“لماذا لا تحصل على وظيفة يا محمد؟”.. 40 ألف لاجئ سوري بكندا يواجهون “العنصرية الديمقراطية” رغم حفاوة الشعب والحكومة

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/19 الساعة 08:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/19 الساعة 08:51 بتوقيت غرينتش

لم يكن محمد الهنداوي أسير أحلام مُعقَّدةً قط.

كل ما تمنَّاه لعائلته هو التخلُّص من حشرات البق التي تؤذي أطفاله.

وفي صيف عام 2015، حين كان أحد العمال الاجتماعيين يُحاول حل مشكلة الحشرات في منزل الهنداوي الجديد بمدينة إدمونتون الكندية، عَرف الهنداوي منه أنَّ الكنديين يحبون التخييم، ومن هنا، فكَّر الهنداوي -باعتباره فرداً جديداً في كندا- في تجربة التخييم.

كان التخييم مفهوماً جديداً للهنداوي، اللاجئ الذي وُلِد ونشأ في مدينة حماة السورية، التي شهدت مجزرة حماة في عام 1982 حين أعدَم الجيش السوري ما يصل إلى 10 آلاف أو 20 ألفٍ أو حتى 40 ألف شخص (الرقم الحقيقي غير معروف). والد الهنداوي، الذي كان يبلغ من العمر 6 أعوامٍ آنذاك، وأعمامه نجوا من المجزرة، ولم ينس الهنداوي الصدمة والمرارة أبداً.

الكاتب والصحفي الحائز عدة جوائز عمر مُعلِّم، ألقى نظرة مقربة على بعض حالات اللاجئين السوريين، في تقرير لصحيفة The Guardian، كاشفاً عن جانب من الصورة والتحديات الجديدة في كندا، التي تتحضر لانتخابات جديدة سيشكِّل ملف الميزانية المخصصة للاجئين فيها محوراً مهماً. فهل صدقت كندا وعودها؟

وفي كندا كان التأقلم صعباً على العائلة المؤلفة من 6 أطفال

كانت حياته كلها صراعاً؛ من أوائل العشرينيات من عمره حين فقد ابنه البِكر بسبب الحصبة، حتى 13 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2014، حين صعد على متن طائرةٍ وسافر إلى كندا، التي لم يسمع عنها من قبل في المدارس السورية الحكومية.

بقيت حياته صراعاً؛ بسبب وجود 6 أطفالٍ لديه يبكون كل ليلة، وزوجة تقول له إنَّهم سيكونون أفضل حالاً إذا عاشوا في الشوارع، وعائلة خائفة من حشرةٍ ماصة للدم لم تصادفها من قبل. ومن ثَمَّ، بدا التخييم بالطبع فكرةً رائعة، بغض النظر عن ماهيته.

التقيتُ الهنداوي في أول يوم شهد انخفاض درجة الحرارة دون الصفر في خريف عام 2015، بورشة عمل في مؤسسة الخدمات الاجتماعية الكاثوليكية في إدمونتون، برعاية الحكومة الكندية، لتعليم الكنديين الجدد فن التخييم بالغابات، والذي يُعَد فناً غربياً قديماً.

كان الهنداوي مع زوجته وأولاده هناك للتعلُّم، وكانت الانتخابات الفيدرالية الكندية الـ43 آنذاك على بُعد شهر، وبدت القضيةُ الأهمّ للكنديين من الاحتباس الحراري العالمي والرعاية الصحية والتجارة والضرائب وخطوط الأنابيب -وقتئذٍ على الأقل- هي الهوية الكندية نفسها، ومدى أحقية الأشخاص أمثال الهنداوي أو زوجته نسرين المُحجَّبة بأن يُسمُّوا أنفسهم كنديين.

بينما كان يصارع للتكيُّف، كان السياسيون يتصارعون لحسم قضية الهجرة

هذا الجدل كله لم يكن ظاهراً للهنداوي وزوجته المقيمَين الجديدين في كندا، اللذين كانا يتحدثان بلغتهما الجديدة بشقِّ الأنفس، فضلاًعن قراءة الأخبار. وحين كان يتوافر وقتٌ بين تعلُّم الإنكليزية، والبحث عن عمل، ورعاية رضيعة و3 أطفال واثنين من المراهقين، كل ذلك مع الاعتماد على نظام مواصلات عامة مُزعِج، كانا يقضيان هذا الوقت في متابعة أخبار الانهيار المأساوي الذي يستشري بوطنهما، وليس قضية الانتخابات الكندية التي لا يحق لهما التصويت فيها؛ إذ كانت تُعَد غير مهمةٍ مُقارنةً بما يجري في بلدهما.

كان الهنداوي، الذي كان يعمل ميكانيكياً في مجال النفط وينتمي إلى الطبقة المتوسطة بحماة، ضالعاً في أنشطةٍ مناهضة للنظام السوري في معظم سنوات العقد الأخير الذي قضاه في سوريا، وكان ذلك ضد رغبة نسرين التي كانت تخشى على أسرتهما.

بعدما كان لاجئاً في لبنان، أصبح مهاجراً بالصدفة لكندا

في 2011 حين بدأت الثورة السورية، مَنَح الهنداوي شققه الشاغرة التي كان يؤجرها لمجموعةٍ من الموظفين الطبيين المُعارضين، الذين كانوا يعالجون المتظاهرين المصابين. ويعتقد الهنداوي أنَّ أحد الناجين الذين اعتُقلوا هو من وَشى به في مارس/آذار من عام 2012، ما أجبره على الفرار إلى لبنان في سيارة أجرة ببطاقة هوية خاصة بأحد أصدقائه. ثم لحق به بقية أفراد أسرته مع السائق نفسه بعد أسبوعين، ودفعوا لحرس الحدود 200 دولار كي يسمحوا لهم بالعبور.

كانوا يقيمون بلبنان في شقةٍ تنقطع عنها المياه أحياناً، ويعيشون على بدل إعانة زهيد من الأمم المتحدة، ومساعداتٍ مالية من صديقٍ في الخارج وبعض اللبنانيين، مع أنَّهم وجدوا أنَّ العديد من جيرانهم الجدد لا يرحبون باللاجئين.

استغرقت إعادة توطينهم من جانب الأمم المتحدة 18 شهراً. وفي صباح أحد أيام الأربعاء، تلقَّى الهنداوي مكالمةً تخبرهم بأنَّهم سيذهبون إلى كندا في اليوم التالي. "بالتأكيد، سأذهب إلى كندا، مع أنَّني لا أعرف ماهيتها ولا مكانها. أريد فقط أن أحافظ على حياة عائلتي، والله يعلم ماهية كندا".

