الآن وقد أتمّ إزاحة المعارضين، وغير المعارضين، حان الدور على ما لم يكن في الحسبان.. السيسي يرى نفسه قوياً من طبقة رئيسي روسيا والصين

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/22 الساعة 19:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/22 الساعة 19:43 بتوقيت غرينتش

أعلنت حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ ثلاث سنوات عن فكرةٍ لامعة لعاصمةٍ إدارية جديدة ستسطع في منطقة الصحراء الشرقية للبلاد بحلول 2022، وصُوِّرَت شوارع تصطف الأشجار على جانبيها، ومنازل جديدة تتسع لخمسة ملايين شخص وأطول بناية في إفريقيا.

تقول الشركة المسؤولة عن تطوير المشروع، التي يسيطر عليها الجيش، إن المشروع تأخَّرَ كثيراً عن موعده المُقرَّر. فلم تكمل الشركة مزيداً من عمليات التشييد إلا بناية واحدة لفندق يعود ملكيته إلى الجيش داخل مجمعٍ يكتسي باللون الأبيض. وقال خالد الحسيني، المُتحدِّث باسم المشروع، لصحيفة The Wall Street Journal إن مرحلةً واحدةً فقط، من المراحل الثلاث للمشروع، لا تزال قيد التشييد. وأضاف: "لم نُخطِّط لأي شيءٍ سوى المرحلة الأولى، يجب علي أن أكون صادقاً".

فاز الرئيس عبد الفتاح السيسي بولايةٍ ثانية في مارس/آذار الماضي بنسبة 97% من الأصوات، فلم يواجه إلا مُرشَّحاً رمزياً بعد أن تعرَّضَ جميع مُرشَّحي المعارضة الحقيقيين للسجن أو الإبعاد من السباق الرئاسي. ويضرب حكم السيسي في العالم العربي مثالاً على الأنظمة المنبعثة من جديد التي حقَّقَت انتصاراً كبيراً على القوى التي أطلقتها ثورات الربيع العربي في 2011.

وتضرب مصر أيضاً مثالاً على أن نفس هذه القوى كانت تحت سطح الأحداث مباشرةً. إذ تشبه إستراتيجية السيسي في عديدٍ من الطرق الإستراتيجية التي سار عليها الرئيس السابق حسني مبارك، الذي انتهت فترة حكمه الممتدة لثلاثة عقود بثورةٍ شعبية. ومثلما فعل مبارك، اعتمد السيسي على دولةٍ أمنية كبيرة ونهجٍ اقتصادي يمنح الجيش الامتيازات. ويشكو كثيرون في قطاع الأعمال من أن السيسي مارَسَ درجة أكبر تهميش الشركات الخاصة، ما ألحَقَ ضرراً بالاقتصاد.

وقال نجيب ساويرس، الملياردير المصري الذي يشير إلى أن بعضاً من خططه التجارية تعرقلت بفعل تدخُّل الدولة: "إنهم يثقون في الجيش في المقام الأول. أما القطاع الخاص، فهم يقبلونه. يستطيع الأمن عرقلة أي مشروع. ولديهم شركاتهم الخاصة الآن. هذا ليس موقفاً جيداً".

ينمو الاقتصاد المصري بنسبةٍ متواضعة تقترب من 5.4%، وفقاً للبنك المركزي. إلا أن الأغلبية العظمى من المصريين يرون أن مستويات المعيشة انحدرت وسط ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب وارتفاع أسعار الغذاء، وهو ما يثير نفس المظالم التي سبقت الثورة، ويرفع احتمالية تكرارها.

وتسبَّب التضخم والتعثُّر الاقتصادي في انطلاق تظاهراتٍ حول الشرق الأوسط خلال الأشهر الأخيرة. تسبَّبت الإحباطات الاقتصادية في إيران خلال شهريّ ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني في اندلاع احتجاجات استمرت لأكثر من أسبوع وخلَّفت وراءها أكثر من 20 قتيلاً. وفي تونس، أثارت تخفيضات الميزانية تظاهراتٍ صاخبة واشتباكاتٍ مع قوات الأمن في 10 مدن وبلدات تزامناً مع الذكرى السنوية لخلع علي زين العابدين، الرجل القوي الذي حكم البلاد لفترة طويلة. وشهد شهر يناير/كانون الثاني في الأردن اعتصاماتٍ واحتجاجاتٍ رداً على رفع أسعار الخبز. وانطلقت كذلك في مصر احتجاجاتٌ عفوية مطلع هذا الشهر، مايو/أيَّار، بعد أن أعلنت الحكومة عن زيادةٍ مفاجئة في أسعار تذاكر مترو الأنفاق.

