عند نقطة التفتيش الرئيسية خارج هذه المدينة العراقية المركزية، حيثُ يقف جنود الجيش والشرطة جنباً إلى جنب مع رجال الميليشيات الخاضعين لقيادة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الذي قاتل القوات الأميركية في العراق ذات مرة، ترفرف أعلام ميليشيا الصدر أكثر من أي أعلامٍ أخرى.
وفي تقرير نشرته صحيفة Washington Post الأميركية، الأربعاء 4 يوليو/تموز 2018، من المفترض أن نقاط التفتيش بالمدينة تخضع لإدارةٍ مشتركة، لكن مِن الواضح مَن صاحب السلطة الحقيقية. يتولى رجال الميليشيات التابعة للصدر الكلام، ويسألون السائقين عن وجهاتهم، في حين يجلس رجال القوات الأمنية على جانب الطريق دون عمل.
مِن عدو للشعب إلى فارض للنظام
يحمي أتباع الصدر المسلحون البالغ عددهم اثني عشر ألفاً المدينة، بل يهيمنون عليها، حفظاً للسلام في مدينةٍ أغلب سكانها من المسلمين السنة، لكنَّها تضم في الوقت نفسه أحد أهم المقدسات الشيعية في العالم. يُظهِر دور الجماعة المسلحة في سامراء تطور الصدر من عدوٍّ للشعب إلى فارضٍ للنظام، ويُقدِّم دلائل قوية على الطريقة التي سيلعب بها الصدر دوره الجديد في حكم العراق.
وحسب الصحيفة الأميركية فإن تحالف الصدر، أحرز في مايو/أيار الماضي، نصراً خالف التوقعات في الانتخابات الوطنية بالعراق، بعد خوضه الانتخابات ببرنامجٍ يعِد بالقضاء على الطائفية ومحاربة الفساد، وتقليل النفوذ الأميركي والإيراني في العراق.
ومع أنَّه لا يسعى إلى منصب رئيس الوزراء، فقد خرج الصدر من هذه الانتخابات صاحب القول الأكثر تأثيراً في هوية مَن سيشغل المنصب. فالصدر، بعد فوز تحالفه بعددٍ من مقاعد البرلمان يفوق أي حزبٍ آخر، في موقع قوة يمكنه من تشكيل حكومة العراق القادمة واختيار زعيم الأمة القادم.
بينما أميركا اعتبرته "خارجاً عن القانون"
كان النصر الانتخابي آخر مفاجآت رجل الدين البالغ من العمر 44 عاماً. في فترة الاحتلال الأميركي للعراق، قاتلت جماعته المسلحة المعروفة حينها بـ"جيش المهدي" معارك شرسة ضد القوات الأميركية، ليصبح الصدر خارجاً عن القانون بالنسبة للأميركيين، وثائراً بالنسبة لقاعدته الشعبية الكبيرة الوفية. وفي الأعوام التالية أشعلت ميليشيا الصدر حرباً طائفيةً دامية أدت إلى انقسام البلاد انقساماً عميقاً. وبعد إبعاده لمدةٍ وجيزة عن الحياة العامة، عاد الصدر بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأعاد تقديم نفسه باعتباره مدافعاً عن سيادة العراق.
إذ تقول الصحيفة إن تحوُّل الصدر، إلى جانب فوزه في صناديق الاقتراع، أثار حيرةً في بغداد وواشنطن وطهران، فمَن هو مقتدى الصدر حقاً؟
يقول دبلوماسي غربي -طلب عدم ذكر اسمه- ليتمكن من مناقشة محادثاتٍ خاصة بين وُسطاء محليين وإقليميين بالعراق: "هناك ارتباكٌ أصيل حول ما إذا كان الصدر مستقبل العراق أم مجرد أثرٍ مُقَنَّعٍ من ماضيه القريب".
ويُشير أداء جماعته المسلحة المعروفة الآن بـ"سرايا السلام" إلى أنَّ الصدر قد خلع طائفيته السابقة، وكرَّس نفسه لتضميد الجراح السنية الشيعية التي تسببت في تآكل المجتمع والأمن في العراق.
لكنَّ تصرف الكتائب في سامراء يُظهِر كذلك أنَّ الصدر لم يُسارع إلى التخلي عن ميوله الاستبدادية، وما زال يرغب في إخضاع قوانين العراق لسلطته الشخصية.
سامراء على قائمة اليونسكو لمُدن التراث العالمي، فهي مدينةٌ غنية بآثار العصور الوسطى من العصر العباسي السني، ومرقدٌ لاثنين من أئمة الشيعة المبجلين.
لكن تحوله لم يجعله يستغني عن ميوله "الاستبدادية"
وتشير الصحيفة إلى أن صور الصدر تنتشر في شوارع المدينة على اللافتات واللوحات الإعلانية، وتصوره قائداً عسكرياً مهيباً أشيب الشعر يرتدي الزي العسكري والطاقية المموهة، على عكس صورته في بغداد وفي قلب مناطق الشيعة في الجنوب، حيثُ يظهر في الأغلب رجل دينٍ تقي يتشح بالعمامة والثوب الأسودين التقليديين. وتحمل اللافتات في سامراء شعار سرايا السلام، الذي يُظهر مقاتلاً مُظللاً يحمل علم العراق في انتصار، بينما تتدلى البندقية على كتفه، إلى جانب حمامةٍ بيضاء محلقة، مع جملتهم المميزة: "لن نركع إلا لله".
