في بافاريا علَّقوا الصليب في المقرات الحكومية والمدارس وقالوا إنه رمز للهوية.. ورجال دين يحذرون من توظيفه لخدمة السياسة

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/01 الساعة 16:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/03 الساعة 07:33 بتوقيت غرينتش

عندما صدرت أوامر بتعليق صليب عند مدخل كل مبنى حكومي في بافاريا، لم يكن عمدة دغندورف منزعجاً بشكل خاص؛ بل كان مؤيداً لتصدير مكانة رمز ديني، في الدولة التي تنتهج فصل الدين عن الدولة.
أصبحت الصلبان معلَّقة بكل مكان في دغندورف، تلك المدينة الجميلة التي تقع على ضفاف نهر الدانوب، بأمر من رئيس الوزراء.
القانون المثير للجدل دخل حيز التنفيذ، الجمعة 1 يونيو/حزيران 2018، في ولاية بافاريا الألمانية المحافظة، وأوجب على كل الوزارات وقصر العدل ومراكز الشرطة وأجهزة التخطيط المدني والمؤسسات العامة الخاضعة لسلطة الولاية الاتحادية أن تعلِّق صليباً على مداخلها وفي مكان "ظاهر بشكل جلي".

ماركوس زودر يعلّق الصليب في مقر الحكومة

في الواقع، يوجد صليب واحد بمكتب عمدة دغندورف وآخر في الغرفة التي يعقد فيها مسؤولو المدينة الزيجات المدنية. ويوجد بمحطة الإطفاء صليب معلَّق على الجدار، كما هو الحال تقريباً في كل قاعات المدارس الحكومية.
رئيس وزراء بافاريا، ماركوس زودر، من "الاتحاد المسيحي الاجتماعي"، الذي يقف وراء هذا الإجراء الذي تقرر في أبريل/نيسان 2018، أكد أنه "قرار صائب". وقال إن الصليب "ليس فقط رمزاً دينياً وإنما يرمز كذلك إلى الهوية".
وقال هذا البروتستانتي للتلفزيون والإذاعة البافاريَّين: "الثقافة المسيحية راسخة لدينا مع أيام العُطَل المسيحية"، وذلك قبل لقاء خاص مع البابا فرنسيس الجمعة 1 يونيو/حزيران 2018 في الفاتيكان.
لم تصدر تعليمات بخصوص حجم الصلبان، كما أن بعض المؤسسات الثقافية، مثل المتاحف أو المسارح، ليست ملزمة بتطبيق هذا الإجراء.
من جهته، حذر أيمن مزيك، رئيس المجلس المركزي للمسلمين، من هذا الإجراء الذي يقوم على قبول الرموز المسيحية، لكنه يحظر الرموز المسلمة واليهودية من الأماكن العامة.

التدين في تراجُع والرموز الدينية تشهد عودة قوية

وحيال هذا الشأن، أوضح العمدة كريستيان موسر لصحيفة New York Times، أن "الصليب رمز ثقافي وليس دينياً"، مضيفاً أن "فصل الكنيسة عن الدولة كان حتمياً".
وفي حين أن التدين في تراجُع مستمر بألمانيا، فإن الرموز الدينية تشهد عودة قوية باعتبارها جزءاً من الحروب الثقافية المتأججة، التي تنطلق من برلين إلى المناطق الريفية في بافاريا، وذلك بعد 3 سنوات من فتح البلاد أبوابها لأكثر من مليون مهاجر، أغلبيتهم من دول مسلمة.
في هذا السياق، قال موسر إن الأوامر القاضية بتعليق الصليب صادرة عن السلطة العليا (مؤشراً بإصبعه إلى السماء)، ثم أوضح: "تحديداً من رئيس الوزراء المحافظ الجديد في بافاريا، ماركوس زودر"، الذي يخوض حزبه "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" سباقاً انتخابياً محموماً قبل انتخابات الولاية، المزمع عقدها في الخريف.
و"الاتحاد المسيحي الاجتماعي"، الشريك البافاري لحزب المستشارة أنجيلا ميركل "الاتحاد المسيحي الديمقراطي"، مهدَّد في الواقع بخسارة غالبيته المطلقة خلال الانتخابات المحلية المرتقبة في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2018، أمام تقدُّم حزب "البديل من أجل ألمانيا" المناهض للإسلام ولميركل.

