شغّلُوا المذياع!.. محطات إذاعية محلية تمسح الحزن عن أهالي الموصل بعد رحيل داعش

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/12 الساعة 14:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/13 الساعة 04:52 بتوقيت غرينتش
المتطوعون يحاولون إعادة الحياة للمدينة

لا تزال مدينة الموصل العراقية تترنَّح بسبب ثلاث سنوات خضعت فيها لحكم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وفي التاسع من يوليو/تموز 2017، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عن تحرير المدينة تحت مسمى "قادمون يا نينوى"، لكن الآفاق في عاصمة المحافظة نينوى تبقى قاتمة. وكان تنظيم الدولة قد بسط سيطرته على الموصل في هجوم خاطف في يونيو/حزيران  2014.

ويحكي موقع The Middle East Eye البريطاني كيف يحاول الصحافيون في مدينة الموصل التغلب على الدمار الذي خلفه القتال هناك، برصد بعض البرامج التي تطلقها محطات محلية عراقية.

تشير عقارب الساعة إلى العاشرة والنصف صباحاً، وحينها يعلن سمير سعيد بدء برنامج "أبوتاكسي" المُذاع على محطة "وان إف إم" الإذاعية، وهو برنامج يومي قدمه خلال الأشهر الستة الماضية، من خلال تحية مَرِحَة: "السلام عليكم". يقول سعيد، البالغ من العمر 37 عاماً: "الاقتصاد مُدمَّر. لا يستطيع أيُّ شخصٍ أن يجد عملاً".

امتدت المعركة 9 أشهر وخلّفت آلاف القتلى

امتدت معركة الموصل 9 أشهر وانتهت رسمياً في العاشر من يوليو/تموز 2017، حينما أعلن رئيس الوزراء العراقي بيان النصر من مدينة الموصل، لتطوى بذلك صفحة المعارك ولتتكشف القصص الإنسانية التي رافقت المعركة وأعداد الضحايا والخسائر الاقتصادية الفادحة.

وتعتبر الموصل ثانية كبرى المدن العراقية، حيث يبلغ عدد السكان قرابة مليوني نسمة، وما إن انتهت المعركة حتى بدأ الناس يعون حجم الخسائر الفادحة التي ألمّت بالمدينة والتي تحتاج إلى سنوات وسنوات لترميمها، هذا وتضاربت المعلومات والإحصائيات المتوافرة حول عدد المدنيين الذين قتلوا خلال معركة الموصل، حيث تشير تقارير استخباراتية نشرتها صحيفة "الإندبندنت" البريطانية إلى أن عدد من قتل من المدنيين وصل إلى 40 ألف قتيل، فضلاً عن عدد أكبر من ذلك من المصابين والمعاقين.

مبادرات عديدة لمساعدة سكان الموصل

أُطلِقَت عديدٌ من المبادرات لمساعدة سكان الموصل على الاستمرار، وتعتبر إذاعة "وان إف إم" وبرامجها جزءاً رئيسياً من هذه المبادرات.

احد اطفال مدينة الموصل
احد اطفال مدينة الموصل

لم يُختر اسم البرنامج الإذاعي اختياراً عشوائياً. وكذلك بالنسبة لجمهوره. يقول المذيع: "كثيرٌ من الشباب في الموصل مُجبَرون على العمل سائقي سيارات أجرة، في ظلِّ السياق الحالي من الظلام الاقتصادي".

ويضيف: "أغلبهم من طلاب الجامعة والمهندسين والمحامين والمعلمين. لكن لا يستطيع أحدٌ أن يجد عملاً في مجاله".

يعلم سعيد أنه من خلال استهداف سائقي سيارات الأجرة، يمكنه الوصول إلى قطاعٍ كبير من السكان. يستهل البرنامج حلقته لهذا اليوم بسؤالٍ بسيط. ويمكن للفائز أن يمر على مقر المحطة الإذاعية ليحصل على الجائزة، وهي زجاجة عطر.

يسأل سعيد المستمعين: "كم عدد الأبواب التي كانت موجودة في مدينة الموصل القديمة؟".

