سيناريوهات ما بعد إعلان باريس.. محاولة الفرنسيين منافسة روما في ليبيا أم إحياء لاتفاق الصخيرات؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/06 الساعة 19:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/07 الساعة 21:09 بتوقيت غرينتش

مثَّل لقاء الأطراف السياسية الفاعلة بليبيا خطوةً جديدةً في مسار الحل السياسي للأزمة الليبية، لا سيما بعد إعلان العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2018 موعداً محددا لإجراء الانتخابات، والـ16 من سبتمبر/أيلول 2018 موعداً لإعداد الإطار القانوني للانتخابات، إضافة إلى تأكيد هذه الأطراف التزامها باحترام نتائجها والعمل على إنهاء الانقسام المؤسسي عبر المطالبة بتوحيد المؤسسات، وعلى رأسها البنك المركزي.

ورغم إعلان الأطراف السياسية الأربعة، في العاصمة الفرنسية باريس، مُدداً محددة لإنهاء الصراع القائم، فإن البيان الصادر عن هذه الأطراف لم يصبح حتى الآن ملزماً لأي طرف سياسي؛ لكونه لم يوقَّع من أي منها؛ لعدم اعتراف أي أحد منهم بشرعية الآخر، ورغبة كل طرف في التشاور مع من يمثله.

وهو ما جعل البيان الصادر عن لقاء باريس يخرج بمثابة إعلان سياسي بدل أن يكون اتفاقاً مشتركاً، دون أن يتضمن بيان باريس أي موعد محدد لعودة الأطراف الأربعة: رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس مجلس الدولة خالد المشري، وقائد الجيش المكلف من مجلس النواب خليفة حفتر، الذي يعد حضوره على طاولة التسويات مؤشراً على عدم رغبته في أن يمنح رئيس مجلس النواب عقيلة صالح صلاحية التفاوض باسمه، رغم أنه يستمد شرعيته من رئيس مجلس النواب الذي كلفه قائداً عاماً للجيش في مارس/آذار 2015، وربما يرجع ذلك إلى توتر العلاقة بينهما؛ لاختلاف وجهات نظر الرجلين بشأن الأزمة الليبية، فالمفاوضات والحلول السياسية تُكسب عقيلة صالح دوراً أكبر باعتباره رئيساً لمجلس النواب، في الوقت الذي يستمد فيه حفتر قوته من شرعية الحرب، وهو الأمر الذي يجعله أكثر ميلاً إلى خيار الحل العسكري.

لا جديد في المبادرة

ولم يكن ثمة جديد في إعلان باريس سوى تحديد مواعيد للانتخابات ووضع إطار دستوري لها، على اعتبار أن مبادرة الذهاب إلى الانتخابات هي المشترك الأكثر حضوراً في خطاب الأطراف السياسية الليبية، حتى تلك الرافضة للاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات، باستثناء حفتر الذي أشار في خطاب قدومه من فرنسا -عقب رحلته العلاجية هناك- إلى عدم جدوى الانتخابات وفاعليتها في حل الأزمة، ودعوة أنصاره إلى دعم قواته والتمسك لها باعتبارها المخرج الوحيد، إلا أن إعلان باريس بدت فيه الإشكالات القانونية ذاتها التي لازمت اتفاق الصخيرات؛ لأن إعلان باريس -بحسب أول 3 مواد منه- اشترط لحدوث الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول 2018 وجود قاعدة دستورية تسبقه في سبتمبر/أيلول 2018، تاركاً وراءه تفسير هذه المواد غموضاً غير بنَّاء، ما إذا كانت الانتخابات ستقوم على مسودة الدستور التي يرفضها مجلس النواب، أم الاتفاق السياسي الذي أقرّت الأطراف المحلية والدولية بصعوبة تطبيقه، أم بالعودة إلى مقترحات لجنة فبراير التي انتُخب مجلس النواب على أساسها وأبطلتها المحكمة العليا في سبتمبر/أيلول 2014، وكلها من دون استثناء لا يكفي لها ما تبقى من وقت حتى سبتمبر/أيلول 2018.

