ربما يكون ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد نجح في رسم صورةٍ له كرجل تحديث ألغى قواعدَ اجتماعية خانقة في بلاده، لكنَّه يكافح من أجل تغيير حظوظ الاقتصاد السعودي، في ظل أزمة الثقة التي يعاني منها.
وأشار تقرير نشره الإثنين 9 يوليو/تموز 2018، موقع Business Insider، إلى أنه بعد أن تضرَّرت بشدة بسبب انهيار أسعار النفط، تواجه المملكة حالياً انخفاضاً في حجم الاستثمار الأجنبي، وارتفاع مستويات تدفق رأس المال خارج البلاد، بينما يحاول الحاكم الفعلي محمد بن سلمان تعزيز سُلطته وإدارة دفة الاقتصاد صوب مسارٍ جديد.
معاناة ملء الوظائف في القطاع الخاص
زادت حالة الشك التي تسببت بها طموحات محمد بن سلمان لتحديث الاقتصاد السعودي، التي يصفها البعض بغير الواقعية، بسبب معاناة المملكة الواضحة لإعادة ملء الوظائف الشاغرة في القطاع الخاص، بعد رحيل الكثير من العمالة الوافدة. فحتى أبريل/نيسان الماضي، غادر البلادَ أكثر من 800 ألف مغترب منذ نهاية عام 2016، ما أرعب الشركات المحلية التي يساورها القلق بشأن صعوبة استبدال العمالة الأجنبية بأخرى محلية.
خاصة بعد رحيل العمالة الأجنبية
ويُعد رحيل العمالة الوافدة جزءاً من خطة محمد بن سلمان لإنهاء اعتماد بلاده على النفط، عن طريق تنويع مصادر دخل الاقتصاد. ومن أهم عناصر هذه الخطة إقناع السعوديين الذين يشغلون الوظائف الحكومية السهلة، التي تشكل ثلثي سوق التوظيف المحلي، وهؤلاء الذين لا يعملون لتولي الوظائف الجديدة. وتريد السلطات توليد 450 ألف فرصة عمل للسعوديين في القطاع الخاص بحلول 2020.
وانخفض عدد العمال الأجانب بنسبة 6% ليصل إلى 10.2 مليون عامل في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2018، مقارنةً بنفس الفترة من العام السابق، ما يرفع عدد العمالة الأجنبية التي غادرت البلاد خلال الأرباع الخمسة الأخيرة إلى 700 ألف عامل، وفقاً لبياناتٍ رسمية صدرت الشهر الجاري. وكانت خسائر الوظائف خلال الربع الأول في قطاعات التجارة، والصناعة، والبناء، الذي يتكون في معظمه من العمالة منخفضة الأجر.
والذي لم يساهم في خفض معدلات البطالة بالمملكة
لكنَّ البيانات تُظهر أيضاً أنَّ معدل البطالة بين السعوديين ارتفع بمعدلٍ طفيف ليصل إلى 12.9%، ما يشير إلى صعوبة خلق وظائف في ظل تباطؤ التعافي الاقتصادي من أسوأ ركودٍ شهدته البلاد منذ اندلاع الأزمة المالية في 2009، وفقاً لما جاء بوكالة بلومبرغ الإخبارية.
وبموجب برنامج التحول الوطني، تستهدف الحكومة خفض معدل البطالة إلى 9% بحلول 2020، وفقاً للبيانات المنشورة على موقع البرنامج.
وسعى محمد بن سلمان إلى تسريع وتيرة رحيل العمالة الأجنبية، التي تشكل ثلث تعداد السكان في السعودية، عبر تصعيد إجراءات عملية السعودة، التي تهدف بالأساس إلى خلق قوة عاملة محلية أكثر إنتاجية. إذ يرفع بن سلمان الضرائب المفروضة على الشركات التي تُوظِّف أشخاصاً غير سعوديين، ويطلب من الأجانب دفع رسوم مقابل المُعَالين، ويحدد القطاعات التي يمكنهم العمل فيها، إذ بات التوظيف في العديد من المناطق في قطاعي الخدمات والتجزئة محصوراً على السعوديين بشكلٍ صارم.
وبدأت الحكومة في فرض رسوم على أقارب العاملة الوافدة بنحو 100 ريال (26.70 دولار) في يوليو/تموز 2017. ويتوقع أن تصل الرسوم إلى 400 ريال شهرياً في يوليو/تموز 2020.
ويُعتقد أن هذه الإجراءات تسبَّبت في موجة رحيل العمالة الوافدة، التي بات أثرها واضحاً في هبوط سوق العقارات المؤجرة ومراكز التسوق الخاوية. لكن يمكن أن تخفف الحكومة بعض هذه القيود.
