في وقت يستعد فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأداء اليمين الدستورية السبت 2 يونيو/ حزيران 2018 لولاية ثانية مدتها 4 سنوات، خالف توقعات كانت تميل إلى أن الفترة الرئاسية الجديدة ستشهد حالة من الانفراجة السياسية والميل أكثر نحو الحريات بعد أن أحكم قبضته على مفاصل الدولة، إذ قامت أجهزة الأمن بحملة توقيفات جديدة شملت معارضين ومدونين وصحافيين وناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي، بينهم شخصيات دعمت وصوله للسلطة.
الموجة الجديدة من الاعتقالات بدأت عقب فوز السيسي بولاية رئاسية ثانية بنسبة 97% في الانتخابات التي أجريت في نهاية آذار/مارس الماضي، وهي الثانية منذ أطاح الرئيس المصري، عندما كان قائداً للجيش، بالرئيس الأسبق محمد مرسي في تموز/يوليو 2013.
شملت التوقيفات شخصيات تنتمي الى مدارس فكرية متباينة تتراوح بين اليسار والليبرالية مثل شادي الغزالي حرب وحازم عبد العظيم ووائل عباس، وهي أسماء ارتبطت بثورة 2011 التي أسقطت حسني مبارك والتي فاجأت آنذاك كل مؤسسات نظامه بما فيها الجيش، ليمتد مدى الاعتقالات هذه المرة خارج صفوف التيار الاسلامي الذي يتعرض لحملات اعتقال لا تتوقف منذ 3 يوليو/تموز 2013.
استمرار للسياسة القمعية
ويقول محللون ان هذه الموجة الجديدة من التوقيفات تشكل استمراراً للسياسة "القمعية" التي ينتهجها نظام السيسي منذ توليه السلطة والتي أسكتت المعارضة الى حد بعيد، ولكنها أيضاً مرتبطة بتزايد الاستياء لدى قطاعات كبيرة من المصريين بسبب ارتفاع كلفة المعيشة.
ويقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة مصطفى كامل السيد لوكالة الصحافة الفرنسية إن هذه التوقيفات تشير إلى أن "شيئاً لم يتغير في السياسات الأمنية للنظام" المصري.
ويضيف "ما زال هناك تخوف من تكرار ما جرى في كانون الثاني/يناير 2011، وهو ما عبر عنه الرئيس السيسي أكثر من مرة" في تصريحاته.
ويتابع "مع الزيادة المنتظرة في أسعار المحروقات والكهرباء"، يخشى "صناع القرار من أن يستغل الناشطون، خصوصاً ممن ارتبطت أسماؤهم بثورة 2011، الظروف لتعبئة المواطنين ضد نظام السيسي"، موضحاً أن "برنامج الإصلاح الاقتصادي تقع آثاره المتمثلة في ارتفاع الأسعار على الغالبية العظمى من المصريين".
وأعلن مسؤولون مصريون مراراً أن أسعار الكهرباء والمحروقات سترتفع مع بداية العمل بموازنة السنة المالية الجديدة مطلع تموز/يوليو 2018 من دون أن يحددوا نسبة الزيادة.
ونددت منظمات حقوقية والاتحاد الأوروبي الأربعاء بتوقيف معارضين وشخصيات من المجتمع المدني في مصر بعد إعادة انتخاب السيسي.
وقالت مايا كوسيانسيتش، الناطقة باسم وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، إن "العدد المتزايد للتوقيفات بحق مدافعين عن حقوق الإنسان وناشطين سياسيين ومدونين في الأسابيع الماضية في مصر يشكل تطوراً مقلقاً".
وأضافت المتحدثة "في وقت تسعى مصر لترسيخ الديمقراطية ودولة القانون، من المهم احترام التعبير السلمي عن الرأي والانتقاد".
وتابعت أن "الاستقرار والأمن الدائمين لا يمكن أن يتماشيا إلا مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والحريات الأساسية بموجب الدستور المصري والالتزامات الدولية".
وردت وزارة الخارجية المصرية، مؤكدة "رفضها" هذه الانتقادات. واعتبرت أنه يمكن كذلك التنديد بسجل أوروبا في مجال حقوق الإنسان، مشيرة إلى "الصعوبات الجمة والمعاملة المزرية التي يعاني منها الكثير من المهاجرين واللاجئين، وتجاوزات سلطات إنفاذ القانون، فضلاً عن تصاعد الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة، وما يقترن بذلك من مظاهر العنصرية والتمييز والعنف وخطاب الكراهية".
