“ليس كافياً حتى لإطعام كلبٍ في هذا البلد!” إذا كنت من ميسوري الحال في مصر ثم توالت النكبات، فاعلم هذا ما حدث لك

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/04 الساعة 16:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/04 الساعة 19:52 بتوقيت غرينتش
People buy t-shirts with pictures of Egypt's army chief Field Marshal Abdel Fattah al-Sisi from a street vendor in central Cairo March 11, 2014. REUTERS/Asmaa Waguih (EGYPT - Tags: SOCIETY)

اعتاد إسماعيل بيومي أن تكون لديه خطط -بل وخطط كبيرة- للمستقبل، ولكن الآن تهدمت خطته بعد أن انهار مشروع العمر بالنسبة له.

بيومي (27 عاماً) يعد المدير الأكثر دخلاً في شركة متوسطة الحجم، بدخلٍ شهري يبلغ 6 آلاف جنيه مصري (335 دولاراً).

كان يريد شراء شقة؛ كي يتزوج بالفتاة التي أحبَّها. وكان ينبغي أن يكون قادراً على ذلك، فهو في نهاية المطاف موظف من الطبقة المتوسطة بمصر، التي عادةً ما تجني 170-560 دولاراً شهرياً.

لكن كما هو الحال مع ملايين المصريين، تخرَّبت حياته من جرَّاء الارتفاعات المتتالية في الأسعار والتضخُّم الجامح، حسب وصف تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.

"بعد التعويم رفضني والد حبيبتي!"

في غضون عامين، تراجعت قيمة دخل بيومي بمقدار النصف بسبب انهيار الاقتصاد. وقال: "أسعار كل شيء زادت بأكثر من الضعف منذ عام 2016، لكنَّ دخلنا ما يزال كما هو!".

وأضاف بيومي، الذي طلب من موقع Middle East Eye البريطاني عدم استخدام اسمه الحقيقي: "رفضني والد الفتاة التي أحببتُها لأنَّني لم أتمكَّن من تحمُّل نفقات شراء شقة".

وأوضح أنَّ تجهيز شقة بالقاهرة كان في المعتاد يُكلِّف 5590 دولاراً، لكن الآن بعد تعويم العُملة وارتفاع الأسعار، سيكون هذا المبلغ كافياً فقط لشراء الأجهزة الكهربائية.

وتابع: "يمكن أن يكون وضعي أفضل في غضون بضع سنوات، لكنَّ أسرتها لم تُطِق الانتظار".

وقال بيومي إنَّ رواتب زملائه تتراوح بين 1500 و4000 جنيه مصري (84-224 دولاراً). لكن الأساسيات مثل الوجبات الغذائية يصل سعرها إلى 2.8 دولار تقريباً. وأضاف: "هذا ليس كافياً لإطعام كلبٍ حتى في هذا البلد!".

ارتفاع الأسعار أثر بشكل مباشر على الطبقة الوسطى بمصر
ارتفاع الأسعار أثر بشكل مباشر على الطبقة الوسطى بمصر

بالتزامن مع احتفالات عيد الفطر جاءت الزيادة الأخيرة للأسعار

أصبحت ارتفاعات الأسعار ظاهرةً حياتية شائعة بمصر؛ إذ استيقظت البلاد في 16 يونيو/حزيران 2018 -فيما كانت تحتفل بعيد الفطر- على أنباء ارتفاع أسعار الوقود بصورةٍ مُضاعفة، وبالتبعية ارتفاع تعريفات النقل.

كانت تلك هي الزيادة الرابعة في الأسعار منذ أن أصبح عبد الفتاح السيسي رئيساً في يونيو/حزيران 2014، والثالثة منذ توقيع اتفاق قرض صندوق النقد البالغ 12 مليار دولار على مدى 3 سنوات في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

تهدف الخطة إلى خفض عجز الميزانية المصرية عن طريق تقليص الإنفاق الحكومي وزيادة الإيرادات.

وحتى قبل هذه الخطة، تَفَاقَم الضغط على الطبقات المتوسطة في مصر بعد تعويم الجنيه المصري، الذي شهد انخفاضاً بنسبة 150% مقابل الدولار الأميركي. وأدَّى هذا التعويم إلى ارتفاعٍ حاد في أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، ما أضرَّ بشدة بالطبقتين الفقيرة والمتوسطة.

والمشكلة أن مصر تعتمد على الاستيراد بشكل كبير 

تُعَد مصر اقتصاداً شديد الاعتماد على الاستيراد؛ إذ تأتي 75% من السلع الاستهلاكية الأساسية من الخارج. وبحلول نهاية عام 2017، كان معدل التضخُّم يبلغ مستوى 33%.