وهو ما يجعل السعودية تُفكر في تغيير خططها
فوفقاً لصحيفة الوطن السعودية، ربما تغير الحكومة الخطط التي طالبت فيها كل شركات التجزئة باستبدال كافة العمالة الأجنبية بأخرى سعودية، لتنخفض نسبة العمالة السعودية المطلوبة إلى 70%.
وفي الوقت الذي انتشر فيه لسنوات اعتقادٌ بين الموظفين الغربيين مرتفعي الأجر أنَّ السعودية مكانٌ يصعب العمل فيه، ولا يميزه سوى نظام الإعفاء الضريبي، فإنَّ غالبية العمالة الأجنبية تأتي في البلاد من الشرق الأوسط وآسيا، والوظائف منخفضة الأجر في القطاعات المختلفة باتت تُخصص للسعوديين حالياً.
لكنَّ أصحاب الشركات السعودية يجدون صعوبةً في توظيف السكان المحليين، الذين اعتادوا العمل في الوظائف الحكومية السهلة أو الحصول على إعانات بطالة سخية. وتفيد التقارير بأنَّ السعوديين يحجمون عن الوظائف التي يعتبرونها منخفضة الأجر أو متدنية المستوى. ويبدو أنَّ أزمة التوظيف قد أثارت العديد من المخاوف لدرجةٍ جعلتها تُنشر على صفحات جريدة Saudi Gazette الناطقة بلسان الحكومة، التي تنشر عادةً قصصاً ذات طابعٍ مريح عن الحياة في المملكة.
خاصة أن الشركات تجد صعوبة في توظيف المحليين
وفي فبراير/شباط الماضي، أفادت الجريدة السعودية بأنَّ عدداً من رؤساء غرف التجارة والصناعة طالبوا الحكومة بإعفاء القطاع الخاص من شرط السعودة الكاملة للوظائف، وخاصةً تلك التي يصعب شغلها، مثل وظائف قطاع البناء، وسط مخاوف من توقف العديد من الشركات عن العمل. وفي مايو/أيار، كشف تقريرٌ آخر بالصحيفة عن صدور أكثر من 5 آلاف غرامة خلال ثلاثة أشهر، بحق الشركات التي خالفت قانون السعودة في قطاعاتٍ تتراوح بين الاتصالات والفنادق وتأجير السيارات.
وأفادت تقارير أنَّ بعض الشركات لجأت إلى التحايل على سياسة تخصيص حصةٍ معينة من الوظائف للسكان المحليين، عن طريق تعيين سعوديين ودفع رواتب صغيرة لهم لشغل وظائف وهمية في واقع الأمر، وهي عملية سُميت بالسعودة الوهمية، ما دعا البعض إلى المطالبة بإعادة دراسة قرار تأميم سوق التوظيف. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، قدم الكاتب محمد بسناوي رؤيةً مثيرة للاهتمام بشأن مخاوف القطاع الخاص، حول سياسة السعودة وتداعياتها المحتملة.
وقال بسناوي: "يقول أصحاب الشركات إنَّ الشباب والشابات السعوديات كسالى ولا يرغبون في العمل، ويتهمون الشباب السعودي بتفضيل البقاء في المنزل بدلاً من تولي وظيفةٍ منخفضة الأجر ولا تلائم المكانة الاجتماعية لسعوديٍ يسعى للعمل". وأضاف أنَّ السعودة الوهمية "قد تُنتج جيلاً من الشباب والشابات الذين لا يرغبون في العثور على وظيفة، ويفضلون الحصول على أجرٍ دون فعل أي شيء".
إلا أن بن سلمان مُصر على فرض الضرائب
ورغم ذلك، لا يبدو أنَّ السلطات ستتراجع عن سياسة السعودة، إذ يأمل محمد بن سلمان في توليد إيراداتٍ بنحو 17.33 مليار دولار بحلول 2020، عبر فرض ضرائب على العمالة الوافدة الجديدة، للمساهمة في سد عجز الموازنة المتوقع بلوغه 52 مليار دولار في 2018، بالإضافة إلى تمويل المشروعات الاقتصادية الجديدة.
لكنَّ منتقدي هذه السياسة يشككون فيما إذا كانت الغنيمة الضريبية المتوقعة ستعوض انخفاض الإنفاق الناجم عن رحيل الأجانب. وحتى هؤلاء الذين ما زالوا موجودين في السعودية، فإنَّهم سيرسلون أقاربهم على الأرجح إلى موطنهم بسبب الرسوم المفروضة على المعالين.