كندا باردة لذلك أعطوه معطفاً حتى ضرب الصقيع خديه

كان انطباع الهنداوي الأول عن كندا أنَّها باردة، وهو ما افترضه حين مُنِح معطفاً شتوياً عند وصوله إليها، لكنَّه لم يستوعب ذلك تماماً حتى ضرب الصقيع خديه خارج مطار إدمونتون الدولي. الحياة في كندا مُكلِّفةً أيضاً؛ فبحلول الربيع من العام التالي، كانت مدخراتهم التي بلغت 9400 دولار قد نفدت.

لكنَّ كندا كانت ترعاه كذلك؛ إذ وظَّف صاحب شركة عربي الهنداوي في موقع بناء، لكنَّ الصعوبات اللغوية والتهاب المفاصل أعجزاه عن الحفاظ على الوظيفة. وكان الأرق مشكلةً أخرى، وشخَّص الطبيب حالته على أنَّها اكتئابٌ واضطراب ما بعد الصدمة، ويتلقى الهنداوي الآن العلاج اللازم.

ثم قدَّموا له بيتاً مدعوما غير نظيف

ابتهجت أسرة الهنداوي بسخاء مؤسسة "كابيتال ريجون للإسكان" في إدمونتون، التي آوتهم بإيجارٍ مدعوم يبلغ 550 دولاراً شهرياً. لكنَّ الأسرة تعرَّضت بعد ذلك لغزو حشرات البق، ما جعل النوم ليلاً أصعب، وأصاب الأطفال بالبؤس، وسبَّب خلافاً بين الوالدين.

يعرض الهنداوي صوراً للبثور الحمراء الظاهرة على ظهر مولودته، أول طفلة تنتمي إلى الجيل الثاني من المهاجرين في كندا، ويطلب المساعدة. وبالفعل ذهب صحفي كندي إلى منزله ليكتب عن ظروفهم المعيشية، التي اتضح أنَّها معقدة للغاية.

واعتبر العديد من المفتشين الصحيين الذين زاروا منزل الهنداوي، المكوَّن من طابقين، أنَّ المنزل آمن؛ إذ كان مالك العقار يرش المبيدات مراراً وتكراراً للقضاء على الحشرات، وطهَّرت أسرة الهنداوي المكان من أي شيء قد تسكنه الحشرات (ما يعني أنَّهم فقدوا بعض مقتنياتهم).

بيد أنَّ البثور الناتجة عن الحشرات عادت مرة أخرى. كانت خيارات الإسكان المتوافرة بأسعار معقولة لأسرةٍ مكوَّنة من 8 أشخاص قليلة، ولم يجد التفتيش الأخير أي دليلٍ على وجود البق، وكان المالك يأخذ الشكاوى على محمل الجد. وحين أُدرِجَت الحقائق في القصة، ونُشِرت على غلاف صحيفة Metro News الكندية، انتهز جيشٌ من المعلقين على الإنترنت الفرصة، وحوَّلوا عائلة الهنداوي إلى ذخيرةٍ لحملتهم المناهضة للهجرة.

عندما اشتكى وصفه البعض بأنه "جاحد للمعروف" وطالبوه بالرحيل

حملت التعليقات عن أسرة محمد كلماتٍ نمطية متكررة على ألسن مناهضي الهجرة، مثل "جاحدين للمعروف"، و"غير ملتزمين بالطوابير"، و"ارحلوا إلى وطنكم". بينما قال تعليقٌ آخر: "ما رأيك في ألَّا تظل عالةً وتحصل على وظيفةٍ يا محمد؟".

صحيحٌ أنَّ الصحيفة حذفت هذه التعليقات وأغلقت قسم التعليقات، لكنَّ الهنداوي قرأها قبل الحذف بالفعل. وفي السياق نفسه، دخلت على الخط مواقعُ يمينية متطرفة، مثل موقعThe Rebel Media، الذي يمتلكه عزرا ليفانت الناقد الكندي سيئ السمعة والمُعادي للمسلمين في مدينة ألبرتا الكندية وكما يقول عمر معلم. استخدمت هذه المواقع حُجَّة أنَّ أسرة الهنداوي جاحدة للمعروف ومثيرة للمتاعب، دليلاً واضحاً على أنَّ كندا بحاجةٍ إلى طرد اللاجئين وعدم استقبالهم.

وعلى الجانب الآخر، تعاطف بعض القُرَّاء مع قصة الهنداوي، واتصلوا لتقديم المساعدة، لكنَّ التعليقات القاسية كانت بمثابة صدمةٍ للهنداوي. "لم أبكِ علناً قط، ولكنِّي حين قرأتها بكيت. فقدتُ والدي وابني، لكنَّني لم أبكِ كذلك من قبل. لقد جرحتني التعليقات بشدة، وأصابت روحي". لم تكن هذه هي كندا العادلة المتسامحة التي أخبره موظفو التوطين التابعون للأمم المتحدة بأنَّه سيُحضِر أسرته إليها.

تسامُح كندا تجاه الآخرين والعنصرية المهذبة

أطلق اليونانيون القدماء على "الآخرين" الذين صادفوهم وصف "البرابرة". بينما أطلق الغزاة الإسلاميون في الماضي (الذين يظهرون الآن في صورة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش") على الآخرين الذين صادفوهم وصف "الكفار". أمَّا في الولايات المتحدة وكندا، فلدينا العديد من الكلمات لوصف "الآخرين"، لكننا نلتزم عموماً بأكثرها تهذيباً: المهاجرين.

ومع أنَّ غالبية الكنديين يرحبون بهؤلاء "الآخرين" ويدافعون عنهم ويتفهمونهم (لأنَّ الوطن كي يكون أرضاً لأبنائه، لا بد أن يكون أرضاً للآخرين كذلك)، فهم ربما لا يثقون بهم. والآن أصبح أمثال الهنداوي هم الأكثر فقداناً لثقة الكنديين.

وكيبيك تشهد أكبر نسبة عنصرية ضد المسلمين

إذ أظهر استطلاعٌ أجراه معهد "أنغوس ريد" حول المواقف الوطنية تجاه الأديان، أنَّ الكنديين لديهم آراءٌ سلبية أكثر من الآراء المحايدة تجاه المسلمين، وهو أمرٌ يختلف بكثير عن موقفهم من الدين التالي في القائمة.