تضمَّن رفع الأسعار في يونيو/حزيران 2018، زيادةً بنسبة 20-40% في تعريفات سيارات الأجرة المعروفة بـ"الميكروباص"، والتي يعتمد عليها ملايين المصريين محدودي الدخل في انتقالاتهم اليومية.

واستهدفت كبرى الزيادات في أسعار الوقود، بنسبة 66.7%، أسطوانات البوتاجاز، التي تستخدمها ملايين الأسر محدودة الدخل في الطهي كبديلٍ عن الغاز. وشهد وقود الديزل و"بنزين 80″، اللذان تستخدمهما الميكروباصات والشاحنات، ثاني أعلى زيادة، بنسبة بلغت 50.7%.

قال بيومي: "اعتادت أسطوانات البوتاجاز أن تُكلِّف 7 جنيهات (0.40 دولار) في أيام الرئيس السابق محمد مرسي. لكن اليوم، تبلغ تكلفتها بحلول وقت وصولها إلى المستهلك 70 جنيهاً (4 دولارات)، أي أعلى بـ10 أضعاف".

وصل الأمر لتوقُّف البعض عن شراء الهدايا الثمينة، ولكنَّ هذين الزوجين اقترضا لعلاج السرطان!

بيومي ليس الوحيد الذي يعاني في ظلِّ المناخ الحالي، فقد أرجأ محمد، وهو سباك يبلغ من العمر 25 عاماً، خطط زواجه على نحوٍ مشابه لبيومي؛ لأنَّ مُدَّخراته التي تعادل 4470 دولاراً لم تعد كافية لشراء شقة من غرفتين في واحدٍ من أفقر أحياء القاهرة. وقال: "سعر الشقة نفسه الآن يبلغ 8945 دولاراً!".

وفي الوقت نفسه، يعيش أحمد زين، وهو موظف تسويق كتب، في أوائل الأربعينيات من عمره، على  ما يعادل 168 دولاراً شهرياً.

وشُخِّصَت زوجته، التي اعتادت أن تعمل، مؤخراً بالسرطان. وقال: "اعتادت أن تساعدني في نفقات أسرتنا. الآن تضاعف العبء. اضطررنا إلى اقتراض 1677 دولاراً لتحمُّل نفقات زوجتي الطبية؛ لأنَّنا اضطررنا إلى الذهاب لمستشفى خاص من أجل العلاج".

واضطر الزوجان أيضاً إلى خفض جودة وكمية تسوُّقهما الأسبوعي ليجدا ما يدخرانه.

يقول محمد أسعد (30 عاماً)، وهو أستاذ في إحدى الجامعات الخاصة بالقاهرة الكبرى، إنَّ راتبه البالغ 335 دولاراً زاد فقط بنسبة 7% منذ التعويم، وهو ما يعني أنَّه يفقد أموالاً بمجرد فرض زيادات الأسعار.

وأضاف أسعد، وهو أب لطفلين: "ما كنتُ لأواجه أيَّ مشكلةٍ لو كانت ارتفاعات الأسعار تقابلها زيادة في الأجر. لكنَّني أعاني الآن للحفاظ على مستوى حياة كريم لعائلتي".

وتغيَّر نمط حياة أسعد بصورة كبيرة في العامين الماضيين. فقال لموقع Middle East Eye: "اضطررتُ إلى التخلي عن الكثير من الأشياء التي تُعتَبَر الآن رفاهيات، مثل النزهات الاجتماعية، والعطلات الصيفية، وحتى الهدايا للأصدقاء".

والغريب أن الدولة قررت التخلي عن المدارس التجريبية الأفضل حكومياً!

تجبر الجودة السيئة للتعليم الحكومي والرعاية الصحية الكثير من المصريين المنتمين إلى الطبقة الوسطى، على الاعتماد على الخدمات الخاصة باهظة التكاليف.

وأوضح أسعد أنَّه أنفق أموالاً طائلة على المُعلِّمين الخصوصيين لأطفاله، وكذلك الذهاب إلى الأطباء الخاصين.

وأضاف: "تعبنا. لم نشهد أيَّ تحسُّنٍ في التعليم أو الرعاية الصحية. ولا نحصل على أيِّ شيء مقابل إجراءات التقشُّف".

اعتادت المدارس التجريبية التي تُموِّلها الحكومة أن تُقدِّم الجودة الأفضل للتعليم الحكومي في مصر، وتُقدِّم مناهج دراسية باللغة الإنكليزية مُكافِئة للمدارس الخاصة، لكن بمصروفاتٍ أقل كثيراً.