وقال طارق المنيع، وهو كاتب مقيم في جدة، في مقالٍ له بصحيفة Gulf News في أكتوبر/تشرين الأول الماضي: "فرض ضرائب على العمالة الوافدة قبل تحويل السعودية إلى اقتصادٍ منتج يعتمد على الصناعة، أشبه بوضع العربة قبل الحصان".
وقالت كارين يونغ، التي تعمل في معهد دول الخليج العربي بواشنطن، في مقالٍ لها بمدونة المعهد في فبراير/شباط الماضي، إنَّ خلق طبقة عاملة من السعوديين المستعدين للعمل في وظائف بقطاع الخدمات والتجزئة والبناء سيستغرق عقداً أو أكثر.
في الوقت ذاته، تخبو آمال محمد بن سلمان في زيادة رأس المال وتخفيض النفقات العامة. ولم تساهم الحملة غير الحكيمة التي أُلقي القبض خلالها على أمراء ورجال أعمال سعوديين في نهاية العام الماضي بدعوى مكافحة الفساد في توليد سوى جزءٍ صغير من هدف الإيرادات، البالغ 100 مليار دولار، وأدت إلى زعزعة ثقة المستثمرين. واضطرت السلطات السعودية إلى إيقاف خطةٍ لخفض الإعانات العامة أمام التذمر الشعبي.
كما أن تلميع صورته في الغرب لم يهدئ من مخاوف المستثمرين
ورغم أنَّ جولة محمد بن سلمان في العواصم الغربية بداية العام الجاري التي حظيت بتغطيةٍ واسعة مكَّنته من تلميع صورته كمصلح اقتصادي واجتماعي لجمهور غير معارض إلى حدٍّ كبير، فإنَّه ليس من الواضح ما إذا كانت هذه الجولة الدبلوماسية قد ساهمت في تهدئة مخاوف الشركات السعودية والمستثمرين الغربيين.
انخفض حجم الاستثمار الأجنبي المباشر من 7.5 مليار دولار في 2016 إلى 1.4 مليار دولار في العام الماضي، وهو أدنى مستوى له منذ 14 عاماً، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة. والأكثر من هذا، ذكرت ورقة بحثية صادرة عن معهد التمويل الدولي أنَّ حجم تدفق رأس المال خارج السعودية عام 2017 كان نحو 101 مليار دولار، أي 15% من الناتج المحلي الإجمالي. وقال معهد التمويل الدولي إنَّ هروب رأس المال من السعودية ساهم في الانخفاض الكبير في احتياطي النقد الأجنبي السعودي. وهناك مؤشراتٌ قوية متداولة تفيد بأنَّ نسبةً من هذه التدفقات المالية تُمثل رجال أعمال قلقين، ينقلون قدر ما يستطيعون من أصولهم السائلة خارج البلاد.
غير أن ارتفاع أسعار النفط سيمنح ولي العهد مزيداً من الوقت
ولحسن حظ محمد بن سلمان، وفّر ارتفاع أسعار النفط انتعاشةً مالية مؤقتة. وشهدت احتياطات النقد الأجنبي التي استُخدم جزءٌ منها لتمويل عجز الموازنة ارتفاعاً شهرياً بحوالي 13 مليار دولار، لتصل إلى ما يقرب من 499 مليار دولار في أبريل/نيسان الماضي، لكنَّها لا تزال أقل بكثير من المستوى الذي بلغته منذ أربع سنوات، عندما وصلت إلى 737 مليار دولار.
وسجل الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنحو 1.2% خلال الأشهر الثلاثة الأولى، مقارنةً بنفس الفترة من العام الماضي، وهو أول نمو يشهده الاقتصاد السعودي منذ خمسة أرباع، نتيجةً لارتفاع أسعار النفط. بينما ظل نمو القطاع الخاص ثابتاً عند 1.1%.
ورغم احتمالية توافر مزيدٍ من التمويل تحت تصرفه، لا يستطيع محمد بن سلمان الاستمرار في استنزاف هذه الأموال إلى أجلٍ غير مسمى، أو الاعتماد على إصدار السندات لسد عجز الموازنة. لكنَّه ربما ليس لديه خيارٌ آخر. ففي ظل انخفاض ثقة الشركات السعودية والمستثمرين الأجانب في الاقتصاد إلى هذا المستوى المتدني، وتعرض سياسة السعودة لضغوطٍ من قبل الشركات الخاصة، ستحتاج سياسات توليد الإيرادات من القطاع الخاص بعض الوقت حتى تتمكن من مساعدة بن سلمان على ضبط موازنة بلاده.