تعتمد الدول الخليجية على الحكومة المصرية باعتبارها جداراً نارياً أمام تكرار حدوث ثورة شعبية.

فقد قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال زيارته في مارس/آذار: "دعوت الله ألا تنهار مصر".

ووصل السيسي، الذي شغل من قبل منصب وزير الدفاع، إلى سدة الحكم بعد أن قاد في عام 2013 الإطاحة بالرئيس الإسلامي المُنتَخَب محمد مرسي. وفي أعقاب الانقلاب، لاحقت قوات الأمن مؤيدي مرسي والمعارضين السياسيين الآخرين، وقتلت ما لا يقل عن ألف شخص واعتقلت عشرات الآلاف، وفقاً لتقارير المجموعات الحقوقية.

تعهَّد السيسي أمام المصريين بتحقيق الاستقرار والرفاه، وزعم بأنه حمل على عاتقه إبعاد مصر عن الفوضى والحرب التي ضربت بلاداً عربية أخرى، مثل سوريا وليبيا واليمن.

حظى السيسي لبعض الوقت بتوقيرٍ شديدٍ من جانب الشعب. فقد وضع أنصاره المُلهَمون صوره على كل شيء، بدءاً من الشوكولاتة ووصولاً إلى الملابس الداخلية النسائية.

غير أن هذا اللمعان الذي حظيت به رئاسته زال أثره. فقد ثبت أن الاستقرار بعيد المنال في ظلِّ معاناة الحكومة لإيقاف هجمات الجماعات المُسلَّحة، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي قتل المئات من الجنود والمدنيين في الأعوام الأخيرة.  

وزادت حالة الاستياء حتى داخل نفس المؤسسة العسكرية التي جلبت السيسي إلى الحكم. فمنذ ديسمبر/كانون الأول، اعتقلت الحكومة عدداً من المعارضين الذين اتخذوا خطوةً نحو مواجهة السيسي في الانتخابات وهمَّشَتهُم، بمن فيهم ثلاثة ضباط جيش حاليين وسابقين.

على الرغم من أن السيسي ساعد في تحسين الوضع الاقتصادي للجيش، هاجم مرشحو المعارضة المُحتَمَلون آنذاك الذين جاءوا من خلفيةٍ عسكرية أداء الرئيس المُتعلِّق بالأمن، والاقتصاد، والافتقار إلى الحريات السياسية.

رفض مكتب السيسي الرد على طلبٍ للتعليق. ورفض المُتحدِّث الرسمي باسم القوات المسلحة التعليق كذلك.

يقول مُحلِّلون إن السيسي يرى نفسه جزءاً في مجموعةٍ من الحكام الأقوياء حول العالم. قبل الانتخابات المصرية، أرسل تهنئةً إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للفوز بانتخابات معروفة نتيجتها مُسبَّقاً. وأشاد أيضاً بالرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي أصبح الرئيس الفعلي للصين مدى الحياة.

اضطلع الجيش المصري بدورٍ رئيسي في الاقتصاد منذ عقود. فقد ساعدت المشروعات التجارية القوات المسلحة في تعويض التخفيضات في الميزانية التي فرضها مبارك في السنوات التي أعقبت اتفاقية السلام مع إسرائيل لعام 1978. ومع نهاية حكم مبارك المستمر منذ 30 عاماً، امتلك الجيش أسواقاً تجارية وفنادق ومصانع معكرونة إضافةً إلى مصانع الأسلحة، مستغلاً مركز الإعفاء الضريبي وقدرته على الحصول على عمالةٍ رخيصة مُتَمَثِّلة في الجنود الذين يؤدون الخدمة العسكرية.

لكن الجيش حقَّقَ تحت حكم السيسي آفاقاً جديدة من القوة الاقتصادية. ويستحيل الوصول إلى النسبة المئوية الدقيقة من الاقتصاد الذي تسيطر عليه القوات المسلحة، نظراً إلى أن الشركات المرتبطة بالجيش لا تفصح عن أرباحها والتفاصيل المتعلقة بميزانية الجيش لا يُعلَن عنها. بل إن أي صورة من المساءلة من جانب الهيئات الرقابية الحكومية تبدو الآن أصعب، في ظلِّ إحالة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات لمحاكمةٍ عسكرية بعد الانضمام إلى حملةٍ رئاسيةٍ معارضة والتهديد بالكشف عن أدلة تورُّط قيادات المؤسسة العسكرية.  

وفي لقاءٍ مع التلفزيون الحكومي أُجرِيَ في مارس/آذار، قال السيسي إن نصيب الجيش من الاقتصاد تتراوح نسبته بين 2% و 3%. وأضاف: "لو إن اقتصاد القوات المسلحة 50% أنا هتباهى لأن القوات المسلحة حكومة".