وعلى الفور بدأ الهاتف في استقبال المكالمات، ما يدل على أن البرنامج يعرف جمهوره. في غرفة التحكم المتواضعة المسؤولة عن المحطة، التي يفصلها عن الأستوديو حائط زجاجي، حوَّل محمد طلال، البالغ من العمر 31، المكالمة إلى مذيع البرنامج كي يستقبلها.

يُدعى المتصل (أبوكريم)، وهو سائق سيارة أجرة في المدينة القديمة وكان يجرب حظه. أجاب (أبوكريم): "9 أبواب. كان هناك 9 أبواب".

الإجابة صحيحة، لكن ذلك لا يُذكر. سوف يُعلن عن اسم الفائز من خلال سحب في نهاية حلقة البرنامج.

بدأ الرجلان بعد ذلك محادثةً قصيرة. سأل سعيد عمَّا تبدو عليه الأخلاق في الشوارع. يعيش (أبوكريم) في المدينة القديمة، وهي المعقل الأخير لقوات داعش خلال الغارات الجوية للتحالف، وهي أكثر المناطق التي تعرَّضَت للقصف في الموصل، حيث احتجز تنظيم داعش جزءاً من السكان رهينة.

والآن بعد أن صارت القوات الحكومية تؤمنها، أصبحت مجرد مساحة كبيرة من الخراب حيث تُدفن آلاف من الجثث المُتحلِّلة.

يقول (أبوكريم): "ليس معي نقود. ولا أستطيع أن أذهب بسيارتي إلى الجراج لإصلاحها".

الصحافة كانت العدو الأول لداعش؛ لذا أبعد التنظيم 40 صحافياً من المدينة

يستمر البرنامج في استهداف المكالمات. يشكو متصلٌ آخر من الاختناقات المرورية التي لا نهاية لها في الموصل. خلال القتال، تضرَّرت الجسور الخمسة التي تمر فوق نهر دجلة ضرراً بالغاً.

يقول سعيد فور توقف البث: "في برنامجي، يمكن للناس أن يُعبِّروا عن آرائهم بحرية. يمكنهم أن يقولوا أيَّ شيء في عقولهم، النساء مثلهن مثل الرجال. كلُّ شخصٍ له صوت. وذلك هو المفتاح لتغيير العقليات".

يحمل سعيد، مثل باقي المدينة، ندباتٍ تعود إلى فترة حكم تنظيم داعش، الذي حرَّم استخدام الهواتف الجوالة والبرامج الإخبارية وشهد استبدال البث الترويجي الخاص بالتنظيم بالمحطات الإذاعية التي كانت موجودة قبل مجيئه.

يقول المذيع وهو يشير إلى ندبةٍ تحيط بكاحله الأيسر: "أطلق مقاتلو داعش النار عليّ لأنني كنت أحاول الهرب من المدينة القديمة. كنت محظوظاً. فالمحطة الإذاعية التي عملت فيها كانت مُدمَّرة تماماً. اغتِيل ثلاثة أشخاص هناك".

ويضيف: "عرف الجهاديون أن الصحافيين شكَّلوا تهديداً على حملتهم الدعائية المُتطرِّفة. فقد أقصى التنظيم 40 منهم تقريباً في الموصل فقط".

ومع ذلك لم يتراجع الصحافيون عن مهامهم في نشر السلام بالمدينة

ولم يكن سعيد الشخص الوحيد الذي تعرَّض لتهديد. إذ إن طلال، ذي اللحية المُهذَّبة والنظرة الثابتة، أُجبِرَ هو الآخر على الهروب من بيته.

يقول طلال: "كان اسمي على قائمة الرجال الذي يجب أن يُطلَق عليهم الرصاص فور رؤيتهم. إنني مسلمٌ وسُنِّي، لكنني لم أستطع أن أمر على أيِّ نقطة تفتيش بدون المخاطرة بإلقاء القبض عليّ".

