انتحارٌ في غزة.. لعلهم يولدون في مكان آخر!

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/19 الساعة 12:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/19 الساعة 13:05 بتوقيت غرينتش
مهند يونس

كيف أدت وفاة كاتب فلسطيني شاب موهوب إلى تسليط الضوء على ارتفاع حاد في حالات الانتحار.

كاتبة المادة: سارة هيلم، مؤلفة وصحفية ومراسلة دبلوماسية سابقة لصحيفة The Independent البريطانية بالشرق الأوسط.

عندما عاد مهند يونس، وهو طالب يبلغ من العمر 22 عاماً، إلى منزله الواقع في منطقة راقية نسبياً بمدينة غزة في إحدى ليالي شهر أغسطس/آب، كان في حالة مضطربة. تذكَّرت والدته، أسماء، أنَّه كان مُحبَطاً. لكنَّها لم تشعر بقلق بالغ حين حبس نفسه في غرفته.

كان مهند كاتباً موهوباً ينشر الكثير من قصصه على حسابه على فيسبوك وحظي بقاعدةٍ جماهيرية واسعة، وكان على وشك التخرج في كلية الصيدلة مُتوقِّعاً الحصول على درجات ممتازة. كان يُعبِّر في كتاباته عن الحزن واليأس المسيطران على أبناء جيله. إذ كانت الكتب وحدها هي الوسيلة التي ينفس فيها عن نفسه. وكان عادةً ما يعزل نفسه للكتابة أو القراءة أو التدرب على كيس الملاكمة.

في صباح اليوم التالي، لم يُبدِ مهند أي نشاط. وعندما اقتحمت أسماء غرفته، بمساعدة شقيقها أسعد، وجدوه ميتاً وقد خنق نفسه.

اجتاح فيض من الصدمة والحزن والتعجب شبكات التواصل الاجتماعية التي تابعت خبر وفاة مهند الذي تردد في جميع أنحاء غزة وخارجها. وجاء واحدٌ من التعليقات الكثيرة التي نُشِرت على الفيسبوك يقول: "كان مناضلاً مُتسلِّحاً فقط بقصصه الحزينة ليقاتل بها". لكن الحداد العام على موت الشاب الكاتب الموهوب يشير إلى أنَّ حادثة انتحاره لم تكن مجرد حادثة مأساوية أخرى على أرضٍ تُزهَق فيها أرواح آلاف الشباب. ويستحيل الآن إنكار ما يهمس به الكثيرون: تؤدي مأساة الحصار والشعور بالأسى تجاه المستقبل، خاصة بين شباب غزة الأكثر موهبة، إلى ارتفاعٍ سريع ومقلق في حالات الانتحار.

سلَّطت الأحداث المروعة التي وقعت بالمنطقة العازلة في غزة الأسبوع الماضي أنظار العالم على معاناة ويأس الفلسطينيين في غزة، إذ يخاطر عشرات الالآف بحياتهم احتجاجاً على سجنهم وراء جدران وأسوار غزة. منذ أن بدأت مسيرة العودة الكبرى، اندلعت سلسلة من الاحتجاجات في نهاية شهر مارس / آذار، وأسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص، معظمهم على أيدي القناصة المتمركزين خلف السياج الحدودي.

كثيراً ما بدا الأمر كما لو أنَّ هؤلاء المتظاهرين يرمون أنفسهم -حرفياً- بالضبط أمام الرصاص الإسرائيلي. في الأيام الأولى من الاحتجاجات، تحدَّث شبابٍ بالمنطقة العازلة وقالوا أنَّهم لا يلقون بالاً للموت. وقال أحد المراهقين المرابطين عند الحدود بالقرب من مدينة خان يونس: "نحن نموت في غزة على أي حال. وقد نموت أيضاً بالرصاص". وكان هذا الشاب مع أصدقائه الذين يشاركونه نفس الشعور، بمَن فيهم شخص أُصِيب بالفعل برصاصة في ساقه وكان جالساً على كرسي متحرك.

