نعرف أن دول الشرق الأوسط تحارب المنظمات الأهلية، تعالوا إذن نفهم سر الكراهية بين حكومات المنطقة و”فاعلي الخير المخلصين”

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/08 الساعة 17:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/09 الساعة 08:44 بتوقيت غرينتش
Saudi King Salman bin Abdulaziz (L) welcomes Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi at Riyadh international airport on November 10, 2015, as Arab leaders and top officials from South America converged on Saudi Arabia for a summit aiming to strengthen ties between the geographically distant but economically powerful regions. AFP PHOTO / FAYEZ NURELDINE (Photo credit should read FAYEZ NURELDINE/AFP/Getty Images)

في صيف عام 2011، زارت مجموعة من ضباط الجيش المصري واشنطن لأول مرة بعد خلع الرئيس حسني مبارك.

هكذا يبدأ الكاتب الأميركي ستيفن أ.كوك، مقاله عما يصفه بالعداوة بين حكومات الشرق الأوسط ومنظمات المجتمع المدني، الذي نشرته مجلة Foreign Policy الأميركية.

الوفد العسكري في الاجتماعات العلنية والمغلقة بالعاصمة الأميركية، ومنها وزارة الدفاع والمعهد الأميركي للسلام، كان يؤكد أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى السلطة التنفيذية بعد خلع مبارك "يُعِدُّ البلاد للديمقراطية".

وحين سأل بعض الحاضرين عن فرض قيود ثقيلة على منظمات المجتمع المدني، تلاشت الروح البناءة والودودة لـ"مصر الجديدة" وحلَّت روح "مصر القديمة" الجامدة. وحين ضغط الصحفيون على أعضاء الوفد غضبوا.

تُعَد القصة كاشفة، ليس لأنها فريدةٌ من نوعها، وإنما لأنها جزءٌ من نمطٍ يعم المنطقة بأكملها. الدليل على ذلك أن الحكومة السعودية اعتقلت الأسبوع الماضي 11 ناشطاً، وإن كانت بعض التقارير تشير إلى أن العدد وصل إلى 17، أحدهم على الأقل كان عضواً في منظمةٍ غير حكومية تأسَّسَت عام 2009 ثم حُلَّت عام 2013. أما الآخرون فتشير التقارير إلى أنهم كانوا ينوون تأسيس منظمة غير حكومية لدعم ضحايا العنف الأسري.

نعتت الصحافة السعودية النشطاء المعتقلين بأنهم "خونة". وبالتوازي مع ذلك، أصبح موظفو المنظمات غير الحكومية في مصر أعداءً افتراضيين للدولة. أما عن تونس، فسعياً منها للحفاظ على سمعتها باعتبارها "قصة النجاح الوحيدة" في الربيع العربي، أوجدت مناخاً مُرحِّباً بتلك المجموعات، ولكن حتى في تونس هناك قيودٌ مفروضة على قدرة تلك المنظمات على العمل في ظل حالة الطوارئ التي تشهدها البلاد وغيرها من القوانين التي تفرض قيوداً على الحق في التجمع.

جميع هذه الحالات تفرض سؤالاً مهماً: لماذا يكره زعماء الشرق الأوسط المنظمات غير الحكومية؟ "إجابةُ هذا السؤال أعقد مما نميل نحن في الغرب إلى أن نعتقد" كما يقول كوك.

لأنها أنظمة تحارب أي كيان مستقل أو ذاتي التنظيم

تُعَد المنظمات غير الحكومية جزءاً مما يُطلِق عليه علماء الاجتماع "المجتمع المدني". وعلى الرغم من غياب الإجماع على تعريف "المجتمع المدني"، قدَّم المُنظِّر الراحل للتحوُّل الديمقراطي ألفريد ستيبان وزميله خوان لينز واحداً من أفضل التوصيفات للمجتمع المدني، حيث يُحدَّد بأنه "مساحةٌ للعمل العام تحاول فيه مجموعةٌ ذاتية وحركاتٌ وأفرادٌ بصورةٍ ذاتية التنظيم، وعلى نحوٍ مستقلٍ نسبياً عن الدولة، التعبير عن قيمٍ بعينها، وتأسيس جمعيات ومؤسسات تضامنية والعمل على تحقيق تقدم في مجالات اهتمامها".

ويُعَد هذا التعريف في حدِّ ذاته مدعاة للضغط الذي وضعته حكومات الشرق الأوسط على المنظمات غير الحكومية. فزعماء هذه المنطقة لا يتصرَّفون كما ينبغي مع أفكار على شاكلة "التنظيم الذاتي"، و"الاستقلال نسبياً عن الدولة"، و"إنشاء جميعات ومجموعات تضامنية".

"السبب في ذلك بالغ الوضوح لدينا، وإن كنَّا لا نقصد مِن ذكره التبرير للقمع: لدى مجموعات المجتمع المدني القدرة على مساعدة الناس من ذوي الاهتمامات المشتركة في التغلُّب على المُعوِّقات الكبيرة التي وضعتها حكومات الشرق الأوسط لعرقلة القدرة على العمل الجماعي؛ وخلال هذه العملية تجد مظالم الشعوب متنفَّساً للتعبير عن نفسها"، على حد تعبير كوك.

