ألقت الرئاسة السودانية بكل ثقلها لإنجاح مفاوضات جنوب السودان، بشكل لافت، استرعى انتباه الكثيرين، حول دوافع اهتمام الخرطوم المتأخر بملف الجارة الجنوبية التي طال فيها أمد الحرب.
ورأى محللون سياسيون أن السبب الرئيسي، الذي دفع حكومة السودان للتوجه جنوباً، هو "الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد"، ما جعلها تلجأ للجنوب لتصدير النفط الوارد منه عبر الموانئ السودانية.
وهو سبب يضاف لأربعة أسباب أخرى، رآها الخبراء وراء تبني الخرطوم للجمع بين فرقاء جنوب السودان.
إلا أن مصدراً في الرئاسة السودانية قال: إن "مجهود الرئاسة السودانية، خلال الأيام الماضية بإشراف الرئيس عمر البشير، وُجّه بالكامل صوب حدوث اختراق لصالح ملف السلام بجنوب السودان، لتحقيق مصلحة شعب الجنوب".
وأضاف المصدر، الذي فضل عدم كشف هويته: "سعينا ونجحنا في تحقيق خطوة تقود لسلام شامل، وهذا هو المهم".
وتُوّجت مساعي البشير وطاقمه بتوقيع رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت، ونائبه المقال (زعيم المعارضة المسلحة) ريك مشار، اتفاق سلام بالعاصمة السودانية في 27 يونيو/حزيران الماضي.
ونص الاتفاق على أن يُنهي الطرفان في غضون 72 ساعة من توقيع الإعلان كل الترتيبات الخاصة بوقف إطلاق النار، بما في ذلك فض الاشتباك، والفصل بين القوات المتمركزة في مواجهة بعضها.
الاقتصاد أولاً:
يتفق المراقبون على أن تحرك السودان نحو إحداث اختراق في ملف الحرب في جنوب السودان له دوافع اقتصادية قوية، تتعلّق بالوضع الاقتصادي المتدهور في السودان، وجارته الجنوبية.
ورأى الدبلوماسي المتقاعد، الطريفي كرمنو، أن الحالة الاقتصادية المتردية في دولتي السودان وجنوب السودان أدت إلى نجاح مبادرة الرئيس السوداني عمر البشير، لتحقيق السلام في دولة جنوب السودان.
وقال كرمنو: "الوضع الاقتصادي ضاغط في دولة السودان، وأزمة الوقود الأخيرة أوضحت عمق الأزمة الاقتصادية في البلاد".
وأضاف: "السودان يتطلّع لعودة إنتاج النفط في دولة جنوب السودان، ومن ثم تصديره والاستفادة من رسوم العبور عبر أراضيه، وصولاً إلى ميناء بشائر بولاية البحر الأحمر (شرق)؛ لضخ الأموال في شريان الاقتصاد المتكلس".
واعتبر الكاتب والمحلل السياسي فيصل محمد صالح أن تدخل دولة السودان، لإنهاء النزاع المسلح في جارتها الجنوبية "مسألة منطقية وطبيعية، خاصة أن البلدين تجمعهما أكبر حدود مشتركة، وتربطهما مصالح خاصة في التجارة الحدودية والنفط".
وِأشار صالح إلى أن "السودان يتطلّع للانتقال للاستثمار في الزراعة بدولة جنوب السودان، بصورة أكبر من دولتي أوغندا وكينيا".
ولفت إلى قضية أخرى، لها تأثير سلبي على اقتصاد وإمكانيات البلاد الشحيحة، تتمثل في أعداد اللاجئين الجنوبيين بالسودان، قائلاً: "الخرطوم تسعى أيضاً لتحقيق السلام في دولة جنوب السودان، لتقليل أعداد اللاجئين الذين ضغطوا على الإمكانيات الشحيحة في السودان".
