مبدأ الصفقات نجح في إعادة الأسد إلى عرينه.. استراتيجية روسيا في سوريا تُظهِر كيف يمكن إحراز النصر في حربٍ بالشرق الأوسط

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/10 الساعة 17:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/11 الساعة 05:16 بتوقيت غرينتش
A Syrian woman walks with a boy past a banner showing Russian President Vladimir Putin (R) shaking hands with Syrian President Bashar al-Assad, after arriving in a convoy carrying displaced people into government-controlled territory at Abu al-Zuhur checkpoint in the western countryside of Idlib province, on June 1, 2018. / AFP PHOTO / George OURFALIAN

في ذروة الحروب التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان والعراق، كانت الكلمة التي تردَّدَت أصداؤها في أوساط الجيش الأميركي والنُقَّاد الذين يُحلِّلون الحروب على حدٍّ سواء هي "مكافحة التمرُّد".

قدَّمَ الجنرالان ديفيد بتريوس وستانلي ماكريستال، اللذان كثيراً ما يُحتَفى بهما، مُلخَّصاً بعد الآخر حول كيفية إحراز النصر عبر تكتيكاتٍ غير تقليدية. تلخَّصَت استراتيجيتهما في التفكير مثل المُتمرِّدين، والاستيلاء على المساحات التي يسيطرون عليها، وحرمانهم من الدعم المادي والمعنوي.

لكنَّ العراق وأفغانستان ظلَّتا، لأكثر من عقدٍ من الزمان، خارج محيط النفوذ الأميركي، إذ كان البلدان بعيدين عن الأمن، وتعيَّن على الجيش الأميركي الاعتماد على بلدانٍ أخرى بالمنطقة من أجل البقاء.

غير أنَّ الروس في سوريا يُظهِرون الآن مهاراتٍ ميكافيلية تُرسي تعريفاً لشكل النجاح على أرض المعركة. وللمرةِ الأولى في التاريخ الحديث، يُحرِز تدخُّلٌ عسكري أجنبي انتصاراً في الشرق الأوسط، وفق ما أشار موقع The Middle East Eye البريطاني.

في قراءة أحداث درعا.. نجح الروس حيث أخفق الأميركيون

مع اقتراب الجيش السوري من مدينة درعا، يتشكَّل الفصل الأخير من الحملة التي تقودها روسيا. لكن ماذا يحدث في درعا؟ هل نفس ما حدث في الغوطة الشرقية وحمص وحلب؟

لا يُمكن النظر إلى درعا بمعزلٍ عن تلك المناطق. إنَّها نموذج مُصغَّر من الحرب السورية منذ دخول الروس في النزاع.

أدت جميع التدخلات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، بدءاً من ليبيا إلى اليمن والعراق وأفغانستان، إلى إخفاقاتٍ كارثية. سلَّم الأميركيون العراق إلى إيران بعد الإطاحة بصدام حسين، وسلَّموا الصحراء في ليبيا إلى الجماعات الإرهابية الوحشية والرجال الأقوياء، وأُطيح بحليفهم السابق علي عبدالله صالح في اليمن وقُتل. وفي الوقت نفسه، تُقصى الديمقراطية في مصر وغزة بدعمٍ أميركي كامل.

ليس من المستغرب إذن أنَّه وسط مثل هذه الإخفاقات الصارخة والتناقضات السياسية، استطاع الروس التقدم وتحقيق انتصارٍ صريح، ما جعلهم صُنَّاع القادة المُطلَقين، ليس فقط في سوريا، بل في الشرق الأوسط الأوسع.

ويتوددَّ الآن قادةٌ مثل الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان في السعودية، إلى موسكو، لإنقاذهم من الفوضى التي خلقتها الولايات المتحدة.

وحتى الرئيس الأميركي دونالد ترمب يستعد لعقد قمةٍ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تكون سوريا نقطة حوارٍ هامة فيها.

لذلك تفوَّق الروسيون، ليس فقط على الأميركيين، بل كذلك على معارضيهم السابقين، مثل تركيا والمملكة العربية السعودية.

