في شهر أبريل/نيسان، وجد رامي السيد نفسه في جنديرس، التي لم يسمع بها من قبل، وهي مدينة تقع شمالي سوريا، في مخيم مؤقت صحبة الآلاف من السوريين الذين شرَّدتهم الحرب الأهلية التي اندلعت في سوريا منذ 7 سنوات.
حين استعادت قوات الأسد السيطرة على الحي الذي كان يقطن فيه في دمشق، في شهر أبريل/نيسان، وجد نفسه وغيره ممن ساندوا مقاتلي المعارضة أمام خيارين: "إما البقاء في مناطق سيطرة النظام ومواجهة الأسوأ، وإما الرحيل بحثاً عن النجاة" كما يقول.
وثَّق السيد على مدى سنوات بالصور والفيديوهات مشاهدَ من حيّه وهو يتعرّض للقصف بالبراميل المتفجرة من جانب النظام السوري، ويسيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وتتلاشى مؤن الغذاء منه. وعاد حاليّاً ليحمل الكاميرا في يديه مرةً أخرى، ولكن هذه المرة ليقدم لمحةً من حياة بعضٍ من النازحين داخل سوريا، الذين يتجاوز عددهم 6.6 مليون شخص.
هرباً من سجن الأسد.. إلى سجن المخيم
نقلت حافلةٌ رامي، الذي يستخدم اسماً مستعاراً، إلى جنديرس مع أخيه وزوجة أخيه وأطفالهما الثلاثة، بعد أنَّ قرروا الرحيل عن حيهم اليرموك، الذي أنشأ بالأساس مخيماً للاجئين الفلسطينيين الفارّين من الحرب التي اندلعت لتأسيس إسرائيل.
أصبح مخيم اليرموك مجتمعاً نشطاً؛ عاش فيه مئات الآلاف من السوريين بجانب 160 ألف لاجئ فلسطيني، لكن ما لبثت أن طالت الحرب السورية المنطقة، وعلقت في الصراع الوحشي بين قوات الأسد والمعارضة السورية.
وعقب استعادة النظام السوري السيطرة على دمشق، انضم السيد للآلاف الذين قرّروا الرحيل إلى إحدى المناطق القليلة التي لا تزال تحت سيطرة المعارضة، وتقع على بعد مئات الأميال، وذلك بدلاً من البقاء والمخاطرة بالتعرض للاعتقال.
لكن ما وجدوه في مخيمات النازحين صدَمهم، حتى بعد ما تركوه وراءهم من دمار "وصلنا ليلاً، وكان كل شيءٍ مظلماً. وحمل صباح اليوم التالي الصدمة الأكبر، حين استيقظتُ ورأيت الحالة البشعة التي كان عليها المخيم، كانت الرمال البيضاء تملأه، وكأنَّني أعيش بالصحراء".
شبهة "داعش تتبعهم"
كانت هذه هي المرة الأولى التي يترك فيها حيّه منذ 8 سنوات، إلى مخيم جنديرس، الذي يضم نحو 6 آلاف نازح، من بينهم 3500 فلسطيني وتقريباً 1700 طفل، معظمهم نزحوا من اليرموك والحجر الأسود، وهي ضاحية أخرى من ضواحي دمشق.
ولأنَّ كلتا المنطقتين كانتا سابقاً معقلين لتنظيم "داعش"، يتردد السيد في إظهار بطاقة هويته عند المرور بنقاط التفتيش المحيطة بالمخيم، خوفاً من اتهامه بدعم التنظيم الإرهابي. ويسيطر الجيش السوري الحر، وهي جماعة مسلحة معارضة متحالفة حالياً مع تركيا، على المنطقة المحيطة بالمخيم، وحين يغادر المخيم لابتياع المؤن مثل الغذاء والملابس، تناديه أفراد هذه الميليشيا بـ"داعش".
حين وصل السيد إلى المخيم، كانت الخيام شبه خاوية، فقط بعض الأغطية، ملأت عائلته خيامها بالمؤن القليلة التي استطاعوا جلبها معهم.
ولا توجد مدرسة في المخيم الذي يقيمون فيه، ولا يوجد أيضاً كهرباء، أما المياه فهي شحيحة. ولا يوجد كذلك أطباء بالمكان؛ فلا توجد سوى خيمة تشغلها حفنة من الممرضات ومتخصصي العلاج الطبيعي تعمل كعيادة طبية مؤقتة.
لا مستقبل هنا..
وبالنسبة للكثيرين فإنَّ تصور مستقبل لهم في المخيم يعد مستحيلاً؛ إذ أنشأ الهلال الأحمر وهيئة إدارة الطوارئ والأزمات التركيان هذا الموقع استجابةً للحالات الطارئة، وليس لاستضافة مجتمع لفترةٍ طويلة.