يبلغ التحيز ضد الإسلام ذروته في مدينة كيبيك، حيث يعترف به ثلثا سكان المدينة، وحيث قُتِل 6 رجال مسلمين وسط الصلاة في شهر يناير/كانون الثاني من العام الماضي (2017) على يد مواطنٍ أبيض مُناصر للقومية؛ كان يزرع التعصُّب المؤيد للرئيس الأميركي دونالد ترمب على الإنترنت.

جرائم الكراهية لا تشهد انخفاضاً ضد مسلمي كندا البالغ عددهم مليون نسمة؛ بل تضاعف عددها في الواقع بين عامي 2012 و2014. وهذه إحصاءاتٌ سُجِّلت قبل تولي ترمب الرئاسة، وقبل حملة بريكست المُطالِبة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقبل حظر ارتداء النقاب، وقبل ظهور الخط الساخن للإبلاغ عن الممارسات الثقافية البربرية، وقبل هجومي البندقية وسان بيرناردينو، وقبل هجومي أورلاندو وبرلين. وقال لي الهنداوي: "يوماً ما سيحدث شيءٌ سيئ في هذا البلد، وبصفتي لاجئاً سوريّاً، سأقع في مشكلات".

في كندا.. إذا عملت بجِد تنجح

كان والد عمر معلم يقول دائما: في كندا إذا عملت بجد ستنجح.

وفي أغسطس/آب من عام 2016، طلبتُ عمر معلم من والده أن يؤدي دور المترجم بينه وبين الهنداوي. وفي الطريق من منزل والده العصري الفسيح بالجانب الشمالي من إدمونتون إلى منزلٍ عتيق مكوَّن من عدة بيوت باللون الوردي في أقصى الجانب الجنوبي، سأل والده، الذي كان رجل أعمال غير حاصلٍ على شهادةٍ بالمرحلة الثانوية وتقاعد في سن الـ49، عمَّا إذا كان يعتقد أنَّ اللاجئين السوريين لديهم رأيه نفسه عن النجاح. فقال: "بل إنَّهم يرونه أسهل مع هذا الدعم الحكومي الكبير للغاية"، مضيفاً أنَّ هذا النوع من الدعم المباشر لم يكن موجوداً في أوائل السبعينيات من القرن العشرين.

لكن على بُعد 10 أمتار من باب منزل الهنداوي، تصور عمر أنه تلقى عنوانا خاطئا، فقد كانت على الباب القلادة الكندية التقليدية dreamcatcher. لكن كانت هناك موسيقى عربية منبعثة من إحدى النوافذ المفتوحة. وقبل أن أقرع الباب، رحَّب بنا الهنداوي مع ابنه الأوسط وائل، الذي كان طفلاً قصيراً بذراعين ممتئلتين ذكَّرني بنفسي حين كنت في الثانية عشرة من عمري. كان الهنداوي، (39 عاماً)، لديه شعرٌ خفيف على ذقنه، وكان يرتدي قميصاً وردياً من طراز بولو خارجاً عن سرواله على الطراز الشبابي، ولم يكن هناك أيُّ شبهٍ بينه وبين والدي، الذي ظلَّ يرتدي قمصاناً رسمية داكنة مدسوسة في سراويل بثنايا مطوية طوال الأعوام الـ31 التي عرفته فيها.

سألتُ الهنداوي عن القلادة، فقال إنَّه اشتراها من متجر Value Village، فسألته: "هل تعرف ماهيتها؟".

فارتسمت على وجه وائل نظرة قلقة، وسأل: "هل هي حرام؟".

فقلتُ: "لا، ليست مُحرَّمة. فهي سمةٌ مميزة لسكان كندا الأصليين، إنَّها أحد أكثر الأشياء انتساباً إلى كندا، وهي تطرد الكوابيس".

فقال الهنداوي، الذي شهدت لغته الإنكليزية تحسُّناً كبيراً في الأشهر الـ11 الماضية: "هذا جيد". وقال لي إنَّه عاد لتوُّه من رحلة تخييم استغرقت أسبوعاً إلى بحيرة سيلفان Sylvan lake التي تقع جنوب إدمونتون وتبعد عنها ساعتين. لقد ذهب إلى هناك مع أسرته، ولم تكن هذه أول رحلة تخييم لهم في ذلك الصيف.

تعلَّم الإنكليزية وتخلَّص من مشكلة البق

صارت بعض أوقات الفراغ آنذاك متاحةً له ولزوجته، التي كانت في الطابق العلوي ترعى ابنتهما البالغة من العمر 18 شهراً آنذاك؛ وذلك نظراً إلى عودة أطفالهما إلى المدارس. كان محمد ما يزال عاطلاً، وكان ذلك مُثيراً للإحباط؛ لأنَّه عمل بجد شديد لتعلُّم اللغة الإنكليزية، لكنَّه بدا أكثر ارتياحاً مما كان عليه حين التقيته للمرة الأولى.

انتهت مشكلته مع حشرات البق، وصار أطفاله آمنين مندمجين في المجتمع. وبدا أكثر ثقةً بالتحدث عن نفسه. لم تقتصر تداعيات المقالة التي نشرتها الصحيفة عن معضلة عائلته على إشعال ردود فعل اليمين المتطرف على الإنترنت؛ بل أثارت كذلك شائعاتٍ في حيه، الذي يقتصر تقريباً على إحدى الأقليات. وقال إنَّ هناك شائعاتٍ انتشرت آنذاك بأنَّ هيئات الخدمات الاجتماعية ستأخذ أطفاله. وقال مبتسماً: "لكنَّ الأحوال في الأشهر الخمسة أو الستة الماضية صارت أفضل".

تجربة جاره إيجابية أكثر باستقبال ترودو نفسه

كان جاره شريف شرف يجلس على الأريكة. وصل شرف إلى كندا من سوريا عبر لبنان مثل الهنداوي، لكنَّه أتى إلى كندا بعد الانتخابات، بعدما قرَّرت كندا الموافقة بتأكيدٍ مدوٍّ على استقبال المزيد من اللاجئين.