ورجال دين يعتبرون القرار خطوة لاستمالة الأصوات الانتخابية

ويواجه زودر تحدياً قوياً من حزب اليمين المتطرف المناهض للمسلمين في ألمانيا، "حزب البديل من أجل ألمانيا" أو AfD، الذي يكتسب شعبية في ولاية بافاريا الغنية ذات الأغلبية الكاثوليكية، ولا ينفك عن شن حملات لتحذير السكان من خطر أسلمة المدينة.
وسجل "حزب البديل من أجل ألمانيا" أعلى نسب تصويت بمدينة دغندورف غرب ألمانيا في الانتخابات الوطنية العام الماضي (2017).
في المقابل، أفاد بعض منتقدي هذا القرار بأن مبادرة تعليق الصليب جزء من محاولة الحزب لاستمالة أصوات الناخبين، بعيداً عن اليمين المتطرف في الانتخابات.

والسياسيون يرددون: "الصليب ليس رمزاً دينياً" بل رمز للهوية

ومن جهته، يصرُّ زودر على أن "الصليب ليس رمزاً دينياً"؛ بل من مقومات الهوية والثقافة الألمانية، وهذا يعني أن عرضه ليس "انتهاكاً لمبدأ الحياد" من قِبل السلطات. وتحاكي حجة سودر القرار المثير للجدل الذي صدر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سنة 2011، والذي ينص على أن "الصليب المعروض بشكل علني رمز سلبي"، وليس شكلاً من أشكال "الاستمالة"؛ ومن ثم يمكن أن تسمح الدول الأوروبية بتعليقه وفقاً لتاريخها وتقاليدها.
بعد حكم المحكمة العليا سنة 1995، اتبعت ألمانيا عموماً القاعدة التي تسمح بعرض الصلبان، ما لم يكن هناك فئة تشعر بالإهانة بسبب وجودها، وهذا نادر الحدوث. أما المعارضون لهذا القرار، فقد أكدوا أن العرض المنهجي لرمز مسيحي في واجهة المباني الحكومية يقوِّض مبدأ فصل الدولة عن الدين، فضلاً عن أنه يمكن أن يسهم في تفاقم التوتر بين المجتمعات.

ولكنَّ ألمانيا أقل صرامة في فصل الدين عن الدولة من فرنسا وأميركا

تعتمد ألمانيا إجراءات أقل صرامة فيما يتعلق بمبدأ فصل الدولة عن الكنيسة، مقارنة بتلك التي تفرضها فرنسا والولايات المتحدة، خلافاً للنموذج البريطاني أو الإسكندنافي الذي أنشأ كنيسة تابعة للدولة. ولكن يبدو أن ألمانيا تعتمد نسخة وسطية بين النموذجين.

ورئيس أساقفة ميونيخ يحذر من توظيف الدين لخدمة السياسة

في الآونة الأخيرة، قام زودر بتعليق صليب في مكتب الاستقبال بمقر الولاية في ميونيخ، عندما كانت الكاميرات تصوره، وعلَّق على ذلك قائلاً إن "الصليب جزء أساسي من طريقة حياتنا البافارية". على خلفية ذلك، سارع زملاؤه المحافظون إلى نعت نقّاد الخطوة بـ"أعداء الدين". لكن الغريب في الأمر أن رئيس أساقفة ميونيخ أعرب عن معارضته هذا القرار، متهماً زودر بتوظيف رمز مسيحي لتحقيق أغراض سياسية.

ناقدون يصفون الولاية بـ"طاليبافاريا" لفرضها هذا القرار

وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، أشار البعض مازحين إلى أن بافاريا تحولت إلى "طاليبافاريا"، في إشارة إلى حركة طالبان الأصولية الإسلامية، بيد أن استطلاعات الرأي كشفت أن معظم البافاريين رحبوا بهذه المبادرة. وبناء على ذلك، ينبغي للمسؤولين مثل موسر تقبُّل هذا الأمر.
في الحقيقة، تأتي أوامر تعليق الصليب في وقت تتعرض فيه رموز الولاء للتهديد بألمانيا. ومؤخراً، ارتدى أهل برلين القلنسوة اليهودية؛ لإظهار تضامنهم مع شاب كان يرتديها عندما تعرض لهجوم من قِبل لاجئ سوري. في هذه الأثناء، يكتسب اقتراح حظر الحجاب للفتيات تحت سن 14 عاماً زخماً في منطقة حوض الرور متعددة الثقافات، التي تقع شمال غربي ألمانيا.