كانت المدينة قبل عقدٍ من الزمان مركزاً لحربٍ أهلية مدمرة. فجَّر مسلحون يُشتبه أنَّهم من تنظيم القاعدة القبة الذهبية لمسجد العسكري المقدس لدى الشيعة، ما أشعل فتيل نزاعٍ طائفي استمر لأعوامٍ في أنحاء البلاد.
وفي العلن، دعا الصدر، الذي كان يقود حركة صحوة شيعية شعبوية في جنوبي العراق، إلى الوحدة الوطنية. لكنَّ جيش المهدي في الواقع كان لاعباً رئيساً في عمليات الثأر، إذ نشر فرق الموت في بغداد، وأدار سجوناً نائية خارج نطاق سيطرة الحكومة المركزية. وتورطت جماعته في عمليات الابتزاز والمتاجرة بالحماية، مهددةً الأعمال التجارية الصغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء.
ما جعل انتشار قواته بسامراء يثير القلق
وبعد صعود تنظيم داعش، الذي احتل أكثر من ثلث مساحة العراق، بُعِث جيش المهدي من جديد ليصير سرايا السلام. أمر الصدر مقاتليه بالتوجه إلى سامراء في 2014، وسُرعان ما انتشروا بها وصدوا المسلحين الذين حاصروها، في حين سقطت المدن القريبة في قبضة التنظيم.
تقبَّل أهل سامراء السنة مقاتلي الصدر الجدد بقلق، وكذلك تقبلهم قادة الجيش العراقي الذي انهار في وجه زحف تنظيم داعش.
وقال مجيد حميد، نائب قائد قوات سرايا السلام في سامراء، في حوارٍ معه: "أتينا لنحمي المقدسات، ونعيد الناس إلى ديارهم، ونكسب تعاونهم وثقتهم. وقد كان هذا نجاحنا الأكبر".
وأضاف حميد، بلحيته المهذبة وزيه العسكري الزيتوني ومسدس غلوك 9 مم في وسطه، إنَّه فخورٌ بانضمامه لجيش المهدي، لكنه يصر أنَّ سرايا السلام جماعةٌ مختلفة، رغم ضمها الكثير من مقاتلي جيش المهدي.
وشرح حميد قائلاً: "جيش المهدي قاتل الأميركيين لأنَّهم كانوا يحتلون البلاد. وسرايا السلام تقاتل داعش لأنَّهم مجرمون".
لكنه ساهم في ازدهار المدينة وأمنها
وغالباً ما عمدت الميليشيات الشيعية التي احتشدت في مواجهة المتطرفين السنة من داعش في المدن العراقية الأخرى إلى الإساءة للسكان المحليين من السنة. لكنَّ انتشار سرايا السلام التابعة للصدر في سامراء أسهم في الحفاظ على ازدهار المدينة وأمنها لسكانها السنة البالغ عددهم 300 ألف شخص.
ويقول مهدي البازي، معلمٌ يبلغ من العمر 53 عاماً في سامراء: "كنا خائفين في البداية لأنَّنا سمعنا كثيراً عن عمليات القتل الجماعية التي ينفذها جيش المهدي بحق السنة. لكنَّ سرايا السلام التي جاءت إلى سامراء غيرت هذه الفكرة حين دافعت عن المدينة وحفظت أمنها".
ويضيف البازي إنَّ التواجد الكثيف للمسلحين وفَّر إحساساً بالأمن كان مُفتَقداً حين كانت القوات الحكومية هي التي تجوب الشوارع.
فقد كان لقواته الفضل في عودة السكان
أمَّا محمود خلف، عمدة سامراء منذ 2005، فقد أرجع الفضل إلى سرايا السلام في تسهيل عودة السكان الذين فرّوا من خطر داعش. في حين تواجه الميليشيات الشيعية في مدنٍ عراقية أخرى اتهاماتٍ بطرد السنة أو قتلهم. ويقول خلف: "لا يستفيد أي جانب من العلاقة العدائية بالسكان المحليين. وقد فهمت سرايا السلام هذا".
أيضاً سعى رجال الصدر إلى بناء الجسور مع المجتمع المحلي عبر إعادة تشغيل خطوط الكهرباء وشبكات المياه المغذية للمدينة، وأرسلوا وفوداً للمشاركة في احتفالات الأعراس المحلية، وتقديم واجب العزاء في الجنازات. ويُضيف خلف أنَّ سرايا السلام ضبطت نفسها بفاعلية، وعاقبت فورياً أعضاءها حال اتهامهم بسرقة المحال أو سرقة سيارات المدنيين أو التجبر على المواطنين.
في الماضي قاتل اللواء بالجيش العراقي فراس سامي ضد جيش المهدي. أما الآن فيتعاون مع رجال ميليشيا الصدر في العمليات الأمنية.