ربما شعر شرف بالارتياح بعد إحضار زوجته وأطفاله الثلاثة إلى مكانٍ آمن، أو بعد وصوله إلى نسخةٍ جديدة متسامحة من كندا ضمن أول مجموعةٍ من اللاجئين وصلت إلى كندا جواً، وكان عدد أفرادها يبلغ 25 ألف شخص، لكنَّه بدا كأنَّه يتوهج بالحماسة. وبينما كان وائل يمر بإبريق مملتئ بشاي تركي مُحلَّى، سَرَد شرف قصة هروبه من سوريا بابتسامةٍ، متحدثاً بمزيجٍ من اللغتين العربية والإنكليزية.

كان شرف يعيش في قريةٍ بالقرب من مدينة درعا، التي شهدت إشعال شرارة الحرب الأهلية السورية في عام 2011، حين كتبت مجموعةٌ من الصبية، الذين كانت أعمارهم تتراوح بين 10 و15 عاماً جملة "الشعب يريد إسقاط النظام"، مُلهَمين بشعار ثورات الربيع العربي، على أحد الجدران في مكانٍ ظاهر للعيان. ثم اعتُقِل الصبية، وخضعوا للاستجواب والتعذيب، واعتقدوا أنَّهم على مشارف الإعدام، فاندلعت مظاهراتٌ حاشدة أنقذت حياتهم.

وكان شرف -الذي كان يدير شركةً للإنشاءات بدرعا- متردداً بشأن المشاركة في الانتفاضة؛ لأنَّ الجيش السوري كان يقمع المعارضة بعنفٍ مُهلِك. وكانت نقاط التفتيش المتزايدة تثير قلقه، وكذلك كان قادة المعارضة الذين استولوا على هذه النقاط يثيرون قلقه، لكنَّه قال إنَّه طالما كان يستطيع إطعام أطفاله، فليس لديه سببٌ للرحيل.

وفي اليوم السابع من رمضان في عام 2012، سقط صاروخٌ خارج منزل العائلة مباشرة، حيثُ كانوا على وشك الإفطار. وقُذِفَت ابنته، البالغة من العمر 6 سنوات آنذاك، من نافذةٍ بالطابق الثاني من وقع قوة الانفجار، وكُسرت ساقها. فهرع شرف إلى الخارج، وحملها وانطلق بها إلى مستشفًى على بُعد 5 كيلومترات، حيث لفَّ الأطباء بعض العصي حول ساقيها وطلبوا منهم مغادرة المستشفى. ولم ير منزلهم بعد ذلك إلَّا في صورةٍ بعد بضعة أشهر بعدما فروا إلى لبنان. وقال لي: "كان المنزل في الصورة مثل الحصى!".

"جاستن ترودو بطلنا، وبطلٌ بالنسبة لابني الصغير"

لم يكن شرف يُشاطر الهنداوي القلق إزاء احتمالية انقلاب الكنديين ضده وضد أمثاله؛ إذ بدا الأمر مستحيلاً في ظل حفاوة الاستقبال الذي تلقّاه بكندا في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2016.

"هذه عائلتي الراعية"، قالها مشيراً إلى صورةٍ على هاتفه المحمول تضم 20 شخصاً يقفون مع زوجته وأطفاله في مطار إدمونتون الدولي، ومعظمهم كنديون-صينيون من إحدى الكنائس الماندرينية، إلى جانب أشخاصٍ منحدرين من أصولٍ أوروبية وهندية آسيوية.
صورةً أخرى يظهر فيها رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو واضعاً ذراعه حول شرف وابنه.

قال شرف إنَّه سيقول لأطفاله حين يكبرون إنَّهم قادرون على أن يصبحوا أطباء بفضل جاستن ترودو. وأكَّد شرف قائلاً: "جاستن ترودو بطلنا، وبطلٌ بالنسبة لابني الصغير". أما بالنسبة لرئيس وزراء كندا السابق، فكل ما يعرفه شرف عنه أنَّه "جعلنا ننتظر عامين".

ولكن كندا لن تزيد نسبتها المخصصة للاجئين السوريين

بعد انتخاب ترودو وحزبه الليبرالي، سرعان ما غيَّرت كندا صورتها إلى مجتمعٍ متسامح مفتوح الذراعين. وانهالت الصحافة الأجنبية بالمديح على طريقة تعامل الدولة مع اللاجئين، في تناقضٍ صارخ مع معظم بقية دول العالم الغربي. استقبلت كندا عدداً صغيراً نسبياً من اللاجئين السوريين البالغ عددهم 6 ملايين شخص، لكنَّ حكومة ترودو واصلت بذل جهودها الصغيرة نسبياً؛ فبعد ساعاتٍ من الحظر الأخير الذي فرضه ترمب لأجلٍ غير مسمى على اللاجئين السوريين، وحظر اللاجئين الآخرين مدة 4 أشهر، نشر ترودو صورته وهو يعانق صبياً سوريّاً، عبر تغريدة على موقع تويتر؛ إذ كان يريد إرسال رسالة مرئية، مفادها أنَّ كندا ستقدِّم المساعدة.

بيد أنَّ كندا لم ترفع نسبتها المخصصة للاجئين السوريين، ولم تتخلص من سياسةٍ تمنع المهاجرين الموجودين في الولايات المتحدة من طلب اللجوء بكندا، ما اضطَّر بعض طالبي اللجوء إلى فقدان بعض أصابعهم وأطرافهم حرفياً؛ بسبب الصقيع في أثناء التسلُّل عبر حدودنا المفتوحة.

وغيَّرت لفظة "اللاجئين" إلى "القادمين الجدد"

ومع ذلك، كانت سمعة كندا بالنسبة للعديد من المهاجرين الذين وصلوا إليها بالفعل مضمونة. يقول دارو كاراغول، وهو رجل كردي سوري يرتدي قرطاً بجوهرة في أذنه: "من الأشياء التي أحبها كثيراً هنا بكندا، هو أنَّ الكنديين يصفوننا بالوافدين الجدد وليس اللاجئين".

التقى عمر معلم مع كاراغول في مطعم لبناني للشيشة والكباب وسط إدمونتون، مع سوريين آخرين، باسل أبو حمرة ومُرهَف الديري. من الناحية الديموغرافية، كانت أوضاع الرجال مشابهةً لما يظهر في الرسوم الكاريكاتورية البسيطة التي يرسمها الناس لتمثيل المشكلات التي تجلبها الهجرة.

