قديماً قال العرب "مصائب قوم عند قوم فوائد"، هذه المقولة التاريخية تنطبق تماماً على المكاسب التي ينتظر أن تجنيها القاهرة من تعقيدات الموقف السياسي في كل من العراق وليبيا وتركيا، والتي سوف تصب في مصلحتها من حيث لا تحتسب، لتتحول مصر قريباً إلى المركز الأهم لتصدير البترول إلى أوروبا.
مؤخراً، عاد المشروع الطموح لنقل البترول العراقي عبر الأردن إلى المصافي المصرية ومنها إلى أوروبا ليطل من جديد. وهو المشروع الذي "بدأت مصر تتخذ الخطوات المبدئية استعداداً له"، على حد تعبير مصدر مطلع بوزارة البترول المصرية.
المصدر الذي رفض ذكر اسمه، قال إنه تم الاتفاق المبدئي مع الجنرال خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي المحسوب على برلمان طبرق، في آخر زيارة غير معلنة للقاهرة، والذي جرى نقله بعدها مباشرة إلى فرنسا للعلاج، على أن يتم نقل بترول ليبيا إلى مصر، ومنها إلى أوروبا.
وبذلك تكون القاهرة "حصدت خيرات الشرق والغرب"، ودعمت موقفها لدى القارة العجوز، لتصطاد عصافير عدة بضربة حجر واحد، على حد تعبير المصدر.
بترول العراق
منذ سقوط نظام صدام حسين وحتى اليوم، والنفط العراقي صوب أعين الناظرين. الكل كان يفكر فيه، ويحاول الاستفادة منه قدر الإمكان.
خريطة توزيع النفط في العراق منقسمة إلى نصفين، نفط الحقول الشمالية والتي كانت تصدر إلى أوروبا حتى عام 2014 عبر أنبوب "كركوك – جيهان".
لكن هذا الأنبوب تعطل بسبب هجمات التنظيمات الاسلامية المسلحة، وإن استمر مرور نفط شمال العراق إلى أوروبا عبر ميناء جيهان التركي عبر النقل البري، لكن حالياً ونظراً للخلافات القائمة بين الحكومة العراقية وإقليم كردستان، فإن الصادرات متوقفة منذ ما يقرب من 6 أشهر.
وحاولت الحكومة العراقية استخدام نفط الحقول الشمالية لأغراض التصفية، وفي نفس الوقت استمرت المفاوضات مع الأكراد ليتم تصدير هذا النفط عبر "أنبوب الكرد" الذي أنشاه الأكراد عام 2012، ومنه إلى ميناء جيهان التركي، لكن حتى الآن المفاوضات معطلة.
أما بترول الجنوب الأخف وزناً والأعلى سعراً، فكان يتم نقله عبر ميناء البصرة، ومنها إلى شط العرب، فالخليج العربي فقناة السويس ومنها إلى أوروبا والصين وغيرها.
لكن حالياً وبعد القضاء تقريباً على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، أصبح من الممكن الالتفات بشكل أكبر للمشاريع الاقتصادية الكبرى.
مكافأة السيسي
ونظراً لتدهور البنية التحتية في ميناء البصرة، والتي تزامنت مع رغبة أوروبية – أميركية في تقليص النفوذ التركي، الذي يعد مرور النفط عبر أراضيه أحد نقاط قوته تجاه القارة العجوز، تقرر إحياء المشروع القديم الطامح إلى نقل النفط العراقي عبر أنابيب إلى الأردن، ومنها إلى مصر التي ستكون محطة أخيرة قبل تصديره لأوروبا.
وبذلك تكون أوروبا ضمنت استمرار وصول النفط لها بعيداً عن التحكمات التركية والأزمات الكردية. وفي نفس الوقت، تكون قد جرت مكافأة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي نجح إلى حد كبير في إيقاف الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، التي ارتاحت من الهاجس الأكبر لديهم منذ هبوب الطوفان السوري.
الكل رابح إذن باستثناء الأكراد والأتراك.
ما هو المشروع؟
المشروع الطموح هدفه إقامة خط أنابيب بترول يتحرك من مدينة البصرة إلى غرب العراق، ومنها يمر إلى مدينة الزرقاء الأردنية ثم العقبة، وصولاً إلى مدينة السويس المصرية.