وقررت نيابة أمن الدولة العليا الأسبوع الماضي حبس المدون والصحافي البارز وائل عباس 15 يوماً احتياطياً بعد أن حققت معه بتهم عدة بينها "المشاركة في تنفيذ أهداف جماعة إرهابية"، و"نشر أخبار كاذبة وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي".
ويعرف عباس بنشر أشرطة فيديو حول التعذيب في أقسام الشرطة إبان نظام مبارك.
وكانت نيابة أمن الدولة العليا قررت في وقت سابق حبس الناشط السياسي شادي الغزالي حرب مدة 15 يوماً احتياطياً بعد التحقيق معه بتهم نشر أخبار كاذبة على "فيسبوك" و"تويتر".
وقضت محكمة عسكرية الثلاثاء الماضي بحبس الصحافي والباحث إسماعيل الإسكندراني عشر سنوات. وكان تم توقيفه في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين التي تصنفها السلطات إرهابية منذ العام 2013.
لماذا خالف السيسي التوقعات؟
الباحث في معهد العلاقات الاستراتيجية الدولية بفرنسا كريم بيطار حاول في تصريحات لوكالة الصحافة الفرنسية أن يجد تفسيراً لموجة الاعتقالات الثانية التي بدأها السيسي وقال إن التوقيفات "تشكل استمراراً لسياسات القمع التي انتهجت خلال السنوات الأخيرة والرامية إلى القضاء على كل السلطات القادرة على إحداث التوازن مع السلطة التنفيذية مثل البرلمان والقضاء والإعلام والمنظمات غير الحكومية والمثقفين وغير ذلك".
ويتابع أن التوقيفات "مرتبطة من دون شك بالشعور المتنامي بالاستياء لدى قطاعات واسعة من المصريين وكذلك بشعور النظام بأنه قادر على الإفلات من العقاب بسبب قرار الغرب غض النظر عنه".
وإذا كان البيطار قد مال في تفسير موجة القمع الجديدة وخنق الحياة السياسية إلى الاحتياط لتبعات الأزمة الاقتصادية المتصاعدة، فإن الباحث هيثم حسنين الزميل بمعهد واشنطن قد أشار في تقرير له إلى تفسير آخر.
يرى حسنين أن السيسي لديه اعتقاد متأصل بأن التشاحن السياسي والسياسة عامةً يشكلان مصدر إلهاء للبلاد. ويبدو أن السيسي نفسه يحتقر السياسيين، ويصفهم بأنهم منافقون وفاسدون ولا يخدمون سوى مصالحهم الشخصية. ففي رأيه، إنّ المؤسسة التي هيمنت على مصر، بعد أن أعاد الرئيس أنور السادات فتح المجال السياسي في السبعينيات من القرن المنصرم، قد تجاوزت الغرض الذي كان منشوداً منها، إذ يعتقد السيسي أنه عندما أعاد السادات العمل بالأحزاب السياسية لتقديم هالة من الشرعية والديمقراطية. تمكنت المعارضة من تحقيق دور سياسي كبير بلغ ذروته في ثورة عام 2011. ووفقاً للسيسي وحلفائه، كادت تلك الثورة أن تدمّر الدولة والجيش عن طريق جلب الإخوان المسلمين إلى السلطة. وبرأيهم، إنّ الحفاظ على مثل هذا الحيز السياسي الواسع يمكن أن يؤدي إلى انتفاضة أخرى.
ويضيف "تقرير واشنطن" من هنا، يتطلع السيسي إلى إعادة تعبئة المجال السياسي بشبان "أوفياء ووطنيين" من اختيار الأجهزة الأمنية ومكتب الرئيس، على أن يحل هؤلاء الشبان محل النخبة من المسنين الذين بدأوا حياتهم المهنية في السبعينيات من القرن المنصرم.
لذا سعى السيسي وحلفاؤه إلى تدمير المعارضة من خلال قمع الإسلاميين، ولا سيما جماعة "الإخوان المسلمين" وتم طرد الكثير من أعضاء المعارضة اليسارية والليبرالية خارج البلاد أو تم حظرهم من جميع وسائل الإعلام، في حين، وللمرة الأولى، بدأت أجهزة الاستخبارات في شراء الوكالات الصحفية أو الاستثمار فيها بشكلٍ مباشر. وفي هذا الصدد، حظّرت الحكومة أيضاً جميع الأنشطة السياسية في الجامعات.
