بعد نظر أول قضية اختفاء قسري.. تونس تحيل هيئة الحقيقة والكرامة إلى التقاعد، و62 ألف شكوى ما زالت في ذمَّتها

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/08 الساعة 10:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/08 الساعة 13:28 بتوقيت غرينتش

من بين أكثر من 62 ألفاً و700 شكوى قدَّمها ضحايا الحكم السابق في تونس لهيئة الحقيقة والكرامة، وصلت واحدة فقط للمحاكم، وبدأ النظر فيها، ولكن حتى دون استدعاء للمتهمين.

هزَّت قضية الناشط الإسلامي عادل ماطماطي تونس، بعد أن بدأت إجراءاتها في الأسبوع الماضي بجلسة استماع واحدة.

يعد ماطماطي واحداً من 194 حالة مسجلة لأشخاص اختفوا قسرياً خلال حكم أول رئيس تونسي، الحبيب بورقيبة الدكتاتوري، وخلفه الرئيس زين العابدين بن علي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.

"كانوا يعلِّقوننا من النوافذ ورؤوسنا لأسفل، أو يجعلوننا نجلس فوق زجاجات؛ بل كانوا يضربوننا دون طرح أي أسئلة"، هكذا وصف عبد الله بن عامور الانتهاكات التي شهدتها الزنزانة، التي تزامل فيها مع عادل  ماطماطي.

وتعمل الهيئة منذ 4 سنوات لإنصاف ضحايا الديكتاتورية. ومن بين الشكاوى المقدَّمة، أبدى نحو 23 ألف ضحية رغبتهم في الوساطة بدلاً من اللجوء إلى المحاكمة.

إنهم يخشون جميعاً المساءلة.. فحتى البرلمان رفض تمديد عملها

المفارقة أن مدة ولاية الهيئة البالغة 4 سنوات قد انتهت في 31 مايو/أيار 2018، بينما قامت الحكومة بتمديدها حتى نهاية العام؛ لإنهاء أعمالها.

وكان يمكن للبرلمان التونسي، في مارس/آذار 2018، أن يتخذ قراراً بتمديد فترة عمل هيئة الحقيقة والكرامة عاماً آخر، ولكنه صوّت بإلغائها.

وذكرت رئيسة الهيئة، سهام بن سدرين، خلال حوار أجرته مؤخراً، أن قرار البرلمان يشكل أحدث العقبات التي وضعها كبار مسؤولي الحكومة في طريق عمل هيئتها، حسب قولها.

وقالت سدرين: "كان هذا التصويت بمثابة المحاولة الأخيرة من جانب هؤلاء الذين يخشون المساءلة، وخاصة رئيس الجمهورية وحاشيته، الذين لم يدعموا عملية العدالة الانتقالية مطلقاً".

حاولت التطلُّع إلى نماذج العدالة الانتقالية الناجحة

وتعد تونس، التي بدأت من خلالها موجة ثورات الربيع العربي في أواخر 2010، الأكثر نجاحاً بين سلسلة الثورات اللاحقة. وقد أنهت الثورة 60 عاماً من الديكتاتورية وحققت بعض الديمقراطية والكثير من الحريات الفردية.

وكانت ولاية هيئة الحقيقة والكرامة أيضاً هي الأولى في العالم العربي؛ نظراً إلى مداها وطموحاتها. وقد نشأت عن قانون العدالة الانتقالية الذي تم إقراره عام 2013؛ وبدأت الهيئة عملها في العام التالي (2014).

وتطلعت تونس إلى كينيا وأميركا اللاتينية؛ للتعرف على نماذج من أنظمة العدالة الانتقالية. وكان من المأمول في المقابل، أن تكون مصدر إلهام للبلدان العربية الأخرى التي تعرضت للثورات منذ 2011.

ولقد سعت للمصالحة بين الضحايا والمتهمين بعيداً عن نظام العدالة

وقد اضطلعت الهيئة بالعديد من المهام؛ تمثلت إحداها في الوساطة بين الضحايا ومقترفي الجرائم، في محاولة لتحقيق المصالحة الوطنية بمنأى عن نظام العدالة. وتستطيع الأُسر مواجهة المتهمين والحصول على اعتذار عام والتزام بالكشف عن الحقيقة.

وفي حالة الجرائم الأشد خطورة، تمت مطالبة الهيئة بالكشف عن المظالم السابقة وتسجيلها وإحالة المسؤولين عن الاضطهاد إلى شبكة من المحاكم الخاصة. وتلقت الهيئة أكثر من 62 ألفاً و700 شكوى لدراستها؛ ومن بينها أبدى نحو 23 ألف ضحية رغبتهم في الوساطة بدلاً من اللجوء إلى المحاكمة.