يعتقد الخبراء أن الحجم الفعلي للدور الاقتصادي للجيش أكبر بكثيرٍ من الأرقام الرسمية المعلنة، استناداً إلى رصد الشركات التي يقودها الجيش.

قال أندرو ميلر، الخبير المُتخصِّص في الشؤون المصرية بمجلس الأمن القومي الأميركي سابقاً، إن السيسي "لا يثق في القطاع الخاص، ولا يثق في رجال الأعمال".

عندما وصل السيسي إلى سدة الحكم، لجأ إلى الجيش كي يساعد في علاج الاقتصاد المُترنِّح. فأوكل إلى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة تنظيم عملية توسعة قناة السويس، وهو أحد مشروعاته العملاقة البارزة.

تعدى الجيش بعد فترةٍ قصيرة من ذلك على الشركات المدنية أيضاً، وبمباركة من السيسي. واستبعدت الحكومة خطة مدنية لتقسيم المنطقة الواقعة على طول القناة لبناء منطقة صناعية وميناء. إلا أنه بدلاً من ذلك منح الجيش عقدين، بما فيها عقد شراكة بين الجيش وبين شركة تطوير خاصة، وفقاً لأحمد درويش، الرئيس السابق للهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس. وحتى هذه اللحظة، لم تتجسَّد فكرة المنطقة الصناعية المُخطَّطة، على الرغم من أن الحكومة تقول إنها تدفع بدفة المشروع إلى الأمام.

استُبدِلَ درويش في منصبه بالفريق مهاب مميش، وهو ضابط جيش كبير يرأس هيئة قناة السويس، بالإضافة إلى المنصب السابق لدرويش. ترك عديدٌ من المسؤولين المدنيين المُوجَّهين نحو الأعمال مناصبهم في حكومة السيسي خلال الأعوام السابقة، بمن فيهم خبيران اقتصاديان شغلا مناصب وزارية من قبل، ليتركوا الجيش أكثر هيمنةً على مقاليد السلطة.

يمارس الجيش أيضاً نفوذه من خلال شبكة متفرقة من الضباط السابقين والحاليين الأعضاء في مجالس إدارة الشركات والذين يمتلكون حصصاً في شركاتٍ خاصة. تساعد هذه الممتلكات الطبقة العسكرية على السيطرة على الشركات التي لا تمتلكها بصفة مباشرة وتحقيق الأرباح منها.

قالت شانا مارشال، خبيرة الاقتصاد السياسي المصري بجامعة جورج واشنطن: "إنهم يدسون أنفهم في كل عمل".

نظَّمَ المسؤولون الأمنيون والعسكريون الاستحواذ على ما لا يقل عن ثلاث قنوات تلفزيونية خاصة كبرى خلال العامين الماضيين. واستولى مُتحدِّثٌ سابق باسم الجيش على قناة "العاصمة" الفضائية في يناير/كانون الثاني 2017. بينما استولت شركةٌ أمنية برئاسة مسؤول استخبارات عسكري سابق على قناة تلفزيون "الحياة" في منتصف عام 2017.

أعاد ذلك الاستحواذ نفوذ بعض أقوى رجال الأعمال المدنيين في مصر. قال ساويرس، المالك السابق لشبكة OnTV التي تتمتَّع بشعبية، إن الحكومة طلبت منه طرد ثلاثة مراسلين على الأقل، وعندما رفض استولت شخصيةٌ كبيرة في مجال صناعة الصلب وموالية للحكومة على شبكة OnTV، وذلك قبل بيع أسهمه إلى شركة يمتلكها جهاز الاستخبارات المصري عام 2017.

وقال ساويرس إن القوات الأمنية أيضاً عرقلت خطط أعمال القطاع الخاص. وأضاف أن محاولاته للحصول على شركة الاستثمارات CI Capital عرقلها جهاز الأمن عام 2016. ولم يرد CI Capital على طلب الحصول على تعليقٍ منه.

تسبَّبَت الاعتراضات التي أبداها جهاز الأمن المصري العام الماضي في إحباط محاولات شركة Archer Daniels Midland Co في الاستحواذ على National Company for Maize Products المصرية، وفقاً لما قاله ساويرس. وأكَّدَ شخصٌ مُطَّلِعٌ على القضية إن الجهات التنظيمية المصرية تصدَّت للاستحواذ المُخطَّط له.

فيما بعد، أُدمجت شركة الذرة، التي تعذر الوصول إليها للحصول على تعليق، مع شركة مصرية بدلاً من ذلك.

