يخيَّل لنا أنَّه منذ زمنٍ بعيد، ليس بعيداً إلى هذه الدرجة في الحقيقة، كان من الآمن تماماً الرهان على خلافة جمال مبارك أو عمر سليمان لحسني مبارك في رئاسة مصر. وكذلك كان من المفترض بهيلاري كلينتون الآن أن تكون في بداية شهرها الثامن عشر من فترتها الرئاسية التاريخية للولايات المتحدة، ولم يكن من المفترض أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وكان من المفترض أن يؤيد الكولومبيون عقد اتفاقية سلام لإنهاء حرب الحكومة ضد حركة قوات كولومبيا المسلحة الثورية (FARC).
وبالنسبة لمجلة Foreign Policy الأميركية كان من المفترض بحزب تركيا الجديدة المُؤسَّس في عام 2002 أن يُنقِذ البلاد من الأزمة الاقتصادية التي حلَّت بها في عامي 2000 و2001، لكنَّ الحزب لم يفُز سوى بنحو 1% من الأصوات الشعبية في انتخابات ذلك العام. وبدلاً من ذلك حاز حزبٌ جديد آخر يُدعَى العدالة والتنمية على دعمٍ شعبي حقَّق له الأغلبية البرلمانية في تركيا، والكُل يعرف باقي القصة. أحياناً يتحقق بالفعل ما يعتقده الجميع، لكن غالباً ما يكون الواقع أقسى.
إجماع على أن أردوغان سيخوض جولة ثانية
وقالت المجلة الأميركية إنه في الأسابيع السابقة للانتخابات التركية التي ستُقام الأحد 24 يونيو/حزيران 2018، سادت نبرة خطابٍ وأصبحت هيَ التوقع العام للَّحظة الحالية: سيفشل رجب طيب أردوغان في الحصول على أكثر من 50% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية، ما سيُجبره على خوض جولةٍ ثانية، ليفوز في النهاية بمنصب الرئاسة.
ومع ذلك، سيخسر حزب العدالة والتنمية سيادته على البرلمان التركي. تستند هذه الاستنتاجات المذكورة إلى استطلاعات رأي، وتقارير إعلامية دقيقة من تركيا، وتحليلاتٍ متقنة من مجتمع أبحاث السياسات. هذا سيناريو منطقي للغاية، لكن علينا كذلك التعامل معه بحذر. فقد عمل أردوغان بدأبٍ طوال فترة قاربت السبعة أعوام، ليُحقِّق حلم "الرئاسة التنفيذية". لا يبدو الأمر متسقاً مع شخصية أردوغان أن يتنحَّى بلطفٍ عن السلطة.
لكن ماذا لو عدنا قليلاً إلى الوراء!
وفي يونيو/حزيران عام 2015، فاز حزب العدالة والتنمية بنسبة 40% تقريباً من مجمل الأصوات في الانتخابات البرلمانية. وبالنسبة لمستوى المنافسين ذاك العام، كان حصوله على ذلك الرقم أمراً يدعو للحسد، إلَّا أنَّها كانت خسارة فادحة في نظر أردوغان وحزب العدالة والتنمية. لم يخسر الحزب 9 نقاطٍ مئوية من الأصوات الشعبية فقط، بل إنَّه كذلك خسر 69 مقعداً في البرلمان، ما جعله يخسر أغلبيته البرلمانية.
وبعد ساعاتٍ عديدة من الصمت من جانب قصر أردوغان، أسند أردوغان لأحمد داود أوغلو، عضو حزب العدالة والتنمية ورئيس وزراء تركيا آنذاك، مهمة بدء التفاوض مع الأحزاب الأخرى لتشكيل حكومةٍ ائتلافية في خلال فترة 45 يوماً يُقرَّها الدستور لمثل تلك السيناريوهات.
ما حدث بعد ذلك هو أنَّ أردوغان استأنف الهجوم الذي كان قد بدأه خلال الحملة الانتخابية ضد حزب الشعوب الديمقراطي ذي الأغلبية الكردية. قرن أردوغان الجماعة بحزب العمال الكردستاني، الذي يشنّ حرباً على الدولة التركية منذ عام 1983. ورداً على ذلك الهجوم، استبعد حزب الشعوب الديمقراطي احتمال الانضمام إلى محادثاتٍ مع حزب العدالة والتنمية.
وفي الوقت ذاته، شكَّك مستشارو الرئيس علانيةً في جدوى مفاوضات الائتلاف، في إشارةٍ إلى أنَّ الرئيس يُفضِّل إجراء انتخاباتٍ جديدة. وفيما اشترك داود أوغلو في محادثاتٍ مع الأحزاب الأخرى، اندفع أردوغان مهاجماً المحادثات بدعوى الحاجة للاستقرار، مذكراً الأتراك بالحكومات الائتلافية الضعيفة التي تولَّت البلاد في تسعينيات القرن الماضي، وكان ذلك عقداً تعثرت فيه الدولة التركية من أزمةٍ إلى أخرى.
هدايا اقتنصها أردوغان
تلقَّى أردوغان كذلك مساعدةً غير مقصودة عندما قتل إرهابيون أكراد رجلي شرطة نائمين في بلدة جيلان بينار التركية، بالقرب من الحدود السورية، ما أذن بعودة الحرب النشطة بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية. ووجد الرئيس أردوغان في عمليات القتل والرد الكاسح من جانب قوات الأمن التركية فرصةً ليصقِل أوراق اعتماده كسياسي قومي مناهض للإرهاب، بجانب التحذير من ثمنٍ أعلى ستدفعه تركيا ما إن كانت تحت يد حكومةٍ ائتلافية.
وفي ظل أحداث العنف تلك، اقتنع قادة حزب الحركة القومية أنَّه نتيجة فوزهم بـ27 مقعداً برلمانياً في انتخابات يونيو/حزيران، أصبحت لهم الآن يدٌ عليا على داود أوغلو وحزب العدالة والتنمية، الذي حاز بدوره ثلاثة أضعاف هذا العدد من المقاعد، في مفاوضات الائتلاف. وسمح عنف حزب العمال الكردستاني من جهة وانعدام أهلية حزب الحركة القومية من جهةٍ أخرى لأردوغان بهزيمة الجميع، معتلياً جناح القومية التركية.
وفي ظل تلك الظروف، لم تكُن لدى داوود أوغلو أية فرصة لتشكيل حكومة. وبدا وزير الخارجية التركي الأسبق، الذي كان من قبل وسيطاً قوياً ومفاوضاً مُقتدراً حتى في أكثر نزاعات الشرق الأوسط صعوبةً في موقف لا يحسد عليه.و تقرَّر إجراء انتخاباتٍ جديدة في وقتٍ لاحق من السنة ذاتها، يوم 1 نوفمبر/تشرين الثاني، وعندما أُعلِنت نتيجة الانتخابات الرسمية ذلك المساء، غرَّد أحد مساعدي الرئيس ونشر صورةً لأردوغان عبر موقع تويتر وهو يبدو مسترخياً، وعلى وجهه ابتسامة تشي برضاه عن نفسه. واستعاد حزب العدالة والتنمية جميع الأصوات التي خسرها في يونيو/حزيران ذاك العام، ومعها أغلبيته البرلمانية.
نعم مبكرة! وقبل عام ونصف من موعدها الأساسي، وهي الأهم في تاريخ #تركيا المعاصر.. لكن ما الأسباب التي دفعت #أردوغان للتبكير بالانتخابات؟
يبدو أن ما يفعله أردوغان يعطي فرصة لحزبه للمحاولة من جديد لكنه قد يضع تركيا في حالة من عدم اليقين #الانتخابات_التركية pic.twitter.com/eKF0UG09g6
— عربي بوست (@arabic_post) June 22, 2018
صلاحيات ما بعد الاستفتاء
وبعد مرور عامٍ ونصف العام، طُلِب من الأتراك أن يصوتوا بـ"نعم" أو "لا"، على مجموعةٍ من 18 تعديلاً دستورياً، من شأنها إن شُرِّعت، أن تغيّر من السياسة التركية، بإنهاء النظام البرلماني-الرئاسي الهجين، في صالح ترتيباتٍ جديدة تُقوِّي بشكلٍ كبير من سُلطة الرئاسة.
انتصر أردوغان وحزب التنمية والعدالة مجدداً، إذ فاز خيار "نعم" بنسبة 51.4% في مقابل 48.6% لخيار "لا"، لكنَّ الاستفتاء لم يخل من الجدل. إذ وجَّهت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا اتهاماتٍ أفادت بأنَّ العملية بأكملها جرت على "ملعبٍ غير مستوٍ"، حيث أدَّت "هيمنة حزب العدالة والتنمية في التغطية الإعلامية، وكذلك القيود المفروضة على الإعلام، للحدِّ من تعرُّض الناخبين لآراءٍ متعددة".
يجب على ما حدث في عامي 2015 و2017 أن يكون عبرةً لمن يحاول التنبؤ بما قد يحدث، الأحد 24 يونيو/حزيران.
كانت إعادة انتخابات عام 2015 ضروريةً حتى يحتفظ حزب العدالة والتنمية بالأغلبية البرلمانية، وبالتالي كي يتمكن من إقرار التعديلات الدستورية التي أرادها أردوغان لتشكيل رئاسته التنفيذية. وكان استفتاء عام 2017 بدوره متعلقاً بتمرير التعديلات الدستورية، وإحاطتها بغطاءٍ من الشرعية.
أقوى رئيس شهدته تركيا خلال 80 عاماً
تعِد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المرتقبة أن تضع سلطة الرئاسة التنفيذية حيز التنفيذ، ما من شأنه أن يُرسِّخ وضع أردوغان باعتباره أقوى رئيسٍ شهدته تركيا خلال الثمانين عاماً الماضية. وتحت النظام الجديد، إذا ما أُعيدَ انتخاب أردوغان واحتفظ حزب العدالة والتنمية بالأغلبية البرلمانية، فسيحظى الرئيس بسلطةٍ غير مسبوقة كي يدفع قدماً بخطته لتغيير المجتمع التركي، بإضعاف كلٍّ من قيم ومؤسسات الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، الجيد منها والسيئ، بحسب المجلة الأميركية.