ويشير تقرير واشنطن إلى أن هدف السيسي على المدى الطويل يتمثل في إنشاء طبقة سياسية خالية تماماً من جماعة "الإخوان المسلمين" وأعضاء المعارضة الآخرين. وقد تكون هذه الرؤية على وشك الإثمار خلال الانتخابات المحلية القادمة، والتي أجلتها الحكومة مراراً وتكراراً بهدف إعداد مرشحين مناسبين – وبالتحديد المشاركين في "البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة" ومؤتمرات الشباب.
لماذا يكره السيسي التكتلات؟
ولكي ينجح السيسي في خلق طبقة سياسية بلا ضجيج او منزوعة المعارضة فكان عليه في المقام الأول التخلص إذن من كل من أثبت قدرته على إثارة الإزعاج إبان ثورة يناير، وكان على رأس هؤلاء "المزعجون" الإخوان المسلمين الذي كانوا القوة الأكثر عدداً في ثورة يناير ثم شباب الثورة الذين شاركوا بفاعلية عبر كيانات مثل حركتي كفاية و 6 أبريل فضلاً عن مجموعات الأولتراس التي لعبت دوراً حاسماً في ثورة يناير وخاصة يوم جمعة الغضب.
وقد بدأ السيسي مبكراً بعد 3 يوليو بالإطاحة بالإخوان المسلمين الخصوم المباشرين وزج بأكثر من 40 ألفاً منهم في المعتقلات، ثم التفت بعد ذلك إلى حركة 6 أبريل الأكثر شبابية وديناميكية فتم الزج بمؤسس الحركة أحمد ماهر وبعض قادتها الفاعلين مثل علاء سيف ومحمد عادل في السجن، ويقضي قادة الحركة أغلب أوقاتهم الآن بين السجن وبين المبيت يومياً بمقر قسم الشرطة تنفيذاً لأحكام قضائية.
وفي وقت متأخر نوعاً ما أتى الدور على التكتلات الرياضية، فبعد ملاحقات واعتقالات ومذابح في المدرجات استمرت لسنوات أجبر أولتراس الأهلي والزمالك على إنهاء مسيرتهما في الحياة الرياضية والعامة في مصر، بعد أن امتلأت بهم المدرجات وكانوا في الصفوف الأولى من حاملي الحجارة والدروع للدفاع عن متظاهري التحرير إبان ثورة يناير.
ويجادل المدافعون عن السيسي بأنَّ ما يراه الكثيرون قمعاً سياسياً هو في الحقيقة تدابير ضرورية لاستعادة النظام العام.
وبرَّر جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان تصرفات السيسي وقال إنه سيسمح بفتح المجال العام مجدداً، بمجرد أن يستقرَّ الوضعُ الأمني في مصر، بحسب تصريحات أدلى بها في وقت سابق لصيحفة "تليغرام" البريطانية. وقال: "تبدأ بالعمل على نظامٍ اجتماعي قوي، ثُمَّ يظهر التنوع السياسي في إطار النظام العام". وأضاف: "بمجرد أن يُحقق الدولة القوية، لن يمكنه الاستمرار دون تحولٍ ديمقراطي وشعور بالتحرر".
لكن الواقع ربما لا يكون في صالح الرأي الذي قدمه عوده الذي التقته الصحيفة البريطانية وهو يحتسي الشاي بنادي الجزيرة الذي يرتاده أبناء الطبقة الثرية، إذ تتجه الدولة الآن للتخلص من "ضجيج" الأحزاب بدمجها في حزب واحد يدين بولائه للرئيس عبد الفتاح السيسي، ليعود بمصر إلى مرحلة الحزب الأوحد.
وكان السيسي قد أفصح في لقاء مع عدد من الإعلاميين والسياسيين قبل عدة أشهر عن رغبته في توحيد الأحزاب السياسية في مصر تحت مظلة واحدة، مستنداً في ذلك إلى أن كثرة الأحزاب لم تثر الحياة السياسية وأن كبريات الدول تقوم على حزبين أو ثلاثة وليس على أكثر من 100 حزب كما هو حال مصر.