الإعلان بين الالتزام والرفض

مازال من المبكر الحكم على مدى جدية الأطراف الأربعة التي اجتمعت في باريس في تنفيذ الاتفاق والعمل به، إلاَ أن مظاهر عدم التزام الأطراف بدت واضحة قبل أن يجف حبر الإعلان، وهو ماجاء على لسان رئيسي مجلسي النواب والدولة في تصريحات تلفزيونية أعقبت اللقاء، عندما قال الأول إن حفتر خط أحمر لايجوز المساس به ومتمسكا في الوقت ذاته بصفة القائد الأعلى للجيش وصلاحياته مخالفا بذلك نصوص الاتفاق السياسي والتي منحت صفة القائد الأعلى لرئيس المجلس الرئاسي، في حين رأى المشري أنه لم يقبل توقيع إعلان باريس نظرا لوجود أطراف غير شرعية مشيرا إلى خليفة حفتر، قائلا إنه جلس معه على طاولة واحدة باعتباره قوة أمر واقع، ولايعترف به، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى أن يقطع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الالتزام الشفوي على نفسه نيابة عن الأطراف الليبية في باريس.

لكن، ما قد يعيق نجاح لقاء باريس وتنفيذ مخرجاته بصورة أكبر هو رفض مبادرة الرئاسة الفرنسية من أغلب القوى العسكرية والأمنية في المنطقة الغربية، وعلى رأسها قوات البنيان المرصوص وبعض القوات التي تؤمّن وتحمي حكومة السراج في العاصمة طرابلس، بدعوى أن المبادرة الفرنسية توطِّن حكم العسكر وضد مدنية الدولة، في إشارة إلى حضور حفتر ممثِّلاً لأحد الأطراف الأربعة، الأمر الذي قد يمارس ضغطاً على طرفي الاتفاق في المنطقة الغربية؛ وهما رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج ورئيس مجلس الدولة خالد المشري. ولعلَّ تصريحات الأطراف بعضها تجاه بعض، ورفض بعض القوى العسكرية المهمة في المنطقة الغربية، تبقى مؤشرات تقودنا جميعها إلى أن ثقة لم تتأسَّس بعدُ بين شركاء حوار باريس، فضلاً عن التفاهم على أجندات سياسية محددة والوصول إلى حزمة من الإجراءات التي تضمن حماية العملية السياسية والدفع بها.  

إذاً، فما جدوى إعلان باريس والحشد الدولي له بحضور ممثلي 19 دولة، وسط حالة الارتياب وعدم وجود قدر كبير من التفاؤل محلياً بشأنه، فاللافت هو تسارع كتلة برقة داخل مجلس النواب المؤيدة لحفتر إلى قبول مخرجات لقاء باريس، والتركيز على النقاط التي تخص الجيش ونقل مقر مجلس النواب إلى بنغازي دون غيرها من النقاط الثماني التي نصَّ عليها إعلان باريس، ما يشير بصورة أو بأخرى إلى ميل مخرجات اللقاء لصالح حفتر ومعسكر المنطقة الشرقية.