وتقدر الحكومة السودانية عدد لاجئي جنوب السودان في البلاد بحوالي مليون و300 ألف، فيما تشير آخر إحصائية أممية إلى أن أعدادهم تبلغ نحو 771 ألف شخص.
وخلال الفترة الماضية، شغلت الحكومة السودانية قضية التدهور الاقتصادي المستمر؛ لا سيما بعد أن رفعت الحكومة سعر الدولار الجمركي من 6.9 إلى 18 جنيهاً.
ويعاني السودان من شح في النقد الأجنبي، منذ انفصال جنوب السودان، عام 2011؛ حيث فقد ثلاثة أرباع موارده النفطية، بما يقدر بـ80% من موارد النقد الأجنبي.
صورة إيجابية:
دفع بعض المحللين بسبب آخر، حفز الخرطوم للتوجه نحو جوبا حكومة ومعارضة، وهو بحثها عن "صورة إيجابية"، أمام المجتمع الدولي.
وقال الكاتب السوداني صالح: إن "السودان يسعى بصورة حثيثة، لتحسين صورته أمام المجتمع الدولي، وتقديم نفسه كوسيط موثوق ومحايد في أزمة جنوب السودان، ولا يرعى الحركات المسلحة، ولا يزعزع أمن دول الجوار".
وأضاف: "السودان يريد إظهار نفسه كصانع للسلام، ويحب الخير لجيرانه في الدول الأخرى".
ورأى صالح أن "مبادرة البشير لتحقيق السلام في جنوب السودان ستسهل التعامل مع الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، وتخفيف العقوبات المفروضة عليه".
واتفق السفير السابق كرمنو مع الرأي القائل بأن "الخرطوم تسعى أيضاً من خلال مبادرة الرئيس البشير لتحقيق السلام في جنوب السودان، لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، والخروج من مأزق المحكمة الجنائية الدولية".
ومضى قائلًا: "الخرطوم تسعى أيضاً لمواصلة الجولة الثانية في الحوار مع واشنطن، لإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب".
السلام في السودان:
طالما كانت خطوات السلام في السودان متعثرة، ولم تنجح الآلية الإفريقية رفيعة المستوى برئاسة ثامبو مبيكي في إحراز تقدم في مفاوضات السلام بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة خلال العامين الماضيين.
وعلى الرغم من توقيع الأطراف على "خارطة الطريق" في أغسطس/آب عام 2016، ظل التعثر ملازماً لهذه المفاوضات التي يرعاها الاتحاد الإفريقي.
ويشهد إقليم دارفور (غرب) حرباً منذ عام 2003؛ حيث تُقاتل ثلاث حركات رئيسية القوات الحكومية، أما جنوب كردفان (جنوب)، والنيل الأزرق (جنوب شرق)، فتُقاتل فيها "الحركة الشعبية/ قطاع الشمال" المتمردة، التي كان مقاتلوها ينتمون إلى "الحركة الشعبية لتحرير السودان" قبل انفصال الجنوب عن الشمال في 2011.
وتربط هذه الحركات المتمردة في دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان، علاقات قوية بجنوب السودان، واتهمت الخرطوم مراراً جنوب السودان بـ"إيواء مقاتلي هذه الحركات، وشن هجمات انطلاقاً من أراضيها".
ولهذا، سعت الحكومة السودانية، لخلق علاقات جيدة مع جنوب السودان، لتمارس الأخيرة ضغطاً على الحركات المسلحة للدخول في العملية السلمية في السودان، حسب عدد من المراقبين.
وقال السفير كرمنو: إن "السودان يريد أيضاً تطبيع العلاقات مع جوبا، خاصة أن حركات التمرد في دارفور، وجنوب كردفان والنيل الأزرق، لديها ارتباطات وثيقة بحكومة جنوب السودان".