إذا تغلغلت كاميرات العالم قليلاً داخل أعماق قطاع غزة، في الشوارع وخلف أبواب المنازل، سترى حالة الاكتئاب المُخيِّمة على كل منزلٍ تقريباً. يبلغ عدد سكان غزة مليوني نسمة متكدسين ضمن نطاق قطاعٍ صغير، وبعد 10 أعوام من الحصار، يجدون أنفسهم دون عمل واقتصادهم مقضيّ عليه ولا يمتلكون الضرورات الأساسية لحياةٍ كريمة -مثل الكهرباء أو الماء الجاري- وبلا أي أملٍ في الحصول على الحرية أو أية إشارة على أنَّ الوضع سيتغير. يحطم الحصار العقول، دافِعاً الأضعف من بينها إلى الانتحار بأعداد لم نشهدها من قبل.

حتى وقت قريب، كان نادراً ما تقع حادثة انتحار هنا، ربما يعود السبب جزئياً إلى القدرة على الصمود التي يتحلى بها الشعب الفلسطيني والتي اكتسبها على مدار أكثر من 70 عاماً من الصراع، إلى جانب الشبكات العائلية القوية، لكن يعود السبب على الأغلب إلى أنَّ قتل النفس محرّمٌ في المجتمعات الإسلامية، فالمُنتحِر لا يعتبر شهيداً يذهب إلى الجنة إلا حين يكون الانتحار عملاً من أعمال الجهاد؛ وما دون ذلك يذهب إلى النار.

على مدار ما يقرب من ثلاثة أعوام من تغطية الأحداث في غزة، لم يُسمع قط تقريباً عن قصص انتحار  قبل عام 2016. في بداية ذلك العام، أي بعد تسع سنوات من الحصار الكامل، قالت جرَّاحة عظام بريطانية متطوعة في مستشفى الشفاء بغزة أنَّها كانت تشهد مع زملائها عدداً من الإصابات غير المبررة يعتقدون أنَّها نجمت عن السقوط، أو القفز، من المباني المرتفعة.

بحلول نهاية عام 2016، كانت حالات الانتحار تقع بكثرة لدرجة أنَّ الظاهرة بدأت تصير تشتهر وتصبح معروفة بين العامة. تشير الأرقام التي نقلها الصحفيون المحليون إلى أنَّ أعداد حالات الانتحار عام 2016 بلغت على الأقل ثلاث أضعاف الحالات عام 2015. لكن وفقاً لأخصائيي الصحة في غزة، فإنَّ الأرقام الواردة في وسائل الإعلام، ورغم إشارتها إلى زيادة كبيرة، فإنَّها تُقلِّل بدرجة كبيرة من المعدل الحقيقي. إذ يجري "التستر" على حالات الانتحار باعتبارها حالات سقوط أو حوادث أخرى، كذلك تشيع الرقابة أو البلاغات التي تتضمَّن أسباب غير حقيقية للوفاة بسبب وصمة العار المقترنة بالانتحار.

لكن منذ عام 2016، كانت هناك أيضاً سلسلة من حالات التضحية بالذات في مختلف أنحاء غزة، إذ يُضرِم الرجال النيران في أنفسهم على مرأى الجميع.

قال د. يوسف عوض الله، وهو طبيب نفسي في مدينة رفح التي تقع على حدود غزة مع مصر: "لم نكن نواجه تلك الأحداث الكارثية قبل 10 أعوام". ويلقي أخصائيو الصحة النفسية وأقارب المتوفين باللوم على عواقب الحصار، إذ يقولون إنَّها أكثر تدميراً للصحة البدنية والنفسية للسكان مقارنةً بسلاسل الحروب المتعاقبة. ويحذر الأطباء في غزة من أنَّ الحصار المطول للقطاع سبَّب "وباء" صحة نفسية يتمثَّل أحد أعراضه في عدد حالات الانتحار المتزايد، إلى جانب الزيادة في حالات الفصام، واضطراب ما بعد الصدمة، والإدمان، والاكتئاب.

ولأول مرة، بدأت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فحص جميع مرضى الرعاية الصحية الأولية لاكتشاف أي ميول انتحارية ممكنة في أعقاب ما يصفونه بأنَّه "زيادة غير مسبوقة" في حالات الوفيات.

يقول الأطباء في غزة إنَّ الرجال والنساء من جميع الفئات العمرية ومختلف الخلفيات الاجتماعية جميعهم عرضة للدوافع الانتحارية. وفي يومٍ واحد في شهر مارس/آذار الماضي، شنقت فتاة تبلغ 15 عاماً وصبي يبلغ 16 عاماً نفسيهما. وتشمل حالات الوفيات رجال يئسوا نتيجة عجزهم عن إعالة أسرهم؛ ونساء وأطفال ضحايا الاعتداءات، غالباً في حالات الفقر المدقع أو الاكتظاظ والتكدس، وحتى السيدات الحوامل اللاتي تصرحن بعدم الرغبة في جلب أطفالٍ إلى الحياة في غزة. ففي أبريل/نيسان الماضي، قطعت سيدة حامل في الشهر السابع معصميها سعياً للانتحار.

ومن بين الحالات الأكثر عرضة للانتحار هم طلاب غزة الأكثر إشراقاً، الذين انتحر بعضهم قبل التخرج أو بعده. ففي شهر مارس/آذار، وأثناء إجراء مقابلة مع رجل أعمال مفلس في منزله، شاهدتُ صورة لشاب ذكي يرتدي نظارات في مكان واضح وبطريقة جعلتني افترض أنَّه "شهيد" أو شخص قُتِل أثناء إحدى المعارك. لكنَّ تلك الصورة لم تكن تُصوِّر أياً من الرموز الأيقونية المرتبطة بملصقات الشهداء المنتشرة في جميع أنحاء غزة. اصطحبتُ مترجماً معي وتعرَّف على الصورة؛ إذ كان ابن رجل الأعمال أحد أنبغ أصدقائه (المترجم) في الجامعة. قال رجل الأعمال: "لقد شنق نفسه. لم يرَ أي مستقبل في غزة".


قبل شهور من مشاهد المذبحة المروعة التي صاحبت مسيرة العودة الكبرى، جذبت قصة مهند يونس انتباهاً خاصاً. ولا يقتصر السبب على كتاباته التي تتميز بالوصف الخيالي لنصف الحياة التي تحياها غزة والتي لاقت إعجاب الكثيرين، بل أيضاً لأنَّه بعد وفاته بدأ البعض في وصفه على أنَّه شهيد. حتى أنَّ والدته قالت لي: "إنَّه أكثر من شهيد".

قال أصدقاء مهند إنَّه كان يحارب عدوه بقلمه ومات ضحية الحصار. وحظي مهند عند وفاته على ثناءٍ حار من الكثير من معجبيه على صفحات التواصل الإجتماعي بسبب شجاعته وكتاباته، وحصل على الثناء حتى من وزير الثقافة الفلسطيني د. إيهاب بسيسو له في حفل تأبينٍ له. وبدا أنَّ بسيسو، وهو عضو في السلطة الفلسطينية المسيطرة على الضفة الغربية، أيضاً يعتبر مهند شهيداً، قائلاً إنَّه "لم يكن في حاجةٍ إلى الاعتذار عن رحيله المبكر". مُضيفاً أنَّ قصصه لن تُنسى أبداً، وتابع: "ستظل أحد عمالقة عصرنا يا مهند".

ولكن هذا الجدال حول نيل مهند درجة "الشهادة" نشر الذعر في غزة، خاصةً بين الآباء الذين يخشون أن يقوم أولادهم بنفس الشيء إن ظنوا أنَّ بإمكانهم النجاة من الجحيم. أخبرني والد خريجين اثنين: "نحن نشاهد أطفالنا يدخلون المدارس والجامعات ثم يعملون بجهد ويتوقون إلى الاندماج في العالم والحصول على وظائف وممارسة حياة طبيعية، ثم ينتهي الأمر إلى لا شيء. إذا كان الانتحار يُنظَر إليه باعتباره موتاً 'شريفاً'، فقد يلجأ المزيد إلى تلك الطريقة. إنَّه أمرٌ خطيرٌ للغاية".

ربما تساءل مهند نفسه عما إذا كان سيُنظَر إليه على أنَّه شهيد. ففي قصة "الشهيد المجهول"، وهي قصة نُشِرت بعد وفاته ضمن مجموعة تحمل عنوان "أوراق الخريف"، يصف مهند كيف أُحضِرت جثةٌ مجهولة الهوية إلى مستشفى الشفاء، حيث حاولت العائلات التعرف عليها. وسأل الراوي: "هل سيتعرفون عليّ؟".

