أثار غضب العرب بإنكاره حقَّ الفلسطينيين في دولتهم.
وأعلن انحيازه التاريخي للعثمانيين في غزوهم لفيينا.
ثم أغضب الأرمن، وقدَّم المبررات للغزو الأميركي للعراق.
امتدح الحضارة الإسلامية، ثم دافع عن نفسه بشهادة منسوبة للإخوان المسلمين.
تبدو شخصية برنارد لويس، الباحث المُتخصِّص في تاريخ الإسلام، الذي تُوفي، السبت 19 مايو/أيار 2018، في مدينة فورهيز إن.جيه، عن عمر يناهز 101 عام، أكثر تعقيداً من صورته كمجرد مؤرخ يهودي يحرض الغرب على تقسيم العالم الإسلامي، كما ينظر له في الإعلام العربي، فتاريخه مليء بالمواقف التي قد تبدو متناقضة وأحياناً صادمة.
ولكن لن ينسى لبرنارد لويس، أنه هو الذي أرجع هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2011، الإرهابية، إلى تدهور الحضارة الإسلامية، وهي وجهة النظر الجدلية التي أثرت على الرأي العام العالمي، وساعدت على صياغة السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش، حسب تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
تأثير هائل على جورج بوش حتى إنه كان يحمل نسخة من أحد مقالاته
لم يكن لأحد من الأكاديميين التأثير على إدارة بوش حول شؤون الشرق الأوسط أكثر من برنارد لويس.
فقد كان الرئيس بوش يحمل نسخة بها ملاحظات توضيحية لإحدى مقالاته، ضمن أوراقه، وقد التقى به قبل الغزو العراقي، في مارس/آذار 2003، وبعده. وكان لويس يقدم إحاطات موجزة بالبيت الأبيض، ومقر إقامة نائب الرئيس ديك تشيني والبنتاغون، في عهد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد.
ويتمثل جدل برنارد الرئيسي حول الإسلام في أن الحضارة الإسلامية قد تعرضت للتدهور على مدار قرون، وتركت متطرفين مثل أسامة بن لادن في موقف يستطيع من خلاله استغلال الإحباط الذي يعاني منه المسلمون من خلال رعاية الإرهاب على المستوى الدولي.
وبعد أن اختطف جهاديون عرب الطائرات التجارية واخترقوا بها مركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع من خلال عملية قام بتنسيقها وإدارتها بن لادن، طلب صانعو السياسة الأميركية الاجتماع بلويس على الفور.
وتحدث لويس عن العلاقة الفكرية الهامة بين الأصولية الدينية لابن لادن، التي ذكر أنها تعد نتاجاً للأنظمة العربية القمعية، والاستبداد العلماني لصدام حسين في العراق. وقال إن الديمقراطية هي الحل لكليهما. وكتب لويس: "إما أن نمنحهم الحرية أو أن يدمرونا".
ومع ذلك، فقد ذكر في وقت لاحق أنه كان يفضل أن تحرض الولايات المتحدة على التمرد في شمالي العراق بدلاً من غزوها.
أبرز تنبؤاته الفاشلة كانت في العراق
ويرى الكثيرون أنه مَن دقَّ طبول الحرب. وتنبأ في مقال له بصحيفة The Wall Street Journal عام 2002 أن يبتهج العراقيون جراء الغزو الأميركي، وهي توقعات اتَّضح مدى خطئها، وفقاً لما ذكره تشيني وغيره من مسؤولي البيت الأبيض.
وتحدَّث الكثيرون عن "عقيدة لويس"، التي تتمثل في فرض الديمقراطية على الأنظمة الاستبدادية. وأصبح كتابه بعنوان "ماذا حدث؟ الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط" (2002) بمثابة دليل لفهم ما حدث في 11 سبتمبر/أيلول (كان الكتاب بالمطبعة عند وقوع الهجمات). وتمت مناقشة المقالات التي كتبها في صحف The New Yorker و The Atlantic و The Wall Street Journal على نطاق واسع.
وفي ليلة اندلاع الحرب، تحدَّث تشيني عن لويس بالبرنامج الإخباري "لقاء مع الصحافة" على قناة NBC، باعتباره شخصاً يشاركه الرأي في أن "الرد الأميركي القوي والحازم على الإرهاب والتهديدات التي تتعرض لها الولايات المتحدة سوف يؤدي إلى تهدئة الأوضاع في تلك المنطقة من العالم".