فهم رجالٌ عزاب في منتصف العشرينيات، منهم اثنان مسلمان. ووصلوا إلى كندا بفضل حملة الحزب الليبرالي لإعادة التوطين والتي حذَّر خصومه المحافظون من أنَّها قد تدُنِّس البلاد بالمتطرفين. ومع ذلك، لم يجدوا أي مؤشراتٍ تقريباً على عدم الترحيب بهم؛ إذ قال كاراغول إنَّ الكنديين لديهم قدرةٌ بالغة على حُسن استضافة غيرهم، مشيراً إلى جارةٍ زائرة خافت في إحدى المرات من أن تكون قد أزعجته بكتفيها العاريتين.

يعاملوننا هنا بطريقةٍ تختلف عما شهدناه في لبنان والأردن

وقال أبو حمرة، وهو محاسبٌ مسيحي عربي حليق انتقل إلى إدمونتون مع والدته وإخوته (بينما توفي والده لأسبابٍ مرتبطة بالتوتر في أثناء الحرب): "إنَّهم يعاملوننا هنا بطريقةٍ تحترم إنسانيتنا، ويُشجِّعوننا على فعل أشياءَ في حياتنا. وأضاف أنَّ تجاربه في كندا تختلف اختلافاً كبيراً عن التجارب التي عاشها بلبنان، حيثُ كانوا ينامون خمسةً في خيمة واحدة، ويتعرضون للاستجواب عند نقاط التفتيش التي كانت موجودة خارج المخيم.

بينما تحدث الديري، وهو طالب في الأدب الفرنسي، عن المعاملة التي كان يتلقاها بين بني دينه المسلمين السُنَّة في الأردن، قائلاً: "كان المخيم مثل حديقة حيوانات في وسط الصحراء. لا يمكنك المغادرة، والشرطة تحيط بك من كل مكان". وحين انتقلتْ عائلته إلى شقةٍ في العاصمة الأردنية عمَّان، علموا لاحقاً أنَّهم كانوا يستأجرونها بـ10 أضعاف التكلفة التي كان يدفعها جيرانهم. وكان الرد على أي شكوى يُقدِّمونها: إذا لم يعجبك الوضع هنا، فارجع إلى بلدك! وأضاف: "لم يعتبرنا أحدٌ بشراً! كانوا لا يروننا سوى مشكلة اقتصادية. كان ذلك في غاية العنصرية".

لكنَّ المعاملة التي كانت تتلقاها عائلة الديري ورفاقه السوريون لم تكن عنصريةً بالمعنى الحرفي؛ إذ كان الديري ومضطهدوه من العِرق؛ بل وربما من الدين نفسه، وكانوا يتشاركون العادات الأساسية نفسها تقريباً، ويتحدثون باللغة نفسها. لكنَّهم جُرِّدوا من إنسانيتهم، وقُلِّل من شأنهم باعتبارهم أشياءَ غير مرغوبٍ فيها، وتعرَّضوا لكل الأفعال التي نعرف أنَّها عنصرية. لكنَّ ذلك يطرح سؤالاً: ما هي العنصرية تحديداً؟ وكيف يُعبَّر عنها في أماكن مشهورةٍ بتسامحها مثل كندا؟

إذاً.. ما الذي هزَّ مفهوم "العنصرية الديمقراطية" في كندا؟

قد يُطلق على التحيز العنصري بكندا وصف "العنصرية الديمقراطية"، التي تشبه في الأساس الطريقة التي وصفت بها فرانسيس هنري، عالمة الاجتماع، التعددية الثقافية بأنَّها أداةٌ لتبرير المساوئ العنصرية والحفاظ على استمرار "سيادة ذوي البشرة البيضاء". بينما وصف علماء اجتماع آخرون المواقف الكندية تجاه الآخرين بأنَّها "عنصرية مهذبة".

وبغض النظر عن تسمية التحيُّز العنصري الذي يتدفق تحت سطح مجتمعنا وأحياناً فوقه، فإنَّه يتضح جلياً في الظروف المعيشية للسكان الأصليين الذين يعيشون في كندا، وعانوا "مشقةً أكبر من السكان الأميركيين ذوي الأصول الإفريقية في الولايات المتحدة"، وفقاً لبياناتٍ حلَّلتها مجلة Maclean's الكندية في عام 2015.

فمع الأخذ بعين الاعتبار عوامل مثل متوسط ​​الأعمار المتوقع والمستوى العلمي ومتوسط الدخل​​، سيتبين أنَّ أحفاد العبيد في أميركا المشحونة عِرقياً يعيشون حياةً أفضل من السكان الأصليين الكنديين.

استُئصلت ممارستها قانوناً وظلت موجودة في حرية التعبير

ومع أنَّ العنصرية استُئصِلَت إلى حدٍ كبير من القوانين الكندية، وضمن ذلك إلغاء "ضريبة الرأس" التي كانت مفروضةً على المهاجرين الصينيين، وإغلاق معسكرات الاعتقال التي كانت مخصصة لليابانيين، وإغلاق آخر مدرسة داخلية (نوع من المدارس الدينية كان مُخصَّصاً لتلقين أطفال السكان الأصليين الثقافة الأوروبية الكندية) في عام 1996- تؤجَّج العنصرية في كندا عن طريق الحق في الإيمان بآراء عنصرية ونشرها.

شُكِّلت العديد من قوانين خطاب الكراهية الحالية بكندا في السبعينيات من القرن الـ20 لمكافحة موجة من الحوادث المعادية للسامية. ولكن في عام 2014، أُلغي القسم رقم 13 من قانون حقوق الإنسان، الذي كان بنداً حاسماً متعلقاً بخطاب الكراهية عبر الإنترنت. (والغريب أن الحكومة في العام التالي "2015"، أقرَّت مشروع القانون رقم C-52 لقمع عمليات التجنيد والدعاية عبر الإنترنت من جانب الإرهابيين الإسلاميين).

ولكن في أثناء السعي النبيل لحماية حرية التعبير، أسفر إلغاء بند الإنترنت عن خلق مكان آمن لوسائل إعلامية مثل موقع The Rebel Media، الذي يمتلك أكثر من 900 ألف مشترك في قناته على موقع  YouTube.

الأمر الذي أدى إلى ظهور مواقع تشجع على الكراهية

وربما ساعد إلغاء هذا البند أيضاً في تقديم مزيدٍ من الحرية لمواقع مثل منتدى Stormfront Canada الشعبي المؤمن بسيادة ذوي البشرة البيضاء، والموجود قبل احتداد خطاب الكراهية عبر الإنترنت. ويُعَد مستخدموه "مسؤولين عن بعض جرائم الكراهية والقتل الجماعي" منذ عام 1995، (إذ تسبَّب في أكثر من 100 جريمة قتل بين عامي 2009 و2014 فقط)، وفقاً لمركز قانون الحاجة الجنوبي الذي يقع مقره في الولايات المتحدة.