قضيتها الأولى .. تفاصيل التعذيب معلنة ولكن هناك من أراد منعها

وفي الأسبوع الماضي، عقدت المحكمة الخاصة بمدينة قابس (جنوب تونس) أولى جلسات الاستماع في قضيتها الأولى، التي تعود إلى 30 عاماً مضت. وقد كانت جلسة رائدة، بحسب ما ذكره بعض الحضور؛ لأنها المرة الأولى التي يذكر خلالها الشهود -ومن بينهم الشرطة- صراحةً، تفاصيل التعذيب والعنف الممنهج في ظل الديكتاتورية السابقة.

وقد منحت جلسة الاستماع لمحة أمل لـ"بن سدرين" والعديد من الأسر التي عانت على مدار عقودٍ الديكتاتورية بإمكانية تطبيق العدالة.

وقالت بن سدرين قبل بدء المحاكمة الأولى بأيام: "كان التصويت بالبرلمان خطوة نحو منعنا من العمل".

ولفتت إلى أن التصويت ضد تمديد ولاية الهيئة جاء بعد أيام من قيامها بإحالة تلك القضية إلى المحكمة.

ولكن، لم تكن هذه العقبة هي الوحيدة أمامها.. فالرئيس أطلق عملية بديلة

كان القرار بمثابة إحدى العقبات المتعددة التي تم وضعها في طريق الهيئة. وكان أشدها خطورة هو إقرار قانون مصالحة جديد في سبتمبر/أيلول عام 2017، يتجاوز ويقوّض عملية العدالة الانتقالية، بحسب ما ذكره منتقدو القانون.

وقد دعم الرئيس الباجي قايد السبسي، الذي شغل مناصب بارزة في ظل حكم الدكتاتور السابق، عملية المصالحة الحكومية بدلاً من الهيئة المستقلة، وقام باقتراح القانون.

ومنح القانون الجديد العديد من قادة الأعمال والمسؤولين خيار التعامل مع الحكومة بدلاً من التعاون مع الهيئة المستقلة. وسمح لقادة الأعمال المتهمين بالفساد بتجنُّب الاتهامات الموجهة إليهم، من خلال التوصل إلى تسوية مالية مع الحكومة لرد جزء على الأقل من مكاسبهم غير المشروعة.

ونص القانون أيضاً على عدم إمكانية مساءلة الموظفين العموميين السابقين الذين لم يتورطوا بصورة مباشرة في الجرائم السياسية أو الفساد عن أفعالهم في ظل الحكم الدكتاتوري.

ولا يُلزمهم قانون المصالحة بتقديم اعتذارات عامة أو الكشف عن جرائمهم علناً.

وذكر أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة أن هذا يتعارض مع مهمتهم، التي تتمثل في مساءلة المتهمين أمام الشعب التونسي.

حتى الأرشيف ممنوع.. والنتيجة أن المتهمين استغلوا الفرصة

وقالت علا بن نجمة، رئيسة التحقيقات بالهيئة: "امتنع الكثير من المتهمين عن الحضور إلى هيئة الحقيقة والكرامة بعد إقرار القانون. فقد وجدوا فرصة للإفلات من العقاب".

وذكر مسؤولو الهيئة أن إحدى الطرق الأخرى التي عرقلت الحكومة من خلالها عمل الهيئة تتمثل في منع إمكانية الوصول الكامل إلى أرشيفات بعض الوزارات الحكومية، والتي قد تتضمن أدلة محتملة على اقتراف جرائم سابقة.

وأصر وزير حقوق الإنسان والمجتمع المدني التونسي، مهدي بن غربية، على أن الحكومة لا تزال تدعم هيئة الحقيقة والكرامة، مشيراً إلى منح فترة التمديد لتسليم أعمالها كدليل على ذلك.

وقال خلال حوار هاتفي: "رغم التوترات السياسية، فإننا جميعاً ندعم العدالة الانتقالية الآن. ونريد أن نضمن أن تستمر العملية حتى بعد أن تُنهي هيئة الحقيقة والكرامة أعمالها".

إنهم محصَّنون فلا أحد منهم حضر الجلسة   

وترجع القضية التي بدأت في الأسبوع الماضي، إلى عام 1991، حينما اعتقلت الشرطة شاباُ يدعى كامل ماطماطي، وقامت بتعذيبه حتى لقي حتفه في المعتقل، بحسب شهادة الشهود. وكان يبلغ من العمر 21 عاماً.

وقد تم اتهام 14 شخصاً -من بينهم الرئيس السابق زين العابدين بن علي ووزير الداخلية السابق عبد الله كالل والعديد من قادة الشرطة- بإخفائه قسرياً وتعذيبه وقتله. ولم يمثل أي منهم أمام المحكمة.