ويضيف: "اختبأت في منزلِ جدي لعامٍ كامل. ولم أغادر المنزل إلا مرة واحدة، مختبئاً في سيارة، كي أزور طبيب الأسنان. قرأت 500 كتاب وبدأت في الكتابة. إنني شخصٌ مختلف كلياً الآن".

كان طلال، وهو صحفي ناشئ يذيع برنامجاً فلسفياً على إذاعة "وان إف إم"، ضمن الأعضاء الستة الذين جمعوا مدخراتهم لتمويل المحطة، ليجمعوا 70 ألف دولار من أجل مساحةٍ صالحة لتأسيس أستوديو صغير وغرفة أخبار.

يقول طلال: "هدفنا توسيع عقول مستمعينا، وأن نتحدَّث إليهم عن السلام والاحترام المتبادل. جلبت الحرب الجهل والتعصُّب. وذلك ما نحاربه الآن".

ويوضح قائلاً: "عندما سيطر تنظيم داعش على المنطقة، كان 80% من سكان الموصل يحملون أفكاراً مُتشدِّدة. تنخفض النسبة الآن إلى حوالي 50%. وهدفنا استئصال أيديولوجية داعش".

يجلس كريم العطار (25 عاماً) على أريكة ويقرأ موجز الأخبار قبل إذاعته على الهواء. يبتسم ابتسامةً خجولة لكن صوته يصبح واثقاً فور جلوسه أمام الميكروفون.

يطلق العطار، وهو مُتطوِّعٌ كأيِّ شخصٍ آخر في المحطة، على برنامجه اسم "يوم جديد". إلا أن آخر الأخبار التي أذاعها تُذكِّر المستمعين بأن الموصل لا تزال في حاجةٍ إلى طرد أشباح ماضيها، أُلقِيَ القبضُ على عضوين من تنظيم داعش، فيما لا يزال أبوبكر البغدادي زعيم التنظيم طليقاً.

وكان من تأثير ذلك أن بدأ الناس في التجاوب مع المحتوى الإذاعي

يصل برنامج "أبوتاكسي" إلى نهاية البث. يقول مستمعٌ قبل لحظاتٍ من نهاية حلقة سعيد: "أتمنى أن تكون الموصل مثل نيويورك في يومٍ من الأيام، مدينة لا تنام أبداً".

وفي تلك اللحظة تماماً، تبدأ المصابيح النيون بالأستوديو في إصدار وميض مزعج. ثم يُظلم الأستوديو. يمزح محمد: "يحدث هذا طيلة الوقت. نعاني جميعاً من انقطاع الكهرباء في العراق. لكن لحسن الحظ لدينا مُولِّدٌ كهربائي".

بعد كل هذه الفظاعات، تعلَّم المدنيون في الموصل أن يضحكوا على كلِّ شيء تقريباً. إذ تثبت الفكاهة أنها سلاحُ المدينة للتكيُّف مع جميع الظروف.

هذا ليس كل النشاط، فهناك نشاط تثقيفي أيضاً يحدث في المدينة

هذا وانطلقت مدينة الموصل في المرحلة الثانية في فبراير/شباط 2018 من الحرب على تنظيم داعش، بعد دحره عسكرياً، تتمثل في تنظيم دورات تثقيفية تهدف إلى نشر مفاهيم التعايش.

يقول مصعب محمود، الذي تابع إحدى الدورات، إن "الموصل يحب أن تتحرر فكرياً من داعش، بعد أن تحررت عسكريا. لقد خدعتنا أفكار داعش، والآن نسعى إلى تحرير أنفسنا من تلك العقيدة المسمومة".

يشارك متطوعون من مختلف الاتجاهات والمهن في الجلسات التي ينظمها "منتدى علماء الموصل"، بهدف تمكينهم من محو تأثير فكر داعش على أهالي المدينة.

ويتولى 5 أساتذة من جامعتي الموصل وصلاح الدين، من المختصين في شؤون الدين والشريعة، إلقاء المحاضرات خلال الدورة التي تمتد أسبوعاً واحداً.

علامات:
تحميل المزيد