درنة.. الحاضر الغائب

ورغم أن المجلس الأعلى للدولة اشترط في بيانه للمشاركة في لقاء باريس 4 بنود، كان أبرزها وقف إطلاق النار في درنة، ورفع الحصار عنها، وحماية المدنيين، وتجنيب المدينة الدمار وويلات الحرب، وكذلك دعوة السراج بكلمته في أثناء اللقاء لوقف الحرب على درنة وإتاحة الفرصة للحوار والتفاهم- فإن بيان لقاء باريس لم يتضمن أي إشارة إلى الحرب التي تشنها قوات الكرامة على المدينة الرافضة لحفتر منذ انطلاق مساعيه العسكرية في 2014، وربما يشير هذا التهاون الدولي إلى أن الحرب والتصعيد العسكري على درنة يلقيان قبولاً ودعماً دوليَّين؛ لكون حفتر يقاتل مجموعات غير مرغوب فيها لدى الأوساط الغربية، بينما لا يُرفض التصعيد العسكري على درنة سوى من إيطاليا وبعثة الأمم المتحدة على استحياء، فالحديث من المسؤولين الدوليين لا يدور إلا عن الوضع الإنساني في المدينة وكيفية تأمين خروج المدنيين من درنة وإيصال المساعدات إليها، فالمدينة تعاني حصاراً خانقاً منذ نحو 3 أعوام، أدى إلى شح كبير في وصول المواد الغذائية والسلع الأساسية، إضافة إلى انقطاع الكهرباء بصورة متكررة جراء نفاد إمدادات الوقود والغاز.

ولا تمثل مدينة درنة ثقلاً سياسياً أو استراتيجياً بالنسبة لحفتر وحلفائه بقدر ما تمثل جزءاً من الشرق الليبي الذي تريد القوى الإقليمية السيطرة عليه بصورة كاملة، كما أن هناك مؤشرات على أن الأطراف الإقليمية الداعمة لحفتر ترغب في تعويض مصر عن الممرات الدولية في البحر الأحمر بالشرق الليبي والنفط في المنطقة الشرقية، فيما يواجه حفتر في درنة إشكالاً يتمثل في إيجاد مبرر لحرب تطول مثل حرب بنغازي، على اعتبار أن حفتر يستمد قوته وحضوره من شرعية الحرب والسلاح.

فرنسا .. الوسيط الجدلي

لم يكد حبر إعلان باريس يجف حتى كشف موقع "أفريكا إنتيلجنس" عن تقديم باريس مساعدة عسكرية لحفتر، تمثلت في طائرة استطلاع تعمل لصالح المخابرات الفرنسية؛ لمساعدة حفتر وقواته على حسم صراع درنة لصالحهم، ما يؤكد استمرار فرنسا في خطها الداعم لقائد جيش مجلس النواب خليفة حفتر ورهانها عليه، ومن ثم فإن المبادرة الفرنسية لا يمكن أن يتم فهمها إلا في إطار محاولة باريس إنقاذ الرجل وإيجاد موطئ قدم له في أي تسوية مقبلة، لا سيما عقب تراجع دوره بفعل اتفاق الصخيرات الذي انتزع منه كثيرًا من صلاحياته، تزامناً مع تراجع تعويل الأطراف الإقليمية والدولية على حفتر كطرف قادر على التفرد بحكم البلد وحده، في ظل عدم نجاحه على مدى 4 أعوام في حسم الصراع العسكري لصالحه.

وعلى الرغم من أن الرئيس الفرنسي يدرك جيداً أن التحرك في ليبيا قد لا يرضي عواصم غربية تهتم بليبيا بشكل بالغ وعلى رأسها روما، فإن فرنسا ورغم محاولاتها الدبلوماسية، ما زالت تلقي بثقلها عسكرياً خلف حليفها حفتر، الذي لبى طموح باريس عندما توسَّع نفوذه مؤخراً في مناطق الاهتمام الفرنسي بليبيا، وتحديداً عقب سيطرة قواته على أغلب مناطق الجنوب الليبي الذي كان ضمن مستعمرات فرنسا التاريخية، ويمثل في الوقت ذاته منطقة تهديد استراتيجي لمصالح باريس وأمنها الاقتصادي في الصحراء الكبرى التي تعمل فيها كبرى شركات النفط والغاز الفرنسية، وهي المصالح التي تحرص فرنسا على تأمينها والحفاظ عليها منذ انطلاق ثورة فبراير/شباط 2011، عبر قيادتها العمليات العسكرية وتحمُّلها مسؤولية قصف قوات نظام القذافي في عام 2011.