وقد وقع كل من وزراء البترول في مصر والأردن والعراق اتفاقاً مبدئياً بهذا الخصوص نهاية عام 2015، على أن تتم المرحلة الأولى إلى الأردن، والمرحلة الثانية إلى مصر.
وقد اتفق مبدئياً على التركيز على نفط الجنوب بشكل أساسي، أما نفط الشمال (الذي يذهب إلى تركيا)، فمن المخطط بعد تحديث وصيانة شبكة الأنابيب الداخلية والخطوط الاستراتيجية التى تربط حقول الشمال بالجنوب، أن يذهب جزء منه هو الآخر إلى مصر، في إطار خطة تقليل الاعتماد على تركيا.
"المشروع كبير، وأعتقد أنه سيأخد وقتاً طويلاً نسبياً"، هكذا يقول علي أبو الحب، كبير المهندسين بإحدى شركات النفط بالعراق لـ"عربي بوست".
وأضاف "بعيداً عن الخلفيات السياسية التي أراها بالطبع تشكل عامل مهم في المشروع، لكن من الناحية اللوجستية البحتة، أعتقد أن مشروعاً كهذا مهم جداً لتنويع طرق التصدير". لكنه استدرك قائلاً "كما أسلفت، لا أعتقد أنه سينجز في المدى القريب، ربما في المدى البعيد من 6 إلى 7 سنوات بحد أدنى".
النفط الليبي
منذ زمن الرئيسين المصري مبارك والليبي القذافي، هناك مشروع جرى طرحة يتعلق بمد خط أنابيب يحمل النفط من ليبيا إلى مصر. نفذت الدراسات وتم اختيار النقاط التي سيمر منها الخط، لكنه تعطل لأسباب عدة، إلى أن قامت الثورة على نظام القذافي وما تلاها من اقتتال أهلي.
ومع سطوع نجم الجنرال حفتر، ونجاحه في فرض سيطرته على الجزء الأكبر من ليبيا، بدأ المشروع القديم يعود من جديد للنور، خصوصاً مع عدم قدرة الخبراء الإيطاليين العودة لمباشرة أعمال الصيانة في المصافي الليبية مما أدى لتهالكها.
من جانبه يرى حفتر المدعوم من القاهرة والإمارات، أن هذا المشروع حيوي للدولتين، لكن يتبقى فقط الانتظار لإتمام سيطرته على المدن الباقية في الشرق (سرت -مصراته- درنة) للبدء في تنفيذ المشروع القديم.
مصر بدأت التجهيزات
وعلى الجانب المصري، بدأت الحكومة اعتماد خطة لتطوير البنية التحتية لمصافي البترول في السويس وتطوير ميناءي السويس ودمياط، ليتمكنا من مواكبة الضغط البترولي المتوقع تدفقه سواء من العراق أو من ليبيا.
وفي نفس الوقت تتحرك الحكومة المصرية لإنشاء "ميناء جاف" عملاق في مدينة 6 أكتوبر، قرب القاهرة، يتزامن معه إنشاء مركز لوجيستي على مساحة 300 فدان بجوار الميناء الجاف.
من جانبه قال حمدي عبد العزيز المتحدث الرسمي لوزارة البترول على المشروع، لـ "عربي بوست"، "مصر لديها كل المقومات لتكون مركزاً إقليمياً للطاقة"، مضيفاً أن هناك الكثير من الدول تسعى للقيام بهذا الدور.
وأوضح "بنيتنا الأساسية، سواء محطات إسالة أو أنابيب، تساعدنا على القيام بهذا الدور"، واختتم عبدالعزيز حديثه قائلاً "نحن بصدد تحديث المحطات الحالية، وإقامة محطات إسالة جديدة في دمياط وأدكو".
لا أحد يمكنه التنبؤ بما هو قادم، لكن المؤشرات والتوازنات الإقليمية تشير إلى أن مصر على مقربة من التحول لنقطة محورية، لإيصال البترول إلى أوروبا، ومن الواضح أن القاهرة تسعى قدماً لكسب مساحات سياسية واقتصادية لدى القارة العجوز على حساب تركيا.