ولأن المنظمات الأهلية تعارض أي تجاوُز للديمقراطية

ولا يلزم بطبيعة الحال، أن تكون جميع المنظمات غير الحكومية معارضة للدولة، وحتى حين تكون في مقاعد المعارضة يمكنها أن تخدم مصالح الزعماء.

ومن بين الأمثلة على ذلك، انحياز المنظمات المهتمة بالدفاع عن قضايا المرأة، في بداية تسعينيات القرن العشرين، إلى الجيش الجزائري حين أبطل نتيجة الانتخابات التي أوصلت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" إلى سدة الحكم.

وهناك مثالٌ آخر حديث العهد، تجلى بمشاركة منظمات المجتمع المدني في الحشود الغاضبة ضد الرئيس المصري السابق محمد مرسي؛ وهي حشودٌ ساعدت وزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي، في خلع مرسي وجماعة الإخوان المسلمين من الحكم في انقلابٍ عسكري عام 2013.

ثم تأتي بعد ذلك الطريقة التي اعتاد بها المسؤولون في الشرق الأوسط التفاخر بالأعداد الكبيرة للمنظمات غير الحكومية (حتى مع حملات القمع ضدها)؛ سعياً منهم إلى تجنُّب النقد المُوجَّه للسلطة من الخارج وكذلك للإيحاء لمواطنيهم بوجود إصلاحات يجري تنفيذها. ولم ينطلِ هذا الأمر لا على الخارج ولا المواطنين؛ ولهذا السبب فإن الأصل لدى حكومات الشرق الأوسط هو قمع تلك المجموعات، برأي كوك.

ولأن أثر المنظمات الأهلية كبير في مساعدة ضحايا الشمولية

يُفكِّك رونالد كريبس وجيمس رون ببراعةٍ، في مقال نشراه حديثاً بمجلة Foreign Policy الأميركية، التفسيرات التي اعتادت الحكومات غير الديمقراطية تقديمها لمعارضتها لوجود المنظمات غير الحكومية. غير أنهما تغاضيا عن مجموعةٍ من الأفكار ذات التأثير البالغ، التي تُشكِّل -في العالم العربي على الأقل- إطارَ الجدلِ الدائر حول المنظمات غير الحكومية. ونتيجة لذلك، فاتهما السبب الذي لأجله وُجِدَت الفجوة التي يتعذَّر ردمها بين الزعماء في الغرب والزعماء في الشرق الأوسط حول المجتمع المدني.

يقول كوك رداً عليها :"من الخطأ أن نستنتج أن الشمولية التي تنظر بضيق أفق إلى المصلحة الذاتية هي التفسير الوحيد للتعامل الخشن مع المنظمات غير الحكومية في جميع أرجاء الشرق الأوسط. فالقمع والتتبع اللذان تتعرضان له تلك المجموعات (حتى في إسرائيل) يبدو بعيداً كل البُعد عن أي دليل على قدرتها على إحداث تغيير سياسي يعتد به في المنطقة. لا شك في أن المنظمات غير الحكومية كان لها بالغ الأثر في مساعدة المحتاجين بجميع أنحاء الشرق الأوسط، غير أن المنظمات المختصة في الحكم الرشيد وحقوق الإنسان، على سبيل المثال، لم تترك أثراً يُذكر".

وربما لأنها تنافس الحكومات في الحصول على تمويل أجنبي

ولكن، إن لم تكن الشمولية هي السبب، فما هو إذاً؟ ولماذا يعامل الزعماء العسكريون في الشرق الأوسط ممن لديهم دبابات وطائرات وصواريخ تأتمر بأمرهم، الهيبيين العرب الساعين للدفاع عن حرية تكوين الجمعيات باعتبارهم مصدراً لمشكلة كبيرة؟ السبب أن التهديد لا يكمن في إرخاء القبضة الشمولية على السلطة، ولكن السبب ذو طابع تجريدي أكبر: وهو هشاشة الشعور بالهوية والسيادة في الشرق الأوسط.

النائبة المصرية مارغريت عاز تقول إن تمويل المؤسسات الأهلية من جهات أجنبية يهدف لتدمير مصر

ينظر القادة العرب بصورةٍ أساسية إلى المنظمات غير الحكومية، وتحديداً تلك التي تتلقى تمويلاً أجنبياً، باعتبارها عميلة لمشروع نيواستعماري. وثمة مفارقة لا تخطئها عين، تتجلى من خلال نفاق موقف تلك الحكومات، التي إما تتلقى مساعدات أجنبية بمبالغ طائلة أو التي تعتمد على الغرب لتوفير أمنها.

ومع ذلك، يبقى موقف تلك الحكومات فعَّالاً ومُؤثِّراً. الحق أن تاريخ المنطقة والروايات القومية التي نشأت وانتشرت على مدار القرن العشرين حوَّلَت جماعات المجتمع المدني إلى هدفٍ طبيعي للسلطات الشمولية في الشرق الأوسط، التي تميل إلى تصوير المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء الحكم الرشيد الذين يتلقون تمويلاً غربياً، باعتبارهم آخر تجلياتِ مهمةِ نقلِ الحضارة التي لأجلها أتى المستعمر الأوروبي إلى شمال إفريقيا والشام.