وأعربت روضة القرافي، رئيسة اتحاد القضاة التونسيين، عن دهشتها لعدم مثول أي من المتهمين أمام المحكمة خلال اليوم الأول من المحاكمة.

وقالت خلال حوار أُجري معها بعد جلسة الاستماع: "من الواضح أن المحكمة لم تستدعِ سوى واحد منهم فقط. ولم يتلقَّ الآخرون أي أوامر استدعاء".

وأضافت: "إنه أمر مؤسف للغاية؛ لأن هذه المحاكمة تاريخية. إنها بمثابة فرصة حقيقية لتحقيق العدالة في تونس. وعدم مثول المتهمين يعني أنهم لا يحترمون عملية العدالة وأنهم لا يزالون يتمتعون بالحصانة".

ورغم ذلك فقد اعتُبرت المحكمة انتصاراً للهيئة

ورغم عدم وجود المتهمين، كانت جلسة الأسبوع الماضي انتصاراً لهؤلاء الذين دعموا أعمال هيئة العدالة الانتقالية.

وأخبرت فاطمة بوانايا ماطماطي، والدة الضحية، أحد القضاة الخمسة الذين يتولون إجراءات المحاكمة، بقولها: "أودُّ بالفعل أن أعرف الحقيقة وأن أقيم جنازة ملائمة تليق بابني. فقد كان ابني الوحيد".

وشعوراً منها بخيبة الأمل مع اقتراب موعد نهاية ولايتها، سارعت الهيئة بإصدار 16 لائحة اتهام منذ مارس/آذار 2018.  

ويمكن أن تتضمن كل لائحة اتهام، العديد من الضحايا أو المشتبه فيهم؛ وقد ذكرت الهيئة أن لوائح الاتهام الـ16 المقدمة تغطي قضايا خاصة بعدد 245 ضحية.

جلسات مغلقة لمن رفض المصالحة.. والتحقيقات تحسم مصيره

ويتمثل جزء من مهمة المحكمة الخاصة في سؤال المتهمين، الذين تحدث بعضهم خلال جلسات مغلقة مع هيئة الحقيقة، ولكنهم رفضوا عملية المصالحة.

وتستطيع المحكمة الخاصة إصدار أحكام حتى في قضايا التعذيب التي عادة ما تسقط بالتقادم، على غرار قضية ماطماطي. وتحظى المحكمة بآليات تُجبر المتهمين على المثول أمامها، رغم أنها لم تستخدمها بعد.

وفتحت الشهادات التي تم الإدلاء بها خلال الجلسة آفاقاً جديدة، بحسب بعض الحضور في المحكمة.

إذ يتضمن ملف قضية كمال مطماطي، الذي كان مساعد مهندس بفرع شركة الكهرباء والغاز في قابس، كل هذه الانتهاكات مجتمعة؛ إذ تم إلقاء القبض عليه بتهمة النشاط النقابي والسياسي بحركة الاتجاه الإسلامي، عام 1991.

ولقد تعرض للضرب منذ اللحظات الأولى لاعتقاله، وواصل رجال الأمن ضربه في المركز حتى فارق الحياة. أوهموا الموقوفين معه بأنه نُقل إلى وزارة الداخلية، في تونس؛ لاستكمال التحقيق معه، في حين أنه كان جثة هامدة!

وتم طمس جثة كمال في أساس إسمنتى لقنطرة كانت قيد البناء بذلك الوقت، طبقاً لمعلومات نقلتها صحيفة القدس العربي عن قيادات أمنية.

ولأن الجهات الأمنية أنكرت معرفتها بمصير كمال، واصلت والدته، على مدى 3 سنوات، زيارة السجن بانتظام؛ إذ تقول: "كنت أحمل القفّة (السلة) لابني، وحريصة على أن يكون طبخ يديّ، هو طعامه. ثمّ اكتشفت الحقيقة! لم يكن يتناول شيئاً من طعامي؛ لأنّه ببساطة، كان متوفّياً!".

وقال سمير ديلو، عضو حزب النهضة الإسلامي، والذي كان معتقلاً سياسياً سابقاً ويعمل حالياً محامياً لأسرة ماطماطي: "سجَّلت كل كلمة من شهاداتهم؛ لأنني رأيت العديد من المحاكمات حول التعذيب، ولكني لم أسمع تلك الاعترافات".

وذكر رفيق آخر بالزنزانة وشاهد رئيسي يعمل طبيباً ويدعى على عمري، أنه تحقَّق من وفاة ماطماطي بعد أن ضربوه حتى الموت. وأكدت تحقيقات هيئة الحقيقة أن جثة ماطماطي قد نُقلت إلى مستشفى الشرطة في تونس.

ولم يستطع أحد خلال القضية أن يذكر ما حدث بعد ذلك.

 

­

 

علامات:
تحميل المزيد