ويقول فراس: "كان مقاتلو جيش المهدي مجرمين ولصوصاً وقتلة. وحين غيروا اسمهم إلى سرايا السلام، تغيَّر كل شيء. إنهم منضبطون جداً ويحترمون القانون".
في المقابل هناك مَن يخشى مِن قوات الصدر
لكنَّ العديد من ضباط الجيش ومسؤولي الحكومة لا يتفقون مع آرائه، إذ يرون سرايا السلام عقبةً في وجه إخضاع الجماعات المسلحة بالعراق للحكومة المركزية. ومع أنَّ الصدر يقول إنَّه يرغب في دولةٍ عراقية قوية تكون فيها كل الأسلحة في أيدي الحكومة، يقول مسؤول إقليمي رفيع المستوى إنَّ سرايا السلام أصبحت "دولة داخل الدولة".
تحمل مركبات الجماعة المسلحة لوحات ترخيص مكتوباً عليها "سرايا السلام" بدلاً من اسم المنطقة المُسجَّلة بها المركبة. وأصدرت الجماعة، بخلاف الشائع في المدن الأخرى، أوامرها بأن يضمن أحد السكان المحليين أي وافدٍ خارجي من أجل دخول المدينة، ويتعيّن عليهم ترك بطاقات الهوية عند نقطة التفتيش حتى وقت المغادرة.
ويقول المسؤول -الذي تحدَّث بشرط عدم ذكر اسمه- خوفاً من عقاب قوات الصدر: "وجودهم خانق في المدينة، إذ يتحكمون في تحركات الجميع، ويخضع لهم الجيش والشرطة".
ويُشغِّل ملاك المطاعم المحلية قناة الأخبار الصدرية على أجهزة التلفاز حين يدخل مسلحو سرايا السلام مطاعمهم. بعضهم بلحيةٍ كثيفة، والبعض الآخر بتسريحات شعر بومبادور أكثر عصرية.
ويُكمل المسؤول: "إنَّهم يتصرفون كدولةٍ بوليسية، وهذا يظهر نواياهم الحقيقية".
منذ دخول الجماعة سامراء، اعتُقِل أكثر من ألفٍ من سكانها على يد جماعاتٍ "مجهولة"، دون أي أخبارٍ عن مصيرهم، وفقاً لأحد كبار المسؤولين بالمدينة. وأضاف المسؤول أنَّ الحكومة الوطنية تُحقق في هذه الاختفاءات، وأنَّ المشتبه بهم الرئيسيين هم مسلحو سرايا السلام.
ورفض كثيرٌ من سكان المدينة التحدث عن سرايا السلام، متذرعين بالخوف من العقاب على انتقاد الجماعة.
وقال أحد أصحاب المحال، يبلغ من العمر 25 عاماً، تحدث بشرط عدم ذكر اسمه: "لا أثق بهم. أريد أن يغادروا المدينة وتحل محلهم القوات الحكومية، لأنَّ سلطتهم الآن تفوق سلطة الدولة".
لكنهم مستعدون لتسليم سلاحهم
وقال حميد، القائد بسرايا السلام، إنَّ الإجراءات الأمنية الصارمة المفروضة في سامراء هي السبب الأوحد في عدم تعرض المدينة لأي هجومٍ إرهابي كبير منذ عام 2014. حميد من أبناء الجنوب الشيعي، ويقول إنَّه ينتظر بفارغ الصبر العودة إلى منزله ما إن يتأسس وجود قوي للحكومة العراقية في سامراء. ويُضيف أنَّ الصدر ما إن يصدر أوامره بتسريح السرايا فإنَّ المقاتلين "سينفذون الأمر في الدقيقة نفسها، في الساعة نفسها".
وأكَّد ضياء الأسدي، مسؤول المكتب السياسي لمقتدى الصدر، أنَّ مقاتلي السرايا النشطين البالغ عددهم 50 ألفاً في أنحاء البلاد، إضافةً إلى 250 ألف مقاتل احتياطي، مستعدون لنزع سلاحهم، وأشار إلى دعوة الصدر إلى استيعاب الجيش الوطني والشرطة عدداً صغيراً من رجال الميليشيات المستقلين.
لكنَّ الصدر أرسل رسالةً مفادها غير ذلك، حين أعلن مؤخراً عن دخوله في تحالفٍ حاكم مع رموزٍ شيعية تسعى إلى إبقاء ميليشياتها مستقلةً عن القوات الأمنية العراقية. ومع ذلك، يُصر الأسدي أنَّ تطور الصدر صادق، وينبئ بعراقٍ قوي يُعلي سيادة القانون ويتبع سياسةً خارجية مستقلة.
وقال عن الصدر: "هذا تطور طبيعي جداً من مرحلةٍ إلى أخرى… وكل المبادئ التي يتبناها الآن أصيلة. وهذا يعني أنَّه يؤمن بالمبادئ والإجراءات الديمقراطية ويتبناها ويعتنقها".
اقرأ أيضا
اجتمعوا في إسطنبول لتقرير مشاركتهم في الحكومة، تحالف جديد يتشكل لسنّة العراق