كان أعضاء هذا المنتدى وناشرو خطاب الكراهية عبر الإنترنت يستترون قديماً وراء أسماء مستعارة، أمَّا الآن، فيستخدم المُعلِّقون على موقع فيسبوك، في كثيرٍ من الأحيان، روابط تحدد هويتهم (وكل ذلك في إطار الجهود المستمرة لإثبات صحة الآراء التي يمثلونها).

ومواقع التواصل سمحت بالكشف عن كل هذه المشاعر

وقال عرفان شودري الخبير السابق في علم الجريمة، والمرشح الآن لنيل الدكتوراه في جامعة ألبرتا، والذي يعكف على البحث عن العنصرية بالإنترنت، إنَّ الطبيعة المكشوفة لموقع فيسبوك، على وجه الخصوص، تمكنه من الوصول إلى أشخاصٍ حقيقيين باستخدام أسماء حقيقية ووجوه حقيقية. واعترف عرفان بأنَّ البيانات التي تُجمع من الشبكات الاجتماعية منقوصة وغير مستندةٍ إلى أدلة أو حقائق، لكنَّها تظل أبرز طريق مفتوحٍ لمعرفة مشاعر الكنديين تجاه الأقليات.

وقال في الأيام التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة إن "المشاعر موجودة دائماً، لكنَّها صارت أوضح الآن. فالواقع يُضعِف ما يتصور البعض أنَّه قوة كندا العظمى: ألا وهو التعددية الثقافية وقبول الآخرين. وحين تتعمَّق قليلاً في الأمر، تجد أنَّ الكنديين ليسوا على درجةٍ كبيرة من قبول الآخرين".

فكندا حديقة تضم زهوراً وثعابين

بينما يتقبل كاراغول التحيز العنصري بصفته حقيقةً من حقائق الحياة؛ لأنه تعرَّض له باعتباره من الأقلية الكردية في كل مكانٍ عاش فيه، بسوريا وتركيا وحتى كندا حيث رفضه رجلٌ على موقع Tinder للتعارف، برسالةٍ قال فيها: "ذوو البشرة البيضاء أفضل دائماً"، لكنَّه لا يعتبر ذلك مشكلةً كبيرة. فهو دائماً ما كان يحلم بمكانٍ "بلا حدود"، ويرى أنَّ كندا هي أقرب بلد إلى ذلك. وقال: "إنها مثل حديقةٍ من الناس، تضم كل هذه الزهور والروائح المختلفة".

ولكن ثمة ثعابين تسعى في هذه الحديقة أيضاً. فبالتأكيد، يمكن للحركة القومية البيضاء أن تتسلل إلى الحكومة الكندية كما فعلت في أميركا على ما يبدو. وهناك كذلك متطرفون إسلاميون يمكنهم قلب الرأي العام على المهاجرين كما فعلوا في ألمانيا.

جديرٌ بالذكر أنَّ حركة "جنود أودين" اليمينية المتطرفة، وهي جماعةٌ تسعى لتطبيق العدالة بأيديها ومؤمنة بالقومية البيضاء تأسست في فنلندا قبل أقل من عامين، لديها الآن فروعٌ في كل مدينةٍ كندية كبيرة، حيثُ تشتهر بإخفاء حملات الترهيب الخاصة بها خلف قناع التطوع في ملاجئ المُشردين، أو إزالة الثلوج من الممرات المخصصة للمسنين. يا لها من عنصرية مهذبة بالفعل!

والخائفون من الإسلام يعتقدون أن المسلمين ضحايا أيديولوجيتهم

رفض رئيس إدمونتون طلب الكاتب عمر معلم لمقابلة أحد أعضاء حركة "جنود أودين"، لكنه تمكن من التحدُّث إلى جيني هيل (اسمٌ مستعار) رئيسة فرع حركة "بيغيدا" في كندا. وانزعجت جيني فجأةً حين استخدمتُ كلمة "إسلاموفوبيا" لوصف مشاعر حركتها. وقالت لي عبر الهاتف: "هذا المصطلح ليس ذا معنى، أظنَّ أنك تستطيع أن تقول إنَّنا خائفون من الإسلام، أو إنَّني خائفةٌ من تطبيق الشريعة الإسلامية بكندا. في هذه الحالة، يمكنك وصف مشاعري بالإسلاموفوبيا".

تخشى جيني التعرُّض لرد فعل عنيف بصفتها ناقدةً صريحة؛ إذ إنَّ عدد تجمعات حركتها الصغيرة في مدينة تورونتو الكندية أقل بكثير من عدد المتظاهرين المضادين لهم من جماعة Antifa المناهضة للفاشية، والذين أطلقوا على أفراد حركة بيغيدا "حثالة النازية".

وفي إحدى المرات، أوقفت الشرطة احتجاجات الحركة، وأعربت عن قلقها من أن تتصاعد إلى العنف. لا تشك جيني في أنَّ حركتها قد جذبت بعض النازيين الجدد، وقالت إنها تبذل جهوداً كبيرة لإزالة التعليقات العنصرية فور ظهورها. (ولكن، إذا ألقيتَ نظرةً خاطفة على صفحات الحركة بالشبكات الاجتماعية، ستجد الكثير من التعليقات العنصرية، وهذا إمَّا يدل على أن "التعليقات العنصرية" مصطلحٌ نسبي، وإما أنَّها تواجه مشكلة في مواكبة عبء عملها لحذف التعليقات أولاً بأول).

ومن المفارقات أنَّ خوفها من المسلمين كان أقل من خوفها من اليساريين المتطرفين. واعترفت بأنَّها لم تواجه قط أي لقاءٍ سلبي مع شخص مسلم. وقالت: "نحنُ خائفون من الأيديولوجية نفسها؛ إذ إنَّ عدد المسلمين الذين يُقتلون على أيدي مسلمين آخرين بسبب اختلافٍ في العقيدة أو كيفية اتباع تعاليم القرآن ضخمٌ وفظيع. نعتقد أنَّهم ضحايا أيديولوجيتهم".