وفي الوقت نفسه يؤمنون بأن الإسلام لا يتوافق مع القيم الألمانية

ووفقاً لاستطلاع أوروبي نشره مركز "بيو" للأبحاث هذا الأسبوع، يعتقد شخص من بين كل مسيحيَّين في ألمانيا أن الإسلام لا يتوافق مع القيم والثقافة الألمانية. ومنذ أكثر من سنة، أعلن وزير الداخلية في ذلك الوقت، توماس دو ميزير: "لسنا دولة البرقع". وقد ذهب البافاري هورست زيهوفر، إلى أبعد من ذلك قائلاً إن "الإسلام ليس جزءاً من ألمانيا"، على الرغم من إقراره بأن ما يقارب 5 ملايين مسلم يعيشون، في الوقت الراهن، بألمانيا. ويبدو أنه في أماكن مثل دغندورف، يتعاطف العديد من الألمان مع تصريحات زيهوفر.

"الأرض الموعودة" و"الجنة" و"ليبارككم الرب" عبارات غير مألوفة من السياسيين

زار زيهوفر، رئيس الوزراء البافاري السابق، وهو رجل فارع الطول ويتمتع بكاريزما عالية، مدينة دغندورف خلال شهر مايو/أيار 2018، حيث توقف عند مهرجان الربيع السنوي. وفي ذلك الوقت، توجه زيهوفر في حديثه إلى الحشد الذي كان أفراده يرتدون ملابس تقليدية مثل الدرندل واللادرهوزن، واصفاً بافاريا بأنها "الأرض الموعودة" و"الجنة".
كما قال زيهوفر إن "منظومة القيم في ألمانيا تشكلت بفضل الديانة المسيحية"، قبل أن ينهي حديثه قائلاً: "ليبارككم الرب". وهي عبارة لا تُستخدم في العادة من قِبل السياسيين الألمان.
يتقلد زيهوفر منصب وزير الداخلية، وهو أيضاً وزير "هيمات"، وهو منصب أنشأه في بافاريا منذ 5 سنوات، وهو يرغب الآن في إحداث هذا المنصب بالبلاد بالكامل. و"هيمات" هو مصطلح ألماني غامض، ولكنه يزخر بمعانٍ قيّمة تحيل إلى الوطن والهوية والانتماء. أما بالنسبة للكثيرين، فلهذا المصطلح علاقة بالتراث المسيحي.
قال وزير خارجية "هيمات" في بافاريا، هانس ريشارت: إن "الصليب جزء من هويتنا، فهو يمنحنا القوة ويمنحنا شعوراً بالأمان". وأضاف ريشارت، وهو قاضٍ سابق كان قد وضع صليباً داخل قاعة المحكمة، أن "الناس يعيشون في وضع غير مستقر بسبب العولمة، يبحثون عن مرساة، وفي الصليب خلاصهم".

حتى في المدارس الصلاة واجبة صباح كل يوم.. لمن يحب

تمت مباركة نحو 24 صليباً بالمياه المقدسة في "احتفال مسكوني"، لتوضع فيما بعد بمدرسة روبرت كوخ الثانوية، التي انتقلت مؤخراً إلى مبنى جديد. وأوضح مدير المدرسة، هاينز بيتر ميدينجر، أن كلمة "المسكونية" في دغندورف تعني "الكاثوليكية والبروتستانتية". في كل صباح قبل الدخول إلى قاعة الدرس، يقف طلاب المدارس الثانوية ويصلّون، حيث إن كتاب الصلاة يقدم شيئاً في كل مناسبة. وصباح أحد الأيام عندما يكون لديهم اختبار في الرياضيات، يفتح الطلاب الصفحة 52 ويصلّون؛ كي تهدأ أعصابهم وتكون أذهانهم صافية خلال الامتحان.
قال ميدينجر الذي ترأّس الصلاة: "إن الصلاة يمكن أن تساعد حقاً". وتجدر الإشارة إلى أن نحو 7% من طلاب مدرسته مسلمون، ومن المتوقع أن يقفوا في أثناء الصلاة، ولكن لا يتعين عليهم الصلاة. وأورد ميدينجر أن "هذا الأمر لا يسبب أي مشاكل"، فهو يعتبر حكم المحكمة الألمانية لسنة 1995 غير دستوري؛ ذلك أنه يجبر المدارس على وضع الصلبان على الجدار. وكان من الممكن أن يتسبب ذلك بخلق فوضى عارمة في بافاريا، فحتى النازيون، الذين حاولوا سنة 1941 إجبار المدارس البافارية على تدمير الصلبان، تراجعوا بسرعة؛ خوفاً من غضب السكان المحليين.