أثناء تولي السيسي مقاليد الحكم، باشرت الحكومة بإجراء تغييراتٍ تنظيمية تُسهِّل على القوات المسلحة القيام بأعمالٍ تجارية. ووسَّعَت حكومته قدراتها لتشمل إبرام صفقات عقارية وخوَّلت الجيش بإنشاء شركة أدوية.

عندما أدَّت أزمة العملة إلى نقصٍ في السلع الأساسية مثل السكر عام 2016، بدأ الجيش في بيع طرود الطعام المدعومة من صناديق الشاحنات. وكذلك دَعَمَ حليب الأطفال فانخفض سعره في الصيدليات، واعتَبَرَ تلك الخطوة انتصاراً على القطاع الخاص. قال المُتحدِّث الرسمي باسم الجيش في بيانٍ مكتوب في سبتمبر/أيلول عام 2016: "وجَّهَ الجيش المصري ضربةً في وجه الاحتكار الجشع للتجار والشركات التي تعمل في صناعة الألبان".

يتمثَّل العنصر الأوضح ضمن الإمبراطورية الاقتصادية المُوسَّعة للجيش في مجموعةٍ واسعةٍ من مشروعات الإنشاء الحكومية بما فيها الطرق والمباني السكنية مثل مبادرة وطنية لإنشاء مليون وحدة سكنية في جميع أنحاء البلد. ويقول الخبراء إن التنظيمات الجديدة سمحت للمتعاقدين المتصلين بالجيش بتحقيق احتكار واقعي لعقود البناء العامة.

وتُعد ما يُطلق عليها "العاصمة الإدارية الجديدة" الأكثر طموحاً من بين تلك المشروعات. أعلنت عنها الحكومة عام 2015، وقالت إنها تأمل، أن تجذب خمسة ملايين من السكان، ما يُخفِّف الاكتظاظ بالقاهرة الكبرى والتي تضم حالياً ما يُقدَّر بـ 20 مليون شخص. يعيش الملايين في الأحياء الفقيرة وغيرها من المساكن غير الرسمية مع حصولهم على الخدمات الحكومية بصورة غير مُوثَّقة.

منحت المدينة الجديدة المُخطَّط لها فرصةً كبيرة للجيش بفرد عضلاته الاقتصادية. إذ أنه عندما انسحبت شركةٌ حكوميةٌ صينية من صفقة قيمتها 3 مليارات دولار لإنشاء مبانٍ حكومية بالموقع عام 2017، عَرَضَت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة إكمال البناء بنصف السعر عن طريق عقود من الباطن، وفقاً لما قاله الحسيني.

وفي شهر مارس/آذار، أعلنت الحكومة المصرية عن بدء إنشاء منطقة تجارية في العاصمة الجديدة، تشمل خطط لبناء ناطحة سحاب تبلغ 1263 قدماً (0.384 كم تقريباً). سيكون المبنى الأطول في إفريقيا حين يكتمل. ولإكمال هذا الجزء من العاصمة الجديدة، أبرمت الشركة التي يدعمها الجيش والمسؤولة عن الإشراف على العاصمة الجديدة عقداً مع شركة China State Construction Engineering Corp.

توجد بالطريق المترب إلى موقع الإنشاء لوحة إعلانات لمجموعة طلعت مصطفى، التي تُعد واحدةً من أكبر شركات الاستثمار المعروفة في المشروع. ضخَّت شركة هشام طلعت مصطفى، وهو عضوٌ كبيرٌ سابق في حزب مبارك، حوالي ملياري دولار أميركي في العاصمة الجديدة.

خرج مصطفى من دوَّامة استثنائية من المشكلات القانونية للمساهمة في المشروع.

أدانت محكمة الجنايات بالقاهرة مصطفى لتعيين ضابط الشرطة السابق الذي طعن النجمة اللبنانية المشهورة سوزان تميم حتى الموت في فندق بدبي عام 2008. جعلت المحاكمة مصطفى رمزاً لما يراه الكثيرون على أنه ثقافة من الانغماس والمحسوبية في سنوات فجر رئاسة مبارك. لم يستجب مكتب مصطفى لطلبات الحصول على تعليقات.

في يونيو/حزيران 2017، أصدر الرئيس السيسي عفواً عن مصطفى وأطلق سراحه من السجن وسمح له باستئناف منصبه كمديرٍ تنفيذي لشركته TMG Holding. وذكرت الشركة في وقتٍ لاحق أن إيراداتها زادت أكثر من الضعف بعد إطلاق سراح مصطفى ومشاركتها في مشروع العاصمة الجديدة بقيادة الجيش.