ولكن المسلمين يشكلون 2% فقط من أميركا

بعض الكُتاب يعتقدون أنَّ الإسلام "غير متوافق" مع القيم الغربية. وبطريقةٍ ما، كانوا يخشون من أن يغزو الإسلام الغرب كما فعل المسيحيون، ويستأصل غير المؤمنين استئصالاً منهجياً بالإبادة الجماعية وتلقين العقيدة الإسلامية. ولا شكَّ في أنَّ ما شعرت به جيني هيل، المسيحية المتشددة، تجاه هذا الاحتلال الديني لأراضيها يشبه ما شعرت به الشعوب الأصلية وهم يرون ممارساتهم وظهورهم يُمحيان من المشهد. ووافقت جيني بعد بعض التفكير على أنَّ الوضعين متشابهان بالفعل، وقالت: "لا أريد أن يحدث هذا الاضطهاد مرةً أخرى".

لا يبدو أنَّ لدى جيني الكثير لتقلق بشأنه؛ إذ تشير أفضل الدراسات الديموغرافية إلى أنَّ نسبة المسلمين بأوروبا لن تتخطى 10%، ولن تتجاوز 2% في أميركا، وفقاً لما ذكره دوغ سوندرز الصحفي الكندي بكتابه The Myth of the Muslim أو "خُرافة المد الإسلامي". هذا فضلاً عن أنَّ أبناء المهاجرين المسلمين ليس لديهم أطفالٌ كثيرون بقدر ما لدى آبائهم وأمهاتهم، ويعتنقون الفكر العلماني بمعدلاتٍ تساوي تقريباً معدلات المهاجرين الذين يعتنقون الفكر العلماني من ديانات الأقليات الأخرى. بيد أنَّ الحقائق -كما يُوضِّح ترمب يومياً- مُجرّد قطع أثرية غريبة عفى عليها الزمن.

والإسلاموفوبيا باتت أداة يستغلها السياسيون

وفي العصر الحالي، لا توجد آلةٌ دعائية أكثر فاعليةً من التخويف من التطرف الإسلامي. وفي ظل تسبُّب همجية تنظيم داعش وهجماته على الدول الغربية في تأجيج حالة الخوف الهستيري، صارت ظاهرة الإسلاموفوبيا اتجاهاً سائداً. فجاسون كيني، وزير الهجرة السابق الذي يرغب في الترشُّح لرئاسة وزراء مقاطعة ألبرتا، نشر صوراً مزيفة على موقع تويتر تُظهِر ما يبدو استعباداً دينياً.

بينما نشرت صحيفة National Post الكندية دراسةً مشكوكاً فيها أجرتها بنفسها، تدَّعي فيها شيوع الآراء المتطرفة في المساجد. وكيلي ليتش، العضوة المُحافِظة في البرلمان الكندي المحافظ والمُرشَّحة لزعامة حزب المحافظين، والتي تتمثَّل حُجتها لإقناع مناصريها في إجراء "اختبار قيم كندية" للمهاجرين الجدد (وهي رسالةٌ واضحة تستهدف جمهوراً بعينه عن الخوف الهستيري من الإسلام)- تدافع عن حق إدارة ترمب في تسجيل المسلمين وحظر الهجرة من بعض الدول المسلمة، وتركيز جهودها لمكافحة التطرف على الإسلام فقط.

تبنِّي المشاهير والساسة العنصرية يعطي ترخيصاً للبقية

حين يتبنَّى مشاهيرنا السياسيون والإعلاميون مبدأ كراهية الأجانب ويؤيدونه، فإن ذلك يقدِّم ترخيصاً اجتماعياً للمجاهرة بالعنصرية الدفينة من جانب شريحةٍ من الجمهور العام كانت تحتفظ في الماضي بمثل هذه الآراء سراً. بدأتُ أرى ذلك بوضوح في الفترة التي سبقت الانتخابات الفيدرالية الكندية لعام 2015 (ولم يهدأ ذلك الوضع).

كتب عمر معلم: سخر مني أحد الفنانين المتخصصين في عمل أشكال بالبالون، كان يتجول وسط مدينة إدمونتون، حين عرف اسمي، وقال مازحاً إنَّه سيصنع "إرهابياً" لي من البالون. وعلى موقع تويتر، أحجُب مستخدمين يرسلون لي رسائل مزعجة تتضمن أوصافاً معادية للمسلمين أو العرب. وعلى مرأى ومسمع الجميع في موقع فيسبوك، يروِّج بعض أصدقائي لـ"القيم الكندية"، ويشجبون اللاجئين المقيمين في كندا، مطالبين إياهم بـ"الاعتماد على أنفسهم".

ونشرت إحدى صديقاتي في مرحلة الطفولة مؤخراً مقطع فيديو مُصوَّر لفتى وفتاة سوريَّين يُرجَمان حتى الموت على يد تنظيم داعش، ويُفترض أنَّ ذلك كان بسبب وجود علاقةٍ بينهما وهما من دينين مختلفين، مطالِبةً بعدم السماح للمزيد من "المسلمين" بعبور حدودنا. ألم يخطر ببالها أنَّ "المسلمين" ربما يكونون على شاكلة الرجل والمرأة المقتولَين وليس راجمِيهم؟ أو على شاكلة آل والدي أو آل والدتي الذين تركوا بلداً مزَّقته الحرب لبناء حياة أفضل؟

إذا كنتم تريدون معرفة ما يريده اللاجئون السوريون من كندا، فهناك الآن 40 ألف لاجئ سوري في كندا يمكنكم سؤالهم. وقال لي محمد الهنداوي: "حلمي هو أن يصبح أطفالي أطباء؛ حتى يتمكنوا يوماً ما من الذهاب إلى سوريا ورعاية الناس، وإخبارهم عن الحياة التي وجدوها في كندا". ولكن مع أنَّ الكنديين انتخبوا حكومة ترودو صديقة اللاجئين، تُظهر استطلاعات رأي متكررة أنَّنا منقسمون بالتساوي تقريباً حول مسألة استضافتهم. وهناك أدلةٌ كثيرة يمكن العثور عليها دون الحاجة إلى قضاء الكثير من الوقت في البحث، تثبت أنَّ موقفنا الترحيبي في حالة توازنٍ هش.

والبعض يرى أوجه تشابه بين معاداة السامية والإسلاموفوبيا

بسبب زيادة عدد النساء المحجبات اللاتي يتعرضن للاعتداء والتحرش، يتزايد عدد دورات الدفاع عن النفس التي تُقدَّم للنساء المسلمات في جميع أنحاء كندا. إحداها كانت في الخريف الماضي حين اجتمعت 50 امرأة مسلمة يرتدين ثياباً فضفاضة في صالة ألعاب رياضية بمدرسة في إدمونتون.

