لم يُخفِ مُحرّم إنجة، مُرشح حزب الشعب الجمهوري اليساري، أكبر أحزاب المعارضة، فخرَه بتجربته السابقة كأستاذ في المدارس الشرعية، وتأكيده في خطاب انتخابي في ولاية باليكيسير، في 28 مايو/أيار الماضي، أنّه سيجعل التعليم مجانياً بالكامل وعلمانياً وديمقراطياً، وسيُعامل مدارس الأئمة والخطباء (imam-hatip) مثل الثانويات العلمية العُليا.
ورغم تأكيد الفصل بين الدين والدولة في أدبيات السياسة التركية، إلا أن هناك جذوراً محافظة لشريحة معتبرة من المجتمع التركي، تجعل منها هدفاً مُهماً لخطابات وبرامج السياسيين الأتراك.
وأثارت صحيفة نيويورك تايمز في تقرير لها، وعوداً أطلقها الرئيس التركي منذ سنوات بتربية "جيل تقيّ" قبل ست سنوات، حين كان رئيساً للوزراء، من خلال تقرير تحديث عن وجود "انقسام بين الآباء" في تركيا، حول مدارس الأئمة والخطباء (imam-hatip) الآخذة بالانتشار في البلاد تحت حكم العدالة والتنمية.
وبالفعل، رغم عمل الحكومات المتعاقبة لحزب العدالة والتنمية على تطوير النظام التعليمي في تركيا، من خلال خطط شملت في 13 عاماً إنشاء 250 ألف صف دراسي جديد، ومضاعفة عدد الأساتذة في البلاد ليصل إلى 933 ألفاً، وتوزيع 1.4 مليون حاسب لوحي، و432 ألف سبورة ذكية تفاعلية، وغير ذلك من المبادرات، ولكن مدارس "إمام وخطيب" كان لها مكان خاص في هذه الخطط.
إمام وخطيب.. من الهامش إلى المركز
ظل خرّيجو مدارس إمام وخطيب طوال عقود على هامش المجتمع التركي، بسبب منعهم من الالتحاق بالعديد من الفروع المهمة في الجامعات التركية، وحصرهم بكلية الشريعة فقط. ومنهم صفوة حزب العدالة والتنمية، مثل الرئيس أردوغان وعدد من كبار مسؤولي الحزب ونوابه في البرلمان.
تُعد مدارس إمام خطيب أحد مُنتجات الجمهورية التركية الحديثة، فبعد إغلاق كل المدارس التابعة للأوقاف الإسلامية وأوقاف الأقليات الدينية، عملاً بقانون توحيد التعليم في عام 1923، الذي قالت الدولة إنه لا يهدف لمواجهة التعليم وإنما لمصلحة الدين، فتحت الدولة التركية مدارس الأئمة والخطباء.
لم تدعم الحكومات التركية حتى منتصف القرن العشرين مدارس الأئمة والخطباء مالياً، ولم تفتح المجال لخريجيها، فأُغلِقَ معظمها. ومع قدوم حكومة عدنان مندريس في عام 1950، دار جدل في البلاد حول الحاجة إلى إعادة فتح مدارس الأئمة والخطباء، فعادت هذه المدارس إلى الساحة التعليمية، وشهدت إقبالاً كبيراً بعد ما وُصِفَ بـ"الفقر الديني"، حيث كان العثور على مَن يَعرف الصلاة أو يقرأ الفاتحة على الموتى أمراً صعباً.
ومع قدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، تحسَّن وضع مدارس إمام خطيب، فزادت مخصصاتها المالية، وصار بإمكان خريجيها الالتحاق بأي جامعة يرغبون الدراسة فيها حسب نتائج امتحان الثانوية الموحّد. وتوجد في تركيا اليوم 4 آلاف و500 مدرسة إمام خطيب، تشكّل 7% من العدد الإجمالي للمدارس في تركيا (62 ألفاً و250 مدرسة). وقد تضاعف عددها 10 مرات خلال الـ15 عاماً الماضية.
رأى الكاتب التركي الليبرالي طه أكيول في مقال نشرته صحيفة حرييت، أن مدارس إمام خطيب "قصص نجاح لتركيا"، تجمع المعرفة الإسلامية الكلاسيكية بالمعرفة الحديثة، وإن نجاح تركيا بتحقيق هذه المعادلة ضَمِنَ عدم وجود أرضية خصبة للتشدّد والتنظيمات المتطرفة.