"الأمر لا يتعلق بأماكن الصلبان بل بمن ستختار يوم الانتخابات"

يعد "حزب البديل من أجل ألمانيا" أكبر حزب معارض بالحكومة الفيدرالية، وقد أبدى استعداده لدخول البرلمان البافاري في انتخابات الخريف. وفي هذا الصدد، أشار أوغور باغيسلايسي، وهو فنان بافاري من أصول تركية يُعرف باسمه المستعار جانغو أسول، يعيش في القرية المجاورة ويتحدث بلهجة بافارية خشنة، إلى أن "الأمر لا يتعلق بالمكان الذي ستعلَّق فيه الصليب؛ بل من ستختار يوم الانتخابات".
وأضاف باغيسلايسي، الذي يأكل السجق البافاري المصنوع من لحم الخنزير، ويشرب الجعة في كؤوس كبيرة مثل بقية القرويين، أنه عندما كان عليه الاختيار بين جواز سفر تركي وآخر ألماني اختار جواز السفر الألماني. ويعتقد باغيسلايسي أن الصليب يبعث فيه الاطمئنان، حيث قال: "ربما يتوجب على جميع الأشخاص الذين يتحدثون باسم المسلمين الذين تمت إهانتهم أن يتأكدوا مما يفكر فيه هؤلاء المسلمون فعلياً".

350 لاجئاً مسلماً فقط في هذه المدينة

لا يوجد عدد كبير من المسلمين في دغندورف، فهي بلدة يقطنها أكثر من 36 ألف نسمة، وعلى الرغم من أن الجالية التركية بهذه البلدة صغيرة، فإنها موجود منذ فترة طويلة. وصل أوائل العمال الأجانب إلى دغندورف في فترة الستينيات والسبعينيات، على غرار والد باغيسلايسي، بينما قدم نحو 350 لاجئاً مسلماً كطالبي لجوء من دولة سيراليون.

والمسجد الكبير يزيد من استياء المعارضة

قال القس الكاثوليكي مارتن نيدل إنه حتى قبل وصول مئات الآلاف من اللاجئين المسلمين إلى ألمانيا سنة 2015 عبر الحدود القريبة من النمسا، كان السكان خائفين من "سيطرة المسلمين" على البلاد، إلا أن "خوفهم ليس منطقياً"، حسب نيدل. وعندما دُمر المسجد المحلي بسبب الفيضانات سنة 2014، قدم مجلس المدينة بعض المال للجالية التركية؛ كي يعيدوا بناء مسجد جديد، ولعل ذلك ما أثار حفيظة بعض السكان الألمان. وبعد انتهاء أشغال البناء، تبين أن المسجد الجديد كان أكبر من سابقه بفضل التبرعات الخاصة، ما زاد من استياء المعارضة.
أفاد بيت لاوش بيرنرايتر، وهو مرشد تربوي يقوم بجولات في دغندورف مرتدياً زياً من القرون الوسطى، بقوله: "لقد كانت المئذنة عالية، حيث يمكنك رؤيتها من الطريق السريع، وكأنها تتنافس مع أبراج كنائسنا". وفي النهاية، تم تقصير مئذنة المسجد وسرعان ما نال سياسيو حزب البديل من أجل ألمانيا الثناء على ذلك. ومن جهته، أخذ رئيس البلدية، موسر، الوقت الكافي لتحديد المكان الذي سيعلق فيه الصليب الجمعة 1 يونيو/حزيران 2018، على يمين أحد الجدران الصغيرة في مدخل المدينة، حيث يقول إنه "يجب أن يكون مرئياً، ولكن غير بارز بشكل لافت".

علامات:
تحميل المزيد