ولكن التاريخ جاءت أحداثه مخالفة تماماً لتوقعات المؤرخ الشهير، فالغزو الأميركي للعراق فتح البابَ لتفكك الدولة العراقية وتوسع النفوذ السني والفتنة السنية الشيعية، وصولاً إلى صعود داعش والحرب عليه.
وفي عام 2004، ذكر لويس خلال لقاء له مع تشارلي روز من قناة PBS، أن تعقب قوات تنظيم القاعدة في أفغانستان لا يكفي. وقال: "لا بد أن ننخرط في قلب الأوضاع بالشرق الأوسط".
أشهر مقولاته عن صدام الحضارات
قدم لويس تشخيصاً لموقف المجتمع العربي المتداعي. وفي إحدى مقالاته بمجلة The Atlantic عام 1990، التي كانت تحمل عنوان "جذور غضب المسلمين"، استخدم عبارة "صدام الحضارات"، لوصف ما اعتبره خلافاً حتمياً بين العالم الإسلامي والغرب. (اقتبس العالم السياسي صمويل هنتنجتون هذه العبارة في مقال بارز له عام 1993 ونسبها إلى لويس).
وكتب لويس في مقاله: "حقق الإسلام الراحة وهدوء البال لملايين من الرجال والنساء. ومنح الكرامة لكثير من الفقراء. وعلم الأجناس المختلفة التعايش في أخوة، وعلم أصحاب العقائد المختلفة التعايش جنباً إلى جنب في تسامح. وخلق حضارة عظيمة عاش بها المسلمون وغير المسلمين حياة مبدعة ومفيدة، أثرت العالم بأكمله من خلال إنجازاتها.
واستطرد قائلاً: "ومع ذلك، شهد الإسلام كغيره من الديانات أيضاً فترات أثارت خلالها روح الكراهية والعنف في نفوس بعض أتباعها. ولسوء حظنا أن هذه المنطقة من العالم الإسلامي تمر حالياً بتلك الفترة، وأن الكثير من تلك الكراهية موجّهة إلى الولايات المتحدة".
يرى أن الأصولية تستغل إحساس المسلمين بالظلم
ويرى لويس أن الأصولية الإسلامية تعارضت مع كل من العلمانية والحداثة، اللتين يجسدهما الغرب. وكتب أن الأصوليين منحوا "هدفاً وشكلاً لاستياء وغضب حشود المسلمين من القوات التي حطت من شأن قيمهم وولاءاتهم التقليدية وسلبتهم في التحليل النهائي معتقداتهم وطموحاتهم وكرامتهم، وإلى حد كبير، سبل معيشتهم أيضاً.
وذكر تشيني ذات يوم أنه خلال السبعينيات من القرن الماضي وقبل اندلاع الثورة الإيرانية "درس لويس كتابات رجل دين غامض يُدعى خوميني وشهد بذور الحركة التي سوف ينجم عنها نظام حكم استبدادي ديني". وقام مؤيدو آية الله روح الله خوميني بخلع شاه محمد رضا بهلوي عام 1979.
المأساة الفلسطينية نتيجة لتخلف المنطقة وفشل أهلها
من أبرز الانتقادات التي وُجهت إلى لويس أنه تعامل مع الإمبريالية الغربية والتدخلات الأميركية ونزوح الفلسطينيين جراء الاحتلال الإسرائيلي، باعتبارها تبعات للإخفاق السياسي والتخلف الاجتماعي بالمنطقة، وليست عناصر أسهمت في حدوثها.
واعتبر العالم السياسي آلان وولف، أن موقف لويس من الإسلام "عدائي". وأشار المؤرخ الإسلامي رتشارد بوليت إلى أن لويس يحتقر العرب المعاصرين.
وقال بوليت خلال لقاء له مع صحيفة Washington الشهرية "إنه لا يحترمهم، ويرى أنهم لا يصلحون سوى لاتباع مسار الغرب".
واعتبره الباحث الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد، ألدّ خصوم لويس البارزين، أحد دعاة الآراء الثقافية الأوروبية الذي شوّه الحقيقة وأخفى سياسته تحت ستار الأبحاث. وكتب سعيد في مجلة The Nation، أن لويس وهنتنجتون قد أدركا أن "الأمور المعقدة للغاية مثل الهوية والثقافة تتواجد في عالم كارتوني يضرب به كل من بوباي وبلوتو الآخر دون رحمة".
وأجاب لويس على منتقديه قائلاً "إذا لم يستطع باحثو الغرب دراسة تاريخ إفريقيا أو الشرق الأوسط بصورة مشروعة، فإن الأسماك وحدها إذن هي التي تستطيع دراسة الأحياء البحرية".
هاجم عرفات ودافع عن الحملات الصليبية
ويبدو أن لويس لم يكن يمانع مطلقاً من معاداة العرب. فقد دافع مرات عديدة عن الحملات الصليبية، باعتبارها ضرورية للحد من قوة الحضارة الإسلامية. وأطلق على البلدان العربية "سلسلة من الأنظمة الاستبدادية الخسيسة".
وقال إن مطالبة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بالتخلي عن الإرهاب تماثل مطالبة تايجر وودز بالتخلي عن لعبة الغولف. وعند مناقشة سلطة الأصوليين السعوديين، أجرى مقارنة افتراضية، مع سيطرة كو كلوكس كلان على عائدات النفط في تكساس.
وقال "باعتباري متخصصاً في الشؤون الإسلامية، فإنني أنزعج من المسلمين. فمن ناحية، هناك أشخاص يجعلونك تعتقد أن الإسلام دين متعطش للدماء يسعى وراء تدمير العالم. ومن ناحية أخرى، هناك أناس يقولون إن الإسلام دين حب وسلام، على غرار طائفة كويكر المسيحية، ولكنهم أقل عدوانية.
نشأته: ابن السمسار الذي غيرت اللغة العبرية حياته
وُلد برنارد لويس في لندن، في 31 مايو/أيار 1916، في أعقاب اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكان والده هاري يعمل وسيطاً عقارياً، بينما كانت والدته جيني ربة منزل.
وفي سن الثانية عشرة بينما كان يستعد للتعميد، أدرك أن العبرية لغة لها قواعدها النحوية، وليس مجرد "تشفير الصلوات والطقوس"، حسب ما كتبه في كتابه "من بابل إلى الترجمان: تفسير الشرق الأوسط" (2004).
وحينما التحق بكلية الدراسات الشرقية بجامعة لندن (وهي حالياً كلية الدراسات الشرقية والإفريقية) قرأ الكثير من الكتب بالعبرية، وبدأ دراسته للغات، ومن بينها الآرامية والعربية الكلاسيكية والحديثة واللاتينية واليونانية والفارسية والتركية.
هدية يوم التعميد تقوده إلى تاريخ قرطبة وبغداد وإسطنبول
كان التاريخ يمثل أحد اهتماماته أيضاً، ويرجع ذلك أيضاً إلى يوم تعميده. فقد كانت إحدى الهدايا التي تلقاها في ذلك اليوم ملخصاً للتاريخ اليهودي، الذي لم يعرف عنه سوى القليل.
وقد أدى به ذلك إلى قراءة قرطبة، وإسبانيا في ظل حكم المغاربة، وبغداد في ظل حكم الخلفاء، وإسطنبول في ظل الحكم العثماني. وفي الجامعة، أصبح طالباً دارساً لهاملتون جيب، الباحث الكبير في الشؤون الإسلامية، وتخرج بعد حصوله على مرتبة الشرف في التاريخ عام 1936.
وتذكر أن جيب سأله ذات يوم "إنك تدرس شؤون الشرق الأوسط الآن منذ أربع سنوات، ألا تظن أنه حان الوقت كي ترى المنطقة؟"
وحصل لويس على منحة سفر إلى فلسطين وسوريا ولبنان وتركيا، وحضر فصولاً بجامعة القاهرة. وأكدت لقاءاته بمواطني تلك البلدان ملاحظاته اللاحقة بشأنهم.
عمل بالاستخبارات ورفضت دول عربية منحه تأشيرة
كتب برنارد في إحدى المناسبات "هناك شيء ما في الثقافة الدينية للإسلام يُلهم أكثر الناس تواضعاً، ويمنحهم الكرامة، ويشجعهم على احترام الآخرين بصورة لم يسبق لها مثيل في الحضارات الأخرى".
وأصبح عام 1938 مساعد محاضر بجامعة لندن، حيث حصل على درجة الدكتوراه في العام التالي.
وفي عام 1940، تم تجنيده بالقوات المسلحة البريطانية وانضم لسلاح الدبابات، وسرعان ما انتقل بعد ذلك إلى الاستخبارات.
وفي أعقاب الحرب، أراد لويس أن يدرس في البلدان العربية. ومع ذلك، فقد رُفض أن يتم منحه تأشيرة باعتباره يهودياً في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات في أعقاب إنشاء إسرائيل. ورفض أن يكذب بشأن كونه يهودياً، مثلما كان يفعل الآخرون، حوَّل اهتمامه إلى تركيا وإيران خلال فترة الحكم العثماني.
أول باحث غربي يطلع على الأرشيف العثماني
ووصل برنارد إلى اسطنبول عام 1950 حينما فتحت الحكومة التركية الأرشيف العثماني. وكان أول باحث غربي يحصل على حقِّ الاطلاع عليه. وشهد أول انتخابات حرة بتركيا، ما أدى إلى نشر كتابه المحتفى به عام 1961 بعنوان "ظهور تركيا الحديثة".
ويعتقد بعض الأكاديميين أن لويس قد طبّق عن طريق الخطأ الدروسَ المستفادة من تركيا العلمانية الديمقراطية الحديثة على البلدان العربية ذات التاريخ المختلف.
وقال الأرمن إن ارتباطه بتركيا جعله ينكر أن مذبحة الأرمن في تركيا عام 1915، كانت عملية إبادة جماعية، رغم أنه أقرها وأدانها، وقام بتعريف الإبادة الجماعية باعتبارها جرائم قتل جماعية مدبرة مسبقاً وترعاها الحكومة.
وخلال التسعينيات، غرَّمته إحدى المحاكم الفرنسية فرانكاً واحداً لإغفاله ذكر أدلة موضوعية، ربما كانت سوف تدحض رأيه حول قتل الأرمن في مقال لصحيفة Le Monde الفرنسية.
وتزوج لويس من روث هيلين أوبنهايم، المواطنة الدنماركية، عام 1947، وكان الطلاق عام 1974، وأصبح مواطناً أميركياً عام 1982.
وإلى جانب زوجته الأخيرة السيدة بونتيزي تشيرشل، ترك لويس ابنا يدعى مايكل وابنة تدعى ميلاني دان وسبعة أحفاد وثلاثة أبناء للأحفاد.
مرشد المحافظين الجدد ومقاله الأكثر شهرة
نفوذ برنارد زاد خلال السبعينيات، حيث كان يقدم المشورة إلى السيناتور الديمقراطي بواشنطن هنري جاكسون وغيره من متشددي السياسة الخارجية ممن اتضح في وقت لاحق أنهم المحافظون الجدد.
ووافق لويس على لقب المحافظين الجدد. وفي منتصف السبعينيات، طلبت رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير من مجلس وزرائها قراءة مقاله الذي ذكر خلاله أنه لا يحق للفلسطينيين المطالبة بدولة.
خبير التفاعلات بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي
وربما كان لويس، الذي كتب أو حرر أكثر من عشرين كتاباً، بالإضافة إلى مئات المقالات، خبيراً رائداً في التفاعلات بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي.
واللافت أنه قال إن اليهود قد لقوا معاملة أفضل في البلدان الإسلامية عنها في البلدان المسيحية، على مدار التاريخ. وقال إنه غالباً ما يفضل مشاهدة الأحداث من وجهة نظر المسلمين.
وقال "في فيينا، أقف على الخطوط التركية، ولست مع المدافعين"، مشيراً إلى الانتصار الأوروبي على المحاولة العثمانية لقهر إمبراطورية هابسبورغ.
وناقش لويس في كتابه "من بابل إلى الترجمان" كيفية ترجمة عمل سابق له ونشره باللغة العبرية، على يد وزارة الدفاع الإسرائيلية، وبالعربية على يد جماعة الإخوان المسلمين الأصولية.
وكتب لويس "ذكر مترجم النسخة العربية في ملاحظاته التمهيدية أن مؤلف هذا الكتاب يمثل أحد أمرين: إما أن يكون صديقاً مخلصاً أو عدواً جديراً بالاحترام؛ وعلى أي حال، فإنه شخص لم يشوه الحقائق أو يراوغها".
"يكفيني أن ألتزم بذلك الحكم".