إمام خطيب في الخارطة السياسية
ينتمي معظم طلاب مدارس إمام خطيب إلى الفئة المحافظة، ومع ذلك هناك طلاب من خلفيات قومية وليبرالية ويسارية. ورغم عدم وجود خلاف بين الأحزاب السياسية الرئيسة حول هذه المدارس بالتحديد، إلا أنها ترد بين الحين والآخر في تقارير إخبارية وتحقيقات استقصائية تتناول الصعوبات التي عانى منها خريجوها السابقون أو منتسبوها الجدد.
تناولت صحيفة نيويورك تايمز في تقريرها، إجراءات إدارية للحكومة التركية مؤخراً، أدت إلى انزعاج بعض الآباء من إجبار أبنائهم على الالتحاق بمدارس إمام خطيب، ومن سياسة الحكومة الداعمة لهذا النوع من المدارس. إلا أن الحقيقة أن انزعاج الأهالي موجود على الطرفين: الراغبين في الالتحاق بإمام وخطيب أو الراغبين بالالتحاق بالثانويات العادية.
الصحفية التركية غولسة بيرسال، أشارت إلى أن وزارة التعليم تُحدد لكل طالب المدرسة الأقرب إلى بيته ليلتحق بها، سواء كانت ثانوية عادية أو إماماً وخطيباً، الأمر الذي قد يُعيق خطط الأهالي الذين يرغبون بتدريس أبنائهم في مدرسة من نوع غير المدرسة القريبة.
إلا أنه يحق للطلاب حسب بيرسال، الانتقال من المدرسة المحددة لهم إلى مدارس حكومية أخرى أبعد عن بيوتهم، أو إلى مدارس خاصة ذات كلفة باهظة، وهذان الخياران أزعجا بعض الأهالي الذين بات نوع المدرسة القريبة محدداً أساسياً لهم لاختيار موقع سكنهم.
تحفظات عالمية على "خطط أردوغان" لتطوير التعليم
أضيف اهتمام الحكومة التركية بمدارس إمام خطيب، إلى سلسلة من التحفظات التي أبدتها صحف عالمية، تجاه خطط الرئيس أردوغان لتطوير النظام التعليمي في تركيا.
فقد حذَّرت مجلات عالمية مثل "نيوزويك" الأميركية و"ذي إيكونوميست" البريطانية، من تدهور نظام التعليم في تركيا في عناوين وضعت "أردوغان مقابل داروين"، بعد أن أعلنت وزارة التعليم التركية إزالة، أي إشارة إلى داروين ونظرية التطور من مناهج المدارس.
وقالت نيوزويك إن تركيا "ستدفع ثمن" إزالة نظرية التطور من المنهاج الدراسي، داعية إلى منح الطلاب الحق في اختيار معتقداتهم. في حين أشارت إيكونوميست إلى أن المنهاج الجديد أصاب الليبراليين والعلمانيين "بالذعر"، من خلال تدريس المحاولة الانقلابية، في يوليو/تموز 2016، دون الإشارة إلى الحملة الأمنية التي تلتها.
حذَّرت المجلة البريطانية من "تدخّل الدين في التعليم"، ومن أن مدارس إمام خطيب "ستُدرّس مفهوم الجهاد"، وستدفع الطلاب إلى "تجنّب الزواج من علمانيين"، وستخصص غرفاً للصلاة، وستفصل بين الجنسين في الصفوف الدراسية.
تبدو مواصفات مدارس إمام وخطيب التي سردتها إيكونوميست أقرب إلى المدارس الكاثوليكية والبروتستانتية، التي أدّت إلى فصل اجتماعي حاد في أيرلندا الشمالية، حسب طه أكيول، الذي يحذر من الوقوع في "فخ المدارس المنفصلة"، فدور مدارس إمام خطيب مختلف تماماً.
تُدرّس ثانويات إمام وخطيب حسب أكيول، المنهاج الوطني المعتمد في المدارس الثانوية، إضافة إلى مناهج دينية، وتملك وعياً متفرداً بالرموز الوطنية مثل العلم والنشيد الوطني، ويميل عدد كبير من خريجيها إلى الالتحاق بفروع جامعية علمية تُؤهلهم لوظائف بعيدة عن الجامعات والمدارس الشرعية التي حُشروا فيها لعقود ماضية.
مواضيع قد تهمك: