يقف أبو علاء عند مقدمة قاربه الخشبي المخصص لصيد السمك، وهو يطفو في مياه نهر دجلة بمنطقة الرشيدية شمالي مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى شمالي العراق.
الابتسامة تعلو وجهه، وهو عائد من جولته الصباحية الأولى لصيد الأسماك، إذ جلب معه ما يسر خاطره، بعد ارتفاع منسوب مياه النهر، بفضل ضخ تركيا المزيد من المياه في النهر.
فقد أعلن السفير التركي في بغداد، فاتح يلدز، يوم 7 يونيو/حزيران الجاري، أن بلاده أرجأت ملء سد "إلي صُو" (Ilısu) جنوب شرقي تركيا، حتى مطلع يوليو/تموز المقبل، وذلك بعد سبعة أيام فقط من بدء عملية التخزين.
وهذه هي المرة الثانية التي ترجئ فيها أنقرة تخزين المياه في السد، للحفاظ على إمدادات المياه للعراق، بعد أن كان مقرراً بدء العملية في مارس/آذار الماضي.
موقف إيجابي
وهو يرسو بقاربه على ضفة دجلة، تحدث أبو علاء للأناضول عن المصاعب التي واجهها صيادو السمك عند انخفاض منسوب النهر، وكيف عادت الحياة إلى دجلة وما حوله.
وقال إن الأيام التي شهدت انخفاض منسوب المياه توقَّفت فيها مهنة الصيد، وجفَّت مساحة واسعة من النهر، ما أثار خوف وقلق الجميع.
وتابع: لكن بعد قرار تركيا تأجيل ملء السد، وإطلاق المياه نحو الأراضي العراقية، عاد الصيادون إلى ممارسة مهنتم، بفضل عودة الروح إلى النهر الذي يمد الجميع بالحياة.
قبل أن يستعد للانطلاق مجدداً في رحلة صيده، ابتسم أبو علاء، وقال إن "الموقف الإيجابي للجارة تركيا من العراق سيسجله التاريخ"، ثم مضى نحو النهر ورمى بشباكه في أحضان دجلة.
امتداد لتاريخ تركيا
"سكان الموصل ممتنون من الجارة تركيا لموقفها الأخير من أزمة المياه".. بهذه العبارات تحدث محمد السبعاوي، وهو صحفي وناشط في مجال إغاثة الأطفال وحقوق الإنسان.
وقال السبعاوي للأناضول، إن "سكان الموصل بتاريخهم وثقافاتهم يعدون أنفسهم امتداداً لثقافة وتاريخ تركيا، ويشعرون أن لهم حقاً على الجارة، التي طالما وقفت معهم، ومدت يد العون لمساعدتهم في الأزمات".
وأضاف أن "أزمة المياه، ثم حلها بسرعة كبيرة زادتهم إيماناً بصدق الروابط التي تربط شعب الموصل، والعراق عامة، بتركيا".
وأوضح السبعاوي أن "ارتفاع مناسيب نهر دجلة مجدداً أعاد الحياة إلى الموصل".
وأردف: "في الأيام التي شهدت تخزين كمية من المياه في سد "إلي صُو"، ظهرت أجزاء واسعة من قاع النهر، فارتسم الحزن والحسرة على وجوه السكان، ثم ابتهجوا بعودة المياه إلى مجاريها".
قيادة واعية
يبتسم أبو نضال، وهو يقف في ساعات الصباح الأولى عند مدخل الجسر القديم، الرابط بين جانبي الموصل، ليطعم الطيور ويستمتع بمنظرها وهي تدنو من دجلة، ثم ترتفع في أعالي السماء.
أبو نضال قال للأناضول: "أنا هنا يومياً منذ 55 عاماً، عندما كان يصطحبني والدي معه من منزلنا في حي الفيصلية بالجانب الشرقي للمدينة إلى مكان عملنا في السرجخانة وسط المدينة".
وأضاف: "وخلال المرور على الجسر أقف لأطعم الطيور، وبعدها أمضي، وأنا على هذا الحال حتى غطى الشيب رأسي".
وتابع: "في الأيام التي قرَّرت فيها الجارة تركيا ملء سدها الاستراتيجي بالمياه، كنت أقف عند الجسر وأنظر إلى القاع، الذي كشف عن نفسه، وكلي إيمان أن القيادة في تركيا لن تقبل أن يلحق الضرر بأي إنسان".
وأردف أبو نضال أنه كان متأكداً أن القيادة التركية "ستتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، فهي قيادة واعية تقدر الظروف، وبالفعل كان إيماني صائباً، وها هو النهر ينتعش مجدداً، لينعش معه كل مواطن عراقي بسيط".
قبل أن يهم بالمغادرة قاصداً مكان عمله، قال المواطن العراقي إن "تركيا لن تتخلى عن شعب الموصل، أو تسمح أن يلحق به ضرر، مهما حاول البعض أن يصور ذلك".
وتابع أن "سكان الموصل كانوا وما زالوا وسيبقون على علاقة وثيقة بجارتهم، وهذا سيُساعد على تجاوز الأزمات، مهما اشتدت أو تعقَّدت".
منبع دجلة
ينبع نهر دجلة من جبال طوروس، جنوب شرقي الأناضول في تركيا، ويبلغ طول مجراه نحو ألف و718 كيلومتراً، 1400 كيلومتر منها داخل العراق.
ويعتبر دجلة، إلى جانب نهر الفرات، شريان الحياة بالنسبة للكثير من العراقيين، إذ يغذي النهران الكثير من محطات تصفية المياه، وتُستخدم مياههما لري المزروعات على طول ضفتيهما.
ويمر نهر دجلة من وسط الموصل، ويشطر المدينة إلى قسمين من الشمال إلى الجنوب.
الباحث في الشأن العراقي، عمر الطيار، قال للأناضول إن "الموقف الإيجابي للجارة تركيا من أزمة المياه جعل الشعب العراقي يبصر حقيقة الأمور، ويعرف مَن معه، ومَن ضده، ومَن يسعى لخدمته، ومَن يسعى إلى تدمير مصالحه".
وأردف أن "إيران قطعت في الوقت ذاته نحو 30 نهراً صغيراً تنبع من أراضيها وتدخل العراق، دون أي ردة فعل عراقية واضحة، لاسيما من أولئك الذين يتحدثون ليل نهار عن حرص إيران على مصالح الشعب العراقي".
ومضى الطيار قائلاً إن "أزمة المياه نتاج لفشل الطبقة السياسية الحاكمة في العراق، ويجب العمل على حلها بتشكيل لجان مختصة تسعى إلى توفير بدائل حقيقية، بعيداً عن تصعيد المواقف وإيجاد أزمات يتضرر منها المواطن أكثر".
وختم الباحث العراقي بأن "من حق تركيا ملء سد أليسو، لكون العراق فشل منذ تسعينيات القرن الماضي في الاستفادة من المياه، ولم يحل ولو جزءاً بسيطاً من أزمة الكهرباء".
ويعاني العراق، منذ سنوات، من انخفاض منسوب مياه نهري دجلة والفرات؛ جراء قلة تساقط الأمطار في فصل الشتاء.
ولدى العراق بنية تحتية محدودة في قطاع السدود المائية، وهو ما يسبب شحاً في مياه الشرب وسقاية المزروعات، خلال الصيف.