الانفتاح خارجياً:
رأى البعض أن اندفاع السودان، لتحقيق سلام للجنوب يعود لرغبة الخرطوم في الإعلان عن تأثيرها على السلام في المنطقة، ودورها في تحقيق إنهاء ذلك؛ أملاً في نهاية العزلة الدولية مع الحكومة السودانية، والانفتاح بشكل أوسع على أميركا وأوروبا، وذلك باعتبار السودان دولة ذات تأثير إقليمي.
وقال الكاتب والمحلل السياسي، عبدالله رزق: إن "دور السودان الذي لا يلغي أدوار بلدان أخرى مثل: إثيوبيا وكينيا وأوغندا، وجنوب إفريقيا، والولايات المتحدة، تم التأكيد عليه في التفاهمات التي تمت بين الخرطوم وواشنطن، فيما يتعلق بمتطلبات شطب اسم السودان من القائمة الأميركية للبلدان الراعية للإرهاب".
وأضاف في حديث لـ" لأناضول": "تم التأكيد، ضمن أمور أخرى، على دور السودان في دعم السلام والاستقرار في الجنوب؛ بدلاً من دعم أحد أطراف الحرب، مثل جناح مشار، كما كانت تقول حكومة جوبا".
غير أن تحقيق السلام في دارفور، وجنوب كردفان والنيل الأزرق، يتطلب التعاون والتنسيق والتطبيع مع حكومة جوبا، وفقا للسفير السابق كرمنو.
في 6 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، رفع الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، العقوبات على السودان والمفروضة منذ عام 1997، لكنه أبقى عليه في قائمة "الدول الراعية للإرهاب"، وسط أنباء عن قرب رفع اسم السودان نهائياً من القائمة.
عبء الانفصال:
خطوة الرئيس السوداني بجمع الفرقاء الجنوبين، لم تأتِ من فراغ، وفق المحلل السياسي رزق، باعتبار أن البشير وطاقمه يسعون لإزالة عبء الجنوب بعد انفصاله عن السودان.
وأوضح رزق في حديثه لـ"الأناضول"، أن "تحقيق السلام في الجارة الجنوبية للسودان، ظل هماً لبلدان الهيئة الحكومية للتنمية بشرق إفريقيا (إيغاد)، وشركائها، والأوروبيين والأميركان، والأخيران هما اللذان تضامنا من أجل انفصال الجنوب عن الشمال، لوقف الحرب التي اندلعت بين أطراف الجنوب المستقل".
و"إيغاد" هي منظمة حكومية إفريقية شبه إقليمية، تأسست عام 1996، تتخذ من جيبوتي مقراً لها، وتضم كلاً من: إثيوبيا، كينيا، أوغندا، الصومال، جيبوتي، إريتريا، السودان، وجنوب السودان.
وأشار إلى أن "هذه الجهود أثمرت اتفاقية أغسطس/ آب 2015، التي لم تجد حظها من التطبيق بسبب معارضة أطراف رئيسية، ممثلة في أوغندا وحليفها سلفاكير".
ونوّه بأن هذه الأطراف سعت، منذ البداية، إلى تحميل السودان بعض عبء الدولة الوليدة، بالمساعدة في الخروج من أزماتها، وذلك من خلال عدد من اتفاقيات التعاون المشترك، التي تم توقيعها في أديس أبابا بين الجانبين.
ومضى قائلاً: "وبعد فشلهم، عادت الأطراف التي تحتكر إدارة أزمة الجنوب، لإشراك السودان مجدداً في جهد جديد يتخطى اتفاق أغسطس/آب 2015، لإنهاء الحرب وتحقيق الوفاق بين أطراف حرب الجنوب، وذلك بعد أن فشلت محاولة إقصاء مشار من معادلة السلام، وإقصاء السودان أيضاً من أي دور في مساعي السلام وجهوده المتعثرة".
وانفصلت جنوب السودان عن السودان، عبر استفتاء شعبي عام 2011، وتشهد منذ 2013 حرباً أهلية بين القوات الحكومية والمعارضة، اتخذت بُعداً قبلياً.