقة، وحتى رئيساً ولو لمدة محدودة، في ظل المصاعب الواضحة في التوافق على شخصية معينة تُسند إليها مهمة خلافة بوتفليقة.
كرَّس حياته للجيش
في عام 1940، وبالضبط في 13 يناير/كانون الثاني، وُلد أحمد قايد صالح بمنطقة عين ياقوت في ولاية باتنة (شرق البلاد). التحق وعمره لا يتجاوز 17 سنة بالحركة الوطنية مناضلاً، ثم جندياً في جيش التحرير الوطني، انطلاقاً من الولاية الثانية للثورة بمنطقة المليلية ولاية جيجل.
ومن خلال السيرة الذاتية الرسمية للرجل، يظهر جلياً أنه خُلق للعمل العسكري، حيث عُيِّن منذ أغسطس/آب 1957، قائداً بالفيالق 21 و29 و39 لجيش التحرير الوطني، واستفاد من تكوين عسكري مرموق حينما تخرَّج في الأكاديمية العسكرية.
وتدرج قايد صالح في المسؤوليات العسكرية، بعد الاستقلال، حيث شغل منصب قائد لواء، ثم أصبح قائداً للقطاع العملياتي الأول، فقائداً لمدرسة تكوين ضباط الاحتياط.
ليُعيَّن بعدها للقطاع العملياتي الجنوبي لتندوف ثم نائباً لقائد الناحية العسكرية الخامسة، ليتولى قيادة الناحية العسكرية الثالثة ومقرها ولاية بشار في الجنوب الغربي للبلاد، ثم قائداً للناحية العسكرية الثانية ومقرها ولاية وهران (الغرب).
حصل قايد صالح على رتبة لواء في الخامس يوليو/تموز 1993، لتتم ترقيته بعد سنة 1994 قائداً عاماً للقوات البرية، وبعد 12 سنة في المنصب عُيِّن قائداً لأركان الجيش الوطني الشعبي من قِبل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة خلفاً للفريق محمد العماري، سنة 2004، ثم نال رتبة فريق سنة 2006.
وفي الـ11 من سبتمبر/أيلول 2013، بات بإمكانه المشاركة في اجتماع مجلس الوزراء ببدلة رسمية غير عسكرية، بعدما قُلِّد من قِبل بوتفليقة منصب نائب لوزير الدفاع الوطني، أي بعبارة أكثر وضوحاً نائباً لبوتفليقة، الذي يملك صفة وزير الدفاع القائد الأعلى للقوات المسلحة.
ويحوز الفريق أحمد قايد صالح، وسام جيش التحرير الوطني، ووسام الجيش الوطني الشعبي (الشارة الثانية)، ووسام الاستحقاق العسكري، ووسام الشرف.
عسكري صُلب
كل من كانت له الفرصة للعمل تحت قيادة أحمد قايد صالح، ولو في إطار الخدمة الوطنية، عندما كان ضابطاً بالفيالق والنواحي العسكري، يشهد له بالصرامة القاسية، ولا يعرف إلا "إنجاح وتنفيذ الأوامر بحذافيرها"، مثلما يقول "فاتح"، أحد المجندين الذين اشتغلوا تحت إمرة الرجل بالناحية العسكرية الثالثة في ولاية بشار.
قوة شخصية قايد صالح، جعلته يصمد ويحافظ على منصبه كقائد للقوات البرية التي تحصي النسبة الأكبر من عدة وعتاد الجيش الجزائري، في غمرة سطوة من يطلق عليهم "ضباط فرنسا"، وهم مجموعة ضيقة من الجنرالات الذين تدربوا وخدموا في صفوف الجيش الفرنسي، قبل أن يلتحقوا بصفوف الثورة أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات.
ويقول ضابط جزائري سابق لـ"عربي بوست"، إن قايد صالح عانى بعض التهميش زمن سيطرة ضباط فرنسا على مؤسسة الجيش ومفاصل البلاد بصفة عامة، لكن "كانت لديه القوة اللازمة للصمود وإثبات قوة شخصيته"، الأمر الذي أهَّله لشغل منصب قائد أركان الجيش خلفاً للفريق محمد العماري.
علاقة خاصة مع بوتفليقة
وخلال خرجاته الميدانية، حيث يظهر في كل مرة يخطب في عشرات الضباط والمجندين من منبر عالٍ مطوَّق بالزهور، لا يترك قايد صالح فرصة إلا ويؤكد أن "عصرنة الجيش وبلوغه الاحترافية المطلوبة يتمان بحرص ومتابعة من قِبل وزير الدفاع الوطني القائد الأعلى للقوات المسلحة فخامة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة".
تأكيدات الوفاء للرئيس عبد العزيز بوتفليقة تجلت أيضاً مراراً في افتتاحيات مجلة الجيش، لسان حال المؤسسة العسكرية، التي تشدد على "عدم تدخُّل الجيش في السياسة، والتزامه بالمهام الدستورية المتمثلة في تأمين البلاد من المخاطر الأمنية".