كانت هذه الدورة من تنظيم مجلس الشؤون العامة لمسلمي ألبرتا، الذي أنشأ أيضاً "خطاً ساخناً لتلقي الشكاوى من الإسلاموفوبيا". وانطلق المجلس بعد أن اقترحت حكومة هاربر حظر حلف يمين المواطَنة لمن يرتدين النقاب. وقالت ناكيتا فاليريو، التي ترأس المجلس، في أثناء دورة الدفاع عن النفس: "تلك هي اللحظة التي بدأ فيها كل شيء يتغير. بدأ معارفي يتحدثون معي عن أنَّ الإسلام لا يشبه الأديان الأخرى؛ ويكررون الحديث عن الهوس بالجنس لدى الرجال المسلمين؛ وكثيرٌ منهم يتحدث عن الحجاب؛ أشعر بأنَّ كل العيون تراقبني أكثر من ذي قبل".

لم يخطر ببال فاليريو قَط أنَّ هذه اللحظة ستحين في كندا يوماً ما. ربما توقعتها في أوروبا موطن عائلتها، أما كندا فلا. حين كانت في فلورنسا قبل 6 أعوام، أقدم رجلٌ، دون أي استفزازٍ من جانبها، على سحبها من حجابها ودفعها وسط السيارات، وهو يصرخ فيها كي تعود من حيث أتت. ربما لو كان قد تمكن من خلع حجابها بالكامل وليس فقط الكشف عن بضع شعيراتٍ من شعرها، أن يعرف أنَّ هذه المرأة الإيطالية الكندية التي تحولت إلى الإسلام لا تختلف كثيراً عن ابنته. كان هذا في أول أسبوع ارتدت فيه فاليريو الحجاب؛ ومنذ أن عادت إلى البلد الذي وُلِدَت فيه، كندا، تعهدت بالعمل على محاربة الإسلاموفوبيا.

وفي ديسمبر/كانون الأول 2017، حين نُشر مقطع فيديو يُظهر مواطناً يضايق امرأة محجبة في محطة بمدينة إدمونتون وهو يُلوِّح بحبل مشنقة ويغني النشيد الوطني الكندي- عادت فاليريو وصديقةٌ لها إلى مسرح الجريمة لتوزيع الورود على النساء المحجبات مدة يوم.

وفي اليوم التالي لحادث إطلاق النار بالمسجد في كيبيك، شاركتْ في تنظيم صلاة جنازة على المقتولين، حضرها ما يقرب من 3 آلاف شخص رغم الظروف الجوية السيئة في إدمونتون. وعلى الرغم من أنَّ الدعم الذي تتلقاه يثير سعادتها، فإنَّها لا تشعر بتفاؤل كبير بالنسبة لأحوال المسلمين. وتقول في هذا السياق: "أنا قلِقة من شعور الناس بالتعب والحيرة، على نحو يُضعف قدرتهم على اتخاذ موقف. حدثت مجموعة مشابهة من الأحداث قبل الحرب العالمية الثانية". وأضافت فاليريو، التي تدرس تاريخ المحرقة اليهودية: "باعتباري امرأة محجبة، أقول إنَّنا ضحايا هذا العصر كما كان يهود المحرقة في عهدهم، ولا أقصد بذلك طبعاً التقليل من المحرقة أو ازدراءها".

في هذه المفارقة شيءٌ من النشاز، غير أنَّ أوجه التشابه بين معاداة السامية في القرن الـ20 والإسلاموفوبيا بالقرن الـ21 بدأت تتجلى. فالمعاملة القاسية غير المفهومة التي تلقاها اليهود، والتي لم تقتصر على القرن الماضي؛ بل شملت العديد من الحقب التاريخية، هي نمطٌ يبدو أنَّه يعاود الظهور بصورةٍ حديثة. وتمكنت فرانسيس هنري، اللاجئة اليهودية الفارَّة من ألمانيا في عهد هتلر والتي شاركت في تأليف كتاب The Colour of Democracy: Racism in Canadian Society، من التعرف على خطاب هذا النمط القادم من شعبوية اليمين المتطرف. وكتبت: "ما الذي سنجنيه من هذا الخطاب، سوى كبش فداء جديد؟".

بطبيعة الحال، لم يكن من تنظيم داعش سوى أن يحمل الخوف من الآخر إلى النتيجة المنطقية التي توصل لها، حربٌ عالمية شاملة، وهي نتيجة تروق للمضطهدين في الخارج الذين يستخدمون الأدوات الإلكترونية نفسها التي يستخدمها المؤمنون بسموِّ العِرق الأبيض. وكلما زاد الغرب في عدم تسامحه، ازداد الأمر سهولةً على تنظيم داعش.

ومع كل واقعةٍ ترتبط بالإسلاموفوبيا، يتحول أحد المسلمين الذين يشعرون بالاغتراب إلى التطرف. ومع كل هجومٍ إرهابي، يتحول شخصٌ آخر من غير المسلمين الذين ينتابهم شعور الاغتراب حينها إلى التطرف كذلك.

ولسان حال الهنداوي وشرف: "لا نريد سوى أن نعيش"

وعلى الرغم من المشاعر المختلفة للخوف من الأجانب، التي يلمسها محمد الهنداوي وشريف شرف في وطنهما الجديد، فقد اعتنقا بالكامل قيم التعددية الثقافية. غير أنَّ هذا لا يعني أنَّهما غافلان عن حقيقة أنَّ التسامح ليس قيمةً ثابتةً هنا. وأخبرني الهنداوي، معرباً عن قلقه من أن يؤدي هجومٌ إرهابي آخر لمتشددين إسلاميين إلى تعريض ظروف حياته المعيشية للخطر: "لو اكتشفت أن أحد جيراني يقوم بعملياتٍ من هذا النوع فسأسلِّمه بنفسي إلى رجال الشرطة".

يضيف شرف: "أهدافنا تتلخص في أن نعيش، وتلك ليست بالأهداف الكبيرة".

للاطلاع على تجارب أخرى لمهاجرين في كندا، يمكن الاطلاع على هذه المادة المفصلة المنشورة سابقا على عربي بوست.

وهنا خلاصة تجربة المصرية مي فاروق وما تعلمته خلال 4 سنوات.

وإذا ما قررت الهجرة إلى كندا، فإليك الطرق والوسائل القانونية.

علامات:
تحميل المزيد