أضف إلى هذا أنَّ النقود بدأت تنفد من الأشخاص في المخيم، في اليوم الماضي زارت رامي ثلاث سيدات، أخبرته إحداهن أنَّها لا تزال تملك 6 دولارات، ولكن ما الذي يمكنها شراؤه بهذا المبلغ؟
وصُدِم لرؤية تاجرٍ معروف من اليرموك في المخيم. كان واحداً من أغنى الأشخاص، والآن لا يملك حتى ما يكفي لشراء علبة سجائر، وشعر بالخجل الشديد لاقتراض النقود.
اندلعت مؤخراً النيران في إحدى الخيام بسبب شرارة نار من موقد مشتعل؛ لتكبد العائلة التي تسكن في الخيمة خسارة كل ما تملكه.
يعتبر السيد هذا المخيم سجناً أكثر منه محطة إغاثة، رغم أنَّه يدرك أيضاً أنه لم يبقَ شيءٌ في منزله ليعود إليه.
في خيمتهم لا يتمتع بأية خصوصية، ولا يمكنه النوم بعمق، أو ترك متعلقاته الشخصية والذهاب إلى المرحاض. وفي بعض الأحيان يستحم داخل الخيمة، خوفاً من أنَّ يأتي أحدٌ وينهبها.
وحين يفكر في بيته في اليرموك، يسترجع عقله دمية دب باللونين الأزرق والأصفر كان قد خلفه وراءه.
كان هديةً من حبيبته السابقة. وحين أغار داعش على اليرموك، ترك المنزل سريعاً، ولما عاد لم يجد الدمية "كانت تذكرني بالحب. لكن لم يعد هناك حب اليوم"، يقول السيد بأسى كبير.
لا آمل في العودة
يعتبر السيد أنَّ الجانب الوحيد المشرق في المخيم هو الأطفال، بمن فيهم ابن أخيه صالح، البالغ من العمر عامين، وكذلك طفلتا أخيه التوأم. فرغم أنَّهم لا يملكون سوى القليل، يتمكنون من رفع روحه المعنوية.
هؤلاء الأطفال لا يملكون ألعاباً، أو ساحةً للعب فيها. هم فقط يقلدون الكبار، ابن أخي رامي يحمل دلاء من وإلى خيمته متظاهراً أنَّها مليئةٌ بالمياه.
ويتعرض الأطفال أيضاً للمَشاقّ؛ إذ تعج الخيام بالحشرات والعقارب، وأحياناً ما تتخطى درجة الحرارة 37 درجة في أوقات الظهيرة.
ويتخوف السيد من أنَّ يتجول أبناء أخيه بعيداً عن النطاق الآمن للمخيم. ومؤخراً، توقف السيد لتبادل الحديث مع فتاةٍ في المخيم كانت تبكي، وسجل حديثه معها بعدسات كاميرته.
كانت الفتاة تقول من بين دموعها: "أريد منزلي ومدرستي. أريد ألعابي، لا أريد العيش في خيامٍ بعد الآن. أريد العودة إلى المنزل".
غير أنَّ السيد يعرف أنَّه ربما لن يتسنى له ولعائلته العودة أبداً إلى اليرموك؛ إذ أعرب مسؤولو الأمم المتحدة الذين زاروا اليرموك يوم الثلاثاء الماضي 3 يوليو/تموز، عن شكوكهم حول إمكانية عودة السكان قبل أن تخضع المنطقة لعمليات إعادة إعمار مكثفة.
وفي هذا الصدد، قال بيير كرينبول، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا): "حجم الدمار في اليرموك لا يُقارن سوى بالقليل مما شهدته خلال سنواتٍ عديدة من العمل الإنساني في مناطق النزاع".
وأضاف أنَّ من مكثوا في اليرموك "أعربوا عن مخاوف عميقة مما يحمله المستقبلان القريب والبعيد".
آخر المشاهد العالقة بذهن السيد عن حيه في دمشق كان الفوضى، وهي تعم المكان بأكمله. ترك كل ذكرياته خلفه، ويعلم أنه لن يعود؛ لكنه يتساءل دائماً مع نفسه وهو يتأمل حياتهم الصعبة في مخيم جندريس: "كيف سأكون آمناً في المستقبل؟".
قصص قد تهمك عن الأزمة السورية:
البقاء أم العودة إلى سوريا؟.. اللاجئون في لبنان محتارون.. يريدون الرجوع لكن هذا أكثر ما يخيفهم