ووفقاً لآخر أرقام الحكومة، فإنَّ 85% من طلاب المدارس المصرية مُسجَّلون في المدارس الحكومية. ولا يُمثِّل أولئك المُسجَّلون في المدارس الخاصة إلا 7.4%.

لكن في أبريل/نيسان 2018، أعلن وزير التعليم طارق شوقي، أنَّ المدارس "ستُعرَّب"؛ بسبب التكلفة العالية لترجمة المناهج العربية إلى الإنكليزية.

وقال في مؤتمرٍ صحافي: "من يريد تعليم ابنه لغاتٍ يمكنه إدخاله مدرسة لغات أو السفر للدراسة في الخارج".

شكوك بأن دافع السيسي ليس اقتصادياً.. فهدفه معاقبة هذه الطبقة على ما فعلته يوماً

ينظر الكثيرون إلى التغييرات الاقتصادية باعتبارها محاولة مُتعمَّدة من الحكومة لتدمير الطبقة الوسطى لأنَّها قادت إلى ثورة 2011، حسب تقرير الموقع البريطاني.

كان يحيى حامد، وهو مُنتقِد للسيسي، وزيراً سابقاً للاستثمار بعهد مرسي، الذي عُزِل في يوليو/تموز 2013.

وقال: "الطبقة الوسطى هي العمود الفقري للمجتمع ومصدر التوازن. والسيسي بتدميرها يخلق مجتمعاً غير متوازن. هناك الكثير من السبل لتطبيق رفع الدعم. لكن السيسي اختار أسوأها. فلم يُوفِّر أي شبكات أمان، ولم يقم بالأمر تدريجياً. هذا يهدف إلى إنهاك المجتمع وصولاً إلى نقطة اللامبالاة السياسية".

وبالمثل، قالت داليا فهمي، وهي أستاذة علوم سياسية بجامعة لونغ آيلاند الأميركية، إنَّ إجراءات التقشُّف تزيل حتماً الطابع السياسي عن الطبقة الوسطى.

وأضافت لموقع Middle East Eye: "المواطن المصري العادي أصبح مُستغرِقاً للغاية في فكرة البقاء اليومي، لدرجة أنَّ أحداً لم يعد يتحدث عن السياسة، أو الحريات، أو دور الفرد في التغيير، والتي هي شعارات ثورة 2011".

لكنَّ آخرين يَرَوْن أن هذه الإجراءات التقشفية ضرورية ولولاها لكان هذا حال الجنيه المصري

مؤيدو الاتفاق مع صندوق النقد الدولي من جانبهم، يقولون إنَّه كان ضرورياً لإصلاح الاقتصاد المصري، رغم أثره على الفقراء والضعفاء.

وقال ديفيد باتر، الزميل المساعد ببرنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمعهد تشاثام هاوس، إنَّ مصر ليس أمامها خيار إلا تبني برنامج صارم لتأمين قرض صندوق النقد الدولي البالغ 12 مليار دولار.

وأضاف: "إن كنتم تتحدَّثون عن وضعية الاقتصاد في عام 2016، فالمؤشرات كانت مُقلِقة بشدة".

فالحكومة، وفقاً لباتر، كانت في "حالةٍ سيئة" بسبب المستويات المنخفضة من الاحتياطيات الأجنبية، والعجز النقدي الذي وصل لمستويات 12-14% من الناتج المحلي الإجمالي، والنمو الضعيف، والفجوة الكبيرة بين السوق السوداء وسعر الصرف الرسمي.

وقال إنَّ "معظم ما جاء بعد توقيع اتفاق صندوق النقد الدولي أملاه واقع سعر الصرف. ففي حال لم  يُعوِّموا سعر الصرف، مَن يعلم، لربما كان سعر الصرف في السوق السوداء 40 أو 50% الآن، وكانت احتياطيات النقد الأجنبي عملياً تساوي صفر".

التدابير التي اتخدتها الحكومة كانت من أجل
التدابير التي اتخدتها الحكومة كانت من أجل "حماية" الفقراء فقط

كما أن الحكومة بادرت بتنفيذ إجراءات لحماية الفقراء.. ولكن ماذا عن الطبقة الوسطى؟

"جرت حماية الطبقات الأفقر بدرجةٍ ما؛ لذا تأثَّرت الطبقة الوسطى والفقراء العاملون بشدة. لكن، هل كان ذلك مُتعمَّداً؟ ليس حقاً"، هكذا يقول باتر.

ونفذت الحكومة المصرية عدداً من البرامج لدعم الفقراء، من بينها برنامجان للدعم النقدي المشروط باسم "تكافل وكرامة" ، يقدِّم الأول دعماً للأسر الأَولى بالرعاية، الذين لديهم أطفال يقل عمرهم عن 18 عاماً بشرط ضمان ذهابهم للمدرسة، وألا يكون للمواطن دخل ثابت.