عقدوا صفقات مع مختلف الجماعات المسلحة وعززوا القوة العسكرية السورية

تدخَّل الروس لمساعدة الحكومة السورية والجيش في عام 2015، وبدأوا على الفور في عقد صفقاتٍ مع مختلف الجماعات المسلحة، بغض النظر عن مواقف داعميها. وفي نفس الوقت، استخدموا قوةً جوية عسكرية ساحقة لسحق البقية وإجبارها على الخضوع، وسيطروا على هيكل القيادة والتحكم لجعل الجيش السوري والبنية التحتية للدولة السورية أكثر قدرة وكفاءة.

كان المحللون الذين تنبأوا بزوال الرئيس السوري بشار الأسد على خطأ بشكلٍ واضح. وعلى الرغم من الانتكاسات الحادة، بما في ذلك فقدان كبار مسؤولي الدفاع والأمن في أحد التفجيرات، كان لدى الجيش والمخابرات السورية عملاء في جميع أنحاء البلاد تمكَّنا من خلالهم من اختراق الجماعات المعارضة والمتطرفة.

تقدموا عندما عجز الأسد.. فقايضوا مقابل اللقمة وأجهزوا على المعارضة

ومثلما حدث في الحروب الأهلية اللبنانية والعراقية، حيثُ كان للاستخبارات العسكرية السورية نفوذ ودرجة من السيطرة على جميع الجماعات المختلفة غير الحكومية تقريباً، ينطبق الشيء نفسه على الحرب في سوريا. اعترف الأسد في خطابٍ أدهش الكثيرين عام 2015 بالانسحاب من أجزاء كثيرة من البلاد لم يعد الجيش قادراً على القتال فيها. وكان التبرير هو أنَّ الدولة تحارب على جميع الجبهات، ولابد من تقديم التنازلات: سيعيش الجيش السوري ليقاتل في يومٍ آخر.

وفي الوقت نفسه، قُدِّم طلب إلى الروس للدخول والمساعدة في شن هجومٍ مضاد، وبالفعل نفذوا الهجوم المضاد. بدءاً من حمص، بدأ الموظفون المتبقون التابعون للأجهزة الأمنية الحكومية في العمل من وراء الكواليس، وعقد صفقاتٍ مع الجماعات المسلحة، والمقايضة من أجل السلع الأساسية، وتمركزوا في نقاط التفتيش المشتركة، وقضوا على أولئك الذين رفضوا التفاوض.

بدأوا في حمص وانتقلوا باستراتيجيتهم إلى حلب والغوطة

أصبحت حمص أول عملية إخلاء ناجحة يُشرف عليها الروس. ونُقِلَ المسلحون إلى الشمال والغوطة واستعيدت السيطرة على الأراضي. ثم جاءت حلب والغوطة الشرقية، اللتين كانتا تكراراً لنفس الاستراتيجية: قوة النيران الروسية وصفقات المخابرات السورية، تماماً كما فعلت في ذروة الحرب اللبنانية والعراقية.

وانضمت تركيا إلى المشهد بتهديدها بـ"إما دعم العملية التي تقودها روسيا أو مواجهة التمرد الكردي المدعوم من حلفاء تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)". وانخرطت الدول العربية الرئيسية مثل مصر والجزائر والإمارات وعُمان كدولٍ عربية سُنَّية تدعم الآن دمشق في سعيها للقضاء على الجماعات المسلحة.

استخدموا الضباطَ السنَّة للتحدث مع المسلحين ولوّحوا بإسرائيل

واستخدم الروس ضباطهم من المسلمين السُنَّة والشرطة العسكرية للتحدث مباشرةً مع قيادات مختلف الجماعات المعارضة الذين أغلبهم من السنة. وفي أبرز نجاحٍ دبلوماسي، حُيِّدت إسرائيل أيضاً، إذ "أخبرهم الروس إما أن يتعاملوا معهم أو مع الإيرانيين، وأنَّ الروس بإمكانهم إزالة الوجود الإيراني من الجنوب"، وفعلوا ذلك بالفعل.