رفض إيطالي

تحاول باريس استغلال ارتباك إيطاليا في شأنها الداخلي والاستفادة من فترة الفراغ والفوضى السياسية في ظل عجزها عن تشكيل حكومة؛ من أجل منافسة روما بشكل محموم في ليبيا والتي بدأت ملامحها منذ سقوط نظام القذافي، إلا أن إيطاليا ترى أن فرنسا لا يجوز لها تجاوز مساحاتها ولعب دور ريادي في بلد يعد منطقة نفوذ جغرافي لإيطاليا، باعتبار أن شواطئ البلدين لا يفصلهما سوى أمواج البحر المتوسط، وتاريخياً لكون ليبيا تعد مستعمرة إيطالية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يجعل أي جهود فرنسية في ليبيا تقابَل برفض إيطالي لا يصعب فهمه.

ولعلَّ هذا هو ما دفع السفير الإيطالي لدى ليبيا، جوزيبي بيروني، إلى التحذير من عودة قوافل الهجرة غير الشرعية إلى شواطئ أوروبا عبر المبادرات غير المنظمة، في إشارة واضحة إلى المبادرة الفرنسية لحل الأزمة الليبية، داعياً في مقابلة مع جريدة "لاماتينو" الإيطالية، إلى تنفيذ ما جرى الالتزام عليه بشأن ليبيا بدل زيادة الالتزامات.

إلى جانب ذلك، اتهمت صحيفة "إل جورنالي" الإيطالية، المملوكة لعائلة رئيس الوزراء الإيطالي السابق، سيلفيو برلسكوني، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمحاولة سرقة ثروات ليبيا، مشيرة إلى ما قالت إنها أطماع ماكرون في ثروات المستعمرة الإيطالية السابقة وثرواتها الغنية، ومتهمة الرئيس الفرنسي بالسعي لضرب المصالح الإيطالية في ليبيا خاصة في حقول الغاز والنفط، لاسيما إذا وضعنا بالاعتبار التنافس المحموم على هذه الحقول بين شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية.

وتحاول إيطاليا منذ 7 سنوات، إعادة تموضعها الجيوسياسي بليبيا، وعدم إهمال دورها في العملية السياسية بليبيا، والحفاظ على مصالحها النفطية، وضمان مكافحة الهجرة غير الشرعية العابرة إلى شواطئ جزيرة لامبيدوزا انطلاقاً من الشواطئ الليبية، ولا سيما السواحل الغربية التي تقع ضمن نطاق سيطرة حكومة الوفاق وهو ما حاولت إيطاليا الوصول إليه بتفاهمات مع السراج، وتخشى من أن ينفرط عقد هذه التفاهمات بأي تسويات تبرمها باريس في ليبيا، والتي ترى روما أنها المسؤول عن الوضع الحالي في ليبيا جراء تدخلها العسكري.

ولا تبدو الأجواء التي جرى فيها إعلان باريس مواتيةً لتحقيق الإعلان وتنفيذ بنوده؛ إذ يبدو أن الأطراف المحلية ما زالت ترتاب من دور باريس في تصدير حفتر واجهةً للشأن العسكري في البلاد، وهو ما أثار حفيظة الأجسام العسكرية المناوئة لحفتر عبر تغييب باريس هذه الأطراف بصورة متعمدة، كما أنّ الخلافات بين صالح وحفتر يبدو أنها لم تنته بعد، ودليل ذلك ما يجري من مناورات بشأن نقل مجلس النواب إلى بنغازي، بين محاولة رئيسه إبقاءه في طبرق، المدينة التي تقبع فيها قبيلته، في حين يسعى حفتر لنقله إلى بنغازي -المكان الأكبر لوجود قوات حفتر- والضغط عبر التيار النيابي الموالي له لتغيير رئاسة المجلس لشخصية تكون أكثر ولاء له من صالح، وهو ما بدأت ملامحه تظهر بصورة كبيرة.