والسبب الأكبر هو خوف الحكومات من تقويض الهوية

والسبب الرئيسي من سخط حكام الشرق الأوسط على المنظمات غير الحكومية هو الخوف من أن الغرب لا يساعد من يرغبون في العيش بمجتمعاتٍ عادلة، وإنما يحاول، من خلال تلك المجموعات، تقويض الهوية العرقية والدينية للمنطقة من خلال تغريب مجتمعاتها، وإن كانت تلك الرؤية غير حاضرة لا في أذهان النشطاء ولا في أذهان من يدعمونه بالغرب.

ومن هنا، جاءت مزاعم زعماء الشرق الأوسط بأن المؤسسات الغربية لا تتسق مع المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، كما ذكر أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية ورئيس الوزراء التركي السابق، في أطروحته التي نال بها درجة الدكتوراه قبل أن يسهم من منصبه في الهجوم على المنظمات غير الحكومية مثل منظمة العفو الدولية.

والحروب الاستعمارية في القرن الماضي أطلقت شرارة الثورة والاستكشاف

وفي هذا السياق، سلَّطَت مشكلة السيادة هي الأخرى الضوء على الأمر بشكلٍ صارخ. فالتغلغُل الأوروبي بالشرق الأوسط في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر تسبَّبَ في انطلاق شرارة عملية طويلة الأجل من الثورة والاستشكاف الفكريَّين في أروقة الشرق الأوسط حول الكيفية التي يمكن من خلالها مواجهة هذا التحدي. وتجلَّت الاستجابات الإقليمية الأكثر فاعلية (وديمومة) لهذا التحدي في الإصلاحية الإسلامية والقومية العربية والإسلاموية، التي تؤكِّد الهوية.

واستولت عملية تأميم قناة السويس والثورة الجزائرية التي طردت الفرنسيين من البلاد بعد 130 عاماً، على مخيلة العرب في أرجاء المنطقة كافة. فقد كانتا تعبيراً جريئاً وقوياً، أذن بميلاد الشعارات الشعبية مثل "مصر للمصريين"، و"الإسلام ديني والعربية لغتي والجزائر وطني"؛ غير أن مسألتَي الهوية والسيادة بقيتا محل إشكال في كلتا الدولتين وغيرهما بشمال إفريقيا والشرق الأوسط.

ولأن هذه المنظمات تمس السيادة المفترضة للدولة

ويعتبر ستيفن كوك أن مصر دائماً ما تقع أحداث تذكِّرها بسيادتها المعرضة للخطر. ولا تقتصر تلك الأحداث على أنها لا بد أن تحصل على موافقة إسرائيل قبل إبداء أي مظاهر عسكرية على أرضها (كما حصل في سيناء مؤخراً) ولا على قضية جزيرتي تيران وصنافير (اللتين أصبحتا سعوديتين)، ولكن يشمل أيضاً تمرير الحكومة الأميركية تعديل براونباك على قانون المخصصات الموحدة لعام 2005، وهو تعديل أعلن أن برامج الحوكمة والديمقراطية الأميركية، وكذلك المجموعة التي وقع عليها الاختيار لتنفيذ تلك البرامج، لا تحتاج موافقةً مُسبَّقةً من الحكومة المصرية. ربما كان هذا هو التصرُّف المعقول بواشنطن حينها إذا ما أخذنا في الاعتبار جهود الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك لتقويض "أجندة الحرية" التي وضعها الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن. وفي نظر الجيش المصري، كان هذا انتهاكاً صارخاً للسيادة، وتم اعتقال العاملين في المنظمات التي تم تمويلها أميركياً.

أما السعودية، فيعتبر الكاتب أن المنظمات غير الحكومية ومموليها الأجانب لا يملكون تأثيراً مباشراً على سيادتها، غير أن هذه المنظمات في نظر حكام السعودية تملك القدرة على إفساد الميزان السياسي الدقيق الذي يوحد البلاد، ومن ثم فهي تُقوِّض الاستقرار وتُعرِّض سيادة الدولة للخطر.

وعلى الغرب أن يتفهم أكثر سبب هذه المخاوف

لا توجد وصفةٌ سياسية يمكنها أن تُغيِّر اختلاف نظرة الأميركيين والأوروبيين لدعمهم منظمات المجتمع المدني في الشرق الأوسط، باعتباره وسيلةً لمساعدة المنطقة على المستويَين السياسي والأخلاقي، وبين الاستجابة التي غالباً ما تأتي غاضبةً من القادة العرب على هذا الدعم. غير أن محللي أو مراقبي الغرب يمكنهم على الأقل أن يفهموا بشكل أفضل، سبب اعتبار فاعلي الخير المخلصين خطراً صرفاً في نظر حلفاء الولايات المتحدة.

علامات:
تحميل المزيد