أما البرنامج الثاني "كرامة"، فهو يستهدف ذوي الإعاقة الذين ليس لهم دخل والأشخاص الذين يزيد عمرهم على 65 عاماً؛ ليوفر لهم العيش بكرامة.
أما الأغنياء، فرغم تضرُّرهم بطبيعة الحال من ارتفاع الأسعار، فإن كثيراً منهم استفادوا من رفع سعر الفائدة وتزايد قيمة العقارات التي يحتفظون  بها والتي زادت أسعارها بعد التعويم، إضافة إلى استفادة بعض التجار من فروق أسعار العملة، خاصة قبل التعويم وفي أثنائه.

والبعض يرى أن الإجراءات نُفِّذت في وقت قصير للغاية ولَم تعالج أصل المرض بالاقتصاد المصري

لكنَّ اقتصاديين منتقدين لاتفاق صندوق النقد الدولي يؤكِّدون أنَّ النمو الاقتصادي ممكنٌ باستخدام إجراءات بديلة.

فأحمد ذكر الله، وهو اقتصادي مصري بالمعهد المصري للدراسات في إسطنبول، يقول إنَّ استراتيجيةً اقتصادية خَمسية تُركِّز على تعزيز الإنتاجية يمكنها إصلاح العيوب الهيكلية في الاقتصاد المصري.

وأضاف: "المؤشرات الاقتصادية الكلية التي يشير إليها صندوق النقد الدولي هي كلها أعراض لمرضٍ مزمن، هو نقص الإنتاجية. ولجأ السيسي إلى برنامج صارم من صندوق النقد الدولي؛ بسبب توجهاته النيوليبرالية وافتقاره إلى رؤية اقتصادية"، حسب قوله.

وأضاف ذكر الله إنَّ إحدى المشكلات الأخرى تتمثل في أنَّ الإجراءات الاقتصادية تمَّت في الوقت نفسه وبسرعة؛ ما أدَّى إلى حراكٍ هابط بالنسبة لمعظم المصريين.

وتابع: "معظم المصريين الآن يعيشون في فقر". (الحراك الهابط يشير إلى انتقال أشخاص أو مجموعة من مستوى طبقة معينة إلى طبقة أدنى).

البنك الدولي يشير إلى وصول الفقر لمعدلات مرتفعة خاصة بالصعيد، أما الحكومة فتتوقف عن نشر الأرقام

ووفقاً للبنك الدولي، بلغت معدلات الفقر في بعض محافظات صعيد مصر في عام 2018 مستوى 60%.

وقال البنك: "إن التضخُّم المرتفع المتراكم على مدار الفترة بين السنة المالية 2015 والسنة المالية 2017 أدَّى إلى تقليل القوة الشرائية للأسر باختلاف مستوياتها، ما قلَّص الآثار غير المباشرة للنمو الاقتصادي، وأثَّر سلباً على الظروف الاجتماعية والاقتصادية".

ولم تنشر الحكومة المصرية بيانات عن معدلات الفقر منذ 4 سنوات، لكنَّها قالت في 2015 إنَّ المعدل كان 27.8%، وذلك بارتفاع عن معدل 26.3% في 2013.

وكان يمكن اتخاذ بدائل أقل وطأة.. والآن هناك سؤال يخيف الطبقة الوسطى 

"ما كان ينبغي رفع الدعم إلا بالتزامن مع سياساتٍ اجتماعية مُصمَّمة لتخفيف معاناة الطبقتين الوسطى والفقيرة، مثل زيادة ميزانية التعليم والصحة"، حسب وجهة نظر ذكر الله.

وقال: "الإنفاق على التعليم والصحة يمثل 60% من دخل المصريين في الطبقة الوسطى". لكن مع ذلك -بحسب ذكر الله- أصبح نصيبهما في ميزانية هذه السنة أقل من النسبة المنصوص عليها في الدستور.

والسؤال: هل ستتجاوز الطبقة الوسطى المصرية أكثر أجزاء اتفاق صندوق النقد الدولي قسوة بعد نهاية البرنامج؟

داليا فهمي تجيب: ليست متأكدة من ذلك.

وتقول: "ليس واضحاً أنَّنا سنشهد الاستقرار الذي يتصوَّره صندوق النقد الدولي، في حين أنَّنا نرى الآن بذور انعدام الاستقرار تتبلور في المجتمع من خلال هذه الإجراءات الجامحة"، حسب تعبيرها

علامات:
تحميل المزيد