ونهاية اللعبة فكانت في إجهاد الجيران

داني مكي محللٌ عسكري في الشأن السوري تحظى تحليلاته بمتابعةٍ مكثفة ربما هي الأكبر بين نظرائه. عمل مع المنافذ الإعلامية الغربية الكبرى وكذلك الجيش السوري طوال الحرب.

صرَّح مكي مؤخراً لمحطة TRT World التركية: "ليس من المستغرب سقوط درعا. لقد كان الأمر مجرد مسألة وقت". وكما هو الحال في حمص وحلب والغوطة، استطاع الروس والسوريون جعل الأردنيين يعتقدون أنَّ سيطرة دمشق أفضل كثيراً من سيطرة جماعات المعارضة المسلحة.

ولم تعد الأردن، التي تواجه أزمةً اقتصادية وجودية خاصة بها، راغبةً في محاربة دمشق. وكذلك تنازلت إسرائيل، التي دعمت المسلحين وفقاً لقوات الأمم المتحدة غير البعيدة عن درعا، عن معارضتها لاستعادة دمشق للحدود.

ونُقِلت إيران بنجاح من الجنوب في صفقةٍ تُبقي تل أبيب في مكانها على الحياد. ودخل الأميركيون في محادثاتٍ لتفكيك قواعد عسكرية في سوريا مقابل تقليص الوجود الإيراني.

أما تركيا والسعودية فركزتا على صفقة مع بوتين بغض النظر عن مصير الأسد

يمكن لقمة ترمب وبوتين أن تضع اللمسات الأخيرة على اتفاقٍ حول مصير نهاية الحرب السورية. وعلى الرغم من الضجة التي أُثيرت حول درعا من جانب جماعات المعارضة والأمم المتحدة، فإنَّ أنصار القضية الإقليميين الرئيسيين، أي المملكة العربية السعودية وتركيا، لا تبديان اهتماماً كثيراً بمصيرها، وهما حريصتان على التوصل إلى اتفاقٍ مع موسكو.

وتكتب الآن على مضض الأمم المتحدة وغيرها من المنافذ الدولية مثل معهد "تشاتام هاوس" البريطاني وهيئة الإذاعة البريطانية "BBC" ومجلة The Economist أنَّ مئات الآلاف من اللاجئين يعودون إلى المناطق التي تُسيطر عليها الحكومة السورية، وأنَّ الحياة في المدن التي تُسيطر عليها الحكومة تسير بشكلٍ طبيعي، ولا يوجد نقص في الطعام أو الماء أو الطاقة أو المرافق الأساسية.

ومبدأ الصفقات هو الذي نجح في إعادة الأسد إلى عرينه

استغل الروس الدولة السورية الراسخة التي لم تتلاشى على الرغم من انسحابها، وتمكنت  من العودة بصورةٍ مذهلة بأسلوب عقد الصفقات القديم للرئيس الراحل حافظ الأسد. وأدى نهج مكافحة التمرد السوري الذي اتَّبعه الروس والأسد إلى إنجاز ما فشل الأميركيون في القيام به، وهو توفير الخدمات الأساسية للدولة والقدرة على التفوق بدهاء على العدو، سواءٌ المحلي أو الأجنبي.

وحتى قبل أن يستقر الغبار في درعا، يعود آلاف اللاجئين إلى المدينة بعودة الحكومة السورية إلى عملها بشكلٍ طبيعي بعد أسابيع من القتال العنيف والنزوح.

من شبه المؤكد أنَّ ترمب لم تعد لديه مصلحةٌ في سوريا. فقد أرسلت السفارة الأميركية رسائل واضحة للمسلحين في الجنوب بأنَّ الولايات المتحدة لم تعد تدعمهم.

استعادت روسيا والرئيس الأسد الأراضي، قطعةً تلو الأخرى، وأقنعا خصومهما بأنَّ القتال أو الصمود ضد الجمهورية العربية السورية غير مجديين.

وعلى الرغم من دعوات مواصلة القتال ضد الأسد، تشهد عودة آلاف اللاجئين إلى حمص وحلب وحتى درعا بأنَّ دمشق قد أقنعتهم بخلاف ذلك.

تحميل المزيد