وجاءت هذه الردود في أكثر من مناسبة، وبعد كل جدل يثار من قِبل السياسيين بشأن ضرورة تدخُّل الجيش للتمكين لانتقال ديمقراطي سلس يطوي عهد بوتفليقة.
وقال مصدر أمني لـ"عربي بوست"، عن العلاقة بين بوتفليقة وقايد صالح، إن هناك "توافقاً ووفاء كبيرين بين الرجلين، حيث يرى قايد صالح أن بوتفليقة أعاد له الاعتبار كمجاهد وضابط عسكري رفيع عندما عينه خلفاً لمحمد العماري سنة 2004".
ومنذ 2016، ترددت معلومات بشأن إقالة الفريق أحمد قايد صالح وتعويضه بأحد قادة النواحي، لتظهر في كل مرة أنها مجرد إشاعات وأن الرجل مستمر في منصبه إلى حين، ما يعني أن هناك شبه توافق على أن "مغادرة قايد صالح تتم بمغادرة بوتفليقة الحكم".
أقوى رجل في الجزائر؟
في 2013، وعندما تعرَّض بوتفليقة لأكبر أزمة صحية له، احتدم النقاش بين صناع القرار في أعلى هرم الدولة، حينها كان رجل قوي يدعى محمد مدين ويدعى توفيق، شغل منصب مدير المخابرات الجزائرية مدة 25 عاماً، جعل من نفسه أسطورة حية من خلال تواريه عن الأنظار والغموض الذي تركه من حوله.
كان توفيق مسيطراً على مفاصل الدولة بمؤسساتها المدنية والعسكرية، لكنه اصطدم يومها بالفريق أحمد قايد صالح قائد أركان الجيش الوطني الشعبي، والسبب هو "العهدة الرابعة".
رأى قائد جهاز المخابرات أنه "ليس من اللائق استمرار بوتفليقة إلى عهدة رابعة في الحكم وهو مريض لتلك الدرجة، لكن قايد صالح تمسك ببوتفليقة ورفض السير في فلك المخابرات"، وفقاً لمصادر أمنية سربت حرب الكواليس يومها.
ومع أفول نجم "توفيق"، بتمرير مشروع العهدة الرابعة، وإقالته في 15 سبتمبر/أيلول 2015، من طرف بوتفليقة، أصبح قايد صالح صاحبَ الكلمة الأولى والأخيرة في المؤسسة العسكرية.
وأوضح ضابط أمن لـ"عربي بوست"، أن "قايد صالح استكمل قوته بإقالة اللواء جبار مهنا، الذي كان مديراً للمديرية المركزية لأمن الجيش والذي كان أحد أذرع الفريق محمد مدين، ومع إقالة الأخير خلا له المجال بأكمله".
وفي ربيع 2016، بعد زيارة رئيس الوزراء الفرنسي السابق للجزائر مانويل فالس، وتسريبه صورة لاجتماعه ببوتفليقة تُظهر الأخير وهو في حالة صحية حرجة للغاية، نشرت الصحافة الفرنسية عدداً من التقارير التي تطرقت فيها إلى الوضع الصحي الصعب لبوتفليقة وإمكانية إجراء انتخابات مسبقة.
ودفعت عدة أطراف جزائرية يومها في الاتجاه ذاته، لكن ووفقاً لما تردد من معلومات، فإن قايد صالح وقف سداً منيعاً أمام كل تلك الطروحات، وذهب لأبعد من ذلك عندما قال في أحد الاجتماعات المغلقة: "إذا كانت هناك انتخابات مسبقة فلم لا أكون أنا؟!"، وأصدرت بعض الصحف الجزائرية تقارير تشبه القايد صالح بـ"سيسي مصر".
وأثبتت التغييرات الأخيرة في صفوف الجيش والدرك الوطني وجهاز الأمن الوطني (الشرطة)، قوة قايد صالح، بعدما أظهر بطريقة غير مباشرةٍ قدرته على الضرب بقوة بعد قضية استيراد 701 كيلوغرام من مادة الكوكايين في 30 مايو/أيار 2018، بميناء وهران.
وتمت العملية بفرقة تابعة للقوات البحرية وجهاز الأمن العسكري، كما أشرف جهاز الدرك الوطني، التابع لوزارة الدفاع، على عملية التحقيق المعمق وكشف كل المتورطين في القضية.
ودفع المدير العام السابق للأمن الوطني، اللواء عبد الغاني هامل، ثمن تصريحه بأن "من يحارب الفساد يجب أن يكون نظيفاً"، وهو ما فُهم على أنه اتهام لمؤسسة الجيش، وأُقيل بعد ساعات قليلة فقط.
ليس المطلق وإنما أحد الأقطاب
بالنسبة للدكتور حسني عبيدي، مدير مركز الدراسات حول العالم العربي في جنيف، لا يمكن القول إن أحمد قايد صالح هو أقوى رجل في الجزائر؛ لأنه "وبحكم منصبه وبالنظر إلى الفترة الطويلة نسبياً التي قضاها في ممارسة مهامه بصفته نائباً لوزير الدفاع والقائد الميداني للجيش ومن دون انقطاع، يعتبر الفريق أحمد قايد صالح أحد العناصر الأساسية في منظومة الحكم بالجزائر، لكن هذا لا يعني أنه الرجل الأقوى".
وأضاف عبيدي: "لأن صناعة القرار في الجزائر مسار معقد يعتمد على تعدد الأقطاب التي تشكل هرم السلطة. قايد صالح يمثل أحد أهم الأقطاب بالمؤسسة العسكرية بعدما نجح في تقوية قيادة الأركان وكسب ثقة جميع رؤساء النواحي العسكرية. كما استطاع صالح أن يضم قطاعاً كبيراً من صلاحيات مصلحة الاستخبارات لقيادة الأركان ولقيادة الدرك الوطني".
وبشأن عدم تدخله -ولو كما يبدو عليه الحال- في الحياة السياسية، قال عبيدي: "في أثناء فترة النقاهة التي قضاها الرئيس بوتفليقة في فال دو غراس بفرنسا، حرص الأخير على استقبال قايد صالح ورئيس الحكومة السابق عبد المالك سلال. كان بالإمكان الاكتفاء برئيس الحكومة، لكن الرئيس يدرك أن انتقال الفريق إلى باريس مؤشر قوي على أن هرم السلطة المكون من القطب الرئاسي والقطب العسكري والتنفيذي على تناغم".
وتابع المتحدث ذاته أن "قوة قايد صالح تكمن في أنه لا يعتبر منافساً حقيقياً يمكن أن يعيق مشروع الرئيس في تبوُّؤ عهدة خامسة، الأمر الذي انتبه إليه بوتفليقة؛ ولذا فهو لا يجرأ على الدخول في مواجهة مباشرة مع رئيس أركانه".
وأشار أيضاً إلى أن "الفريق كسب ثقة الرئيس ومحيطه من خلال كبح جماح بعض أفراد الجيش الذين لديهم طموح سياسي، والتركيز على مهنية الجيش وعلى ممارسة مهامه في الحفاظ على الأمن الوطني".
رئاسيات 2019؟
سيكون للفريق أحمد قايد صالح، ولمؤسسة الجيش بصفة عامة، الكلمة القوية في رئاسيات 2019، من خلال دعم بوتفليقة لعهدة خامسة أو انتقاء مشرح توافقي بديل.
ورغم إصرار قايد صالح على الابتعاد عن السياسة، لا يبدو أن التزامه قد يستمر، بالنظر إلى بروز دعوات جديدة لإقحام الجيش في مسار انتقال ديمقراطي، مثلما دعا إليه زعيم حركة حمس (حزب إسلامي) عبد الرزاق مقري، في الأيام القليلة الماضية.
وهي الدعوة التي أغضبت الأمين العام للحزب الحاكم (الأفلان) جمال ولد عباس، الذي رد على طرح مقري قائلاً في ندوة صحافية الثلاثاء 16 يوليو/تموز 2018: "إن الجيش ملتزم بمهامه الدستورية ولا يجب إقحامه في السياسة".
ويعتبر رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش، أن الجيش وحده من يصنع رئيس الجزائر المقبل؛ إذ يضع دعم الجيش له كشرط أساسي للترشح في كل انتخابات رئاسية.
وفي السياق، أكد الصحافي المختص في الشأن الجزائري، عبد الوهاب بوكروح، أن الجيش مضطر لا محالة إلى الدخول في معترك الرئاسيات القادمة، وقال لـ"عربي بوست"، إن " الفريق قايد صالح لا يمكنه التغطية على العجز السياسي الذي تسبب فيه مرض الرئيس؛ بل عليه وهو في هذا الوضع اليوم منع انهيار الدولة".
وتابع بوكروح أن "الخطر اليوم، في وجود جهات مجهولة تسيِّر البلاد وتقيل رؤساء الحكومات بسبب مرض الرئيس وعجزه، وقد نصل بعد فترة قليلة إلى تعيين رئيس اذا استمر الفريق الآخر في سياسة الهروب إلى الأمام".
ومهَّدت قضية الكوكايين المحجوز بوهران، للفريق أحمد صالح إحكام قبضته على عدد أكبر من الخيوط، خاصة بعدما تردد من أخبار عن عزم الجيش، من خلال جهازي الأمن العسكري والدرك، محاربة الفساد وإسقاط أسماء كبيرة، وسيظهر دور الفريق بشكل أكبر في الأشهر القليلة المقبلة.
اقرأ أيضا..