كان أحد أماكن الكتابة المفضلة لمهند هو مقهى الحديقة بفندق مارنا هاوس الواقع عند أحد الجوانب الهادئة بحي الرمال المكتظ بالأشجار في غزة. لطالما كان فندق مارنا أحد الأماكن المفضلة للسياح الأجانب الذين غالباً ما يتبرعون بالكتب لمكتبة الفندق، الأمر الذي مثَّل عامل جذب آخر لمهند الذي عانى في غزة المحاصرة للعثور على كتب  لإشباع غريزته الشرهة للقراءة.

في فترة دراسته في جامعة الأزهر القريبة، كان يمكن رؤية مهند، الطويل النحيف، وسط حشد الطلاب المتدفق إلى شوارع مدينة غزة بعد انتهاء المحاضرات. كان يتفادى السيارات والأحصنة والعربات وينسحب من الزحام ليتجه أحياناً إلى الصيدلية التي عمل فيها بدوامٍ جزئي أو إلى أحد المقاهى، غالباً في فندق مارنا. وكان يطلب القهوة مُتَّخِذاً مقعداً في زاوية هادئة ثُم يشعل سيجارة ويشحن هاتفه ليبدأ في تأليف القصص.

وفي ظل إتاحة الكهرباء لمدة ساعتين فقط في غزة، يُعَد توصيل الأجهزة بالكهرباء ضرباً من ضروب الرفاهية. لكنَّ فندق المارنا يمتلك مولداً مثل أغلب الأماكن التي تحظى بجمهور من الزبائن. إذ يأتي إليه الأطباء والصحفيون والمعلمون للتجمُّع، أو تناول النارجيلة، أو مشاهدة مباريات فريق برشلونة على شاشة التلفاز الكبيرة.

يتمكَّن عدد قليل فقط من الطلاب من تحمل تكاليف الجلوس في مارنا، لكن نظراً لأنَّه طفل وحيد، كان مهند "مدللاً" من جانب والدته، إلى جانب أنَّه كان يتعرَّض للمضايقات من أصدقائه. ولكن جميع الأصدقاء والمعلمين والزبائن في الصيدلية يعرفون أنَّه "رجل جيد وطيب" وكذلك "رجل حزين". شاهد البعض الندوب على معصميه أيضاً، التي تمثل إشارةً على محاولات الانتحار السابقة. وأشارت قصصه إلى أنَّه مثل أي شاب آخر يعيش في غزة، لأنَّه عبَّر عن مشاعرهم ببلاغة شديدة. وكتب في إحدى القصص: "عندما تعيش في منزل تحبه ولا تتركه، لا بأس في ذلك، لكن إذا احتُجِزت داخله رغماً عن إرادتك ستشعر آنذاك بالشلل واليأس".

وعبَّر مهند بالكتابة عن أحزانه الشخصية. إذ انفصل والداه عندما كان طفلاً، وشعر أنَّه منبوذ من والده. ويتعاطف القرَّاء مع آلامه أيضاً، لأنَّ كل عائلة في غزة محطمة: معظمهم العائلات لديها أفراد قُتِلوا أثناء الصراع، والكثير منها انفصلت بسبب سنوات من النفي، أو تمزَّقت من جراء السجن. إذ يوجد اليوم آلاف الفلسطينيين محتجزين داخل السجون الإسرائيلية.

حظي مهند بقاعدة قرَّاء نسائية كبيرة؛ إذ كانت نبرته الحزينة الخاصة تجذب النساء. قالت شابة أعرفها فرَّت عبر الأنفاق إلى مصر من أجل الحصول على منحة دراسية أميركية: "كان بإمكانه الكتابة عن جميع الأمور المنافية للمنطق في حياتنا، مثل الإذلال فضلاً عن المأساة. كان يعرف أنَّ هذا مكاناً زائفاً". وضحكت قائلة: "هذا وضع طبيعي".

قال مصطفى العصار، وهو شاب يبلغ 17 عاماً يرغب في دراسة القانون الدولي ولكن لا يمكنه لأنَّ تلك المادة لا تُدرَّس في غزة إضافة إلى عدم إمكانيته المغادرة: "الأمر على هذا النحو، تدرك فجأة أنَّه لا يمكنك أن تكون الشخص الذي رغبت به في غزة. ولا يمكنك أن تُظهِر لأي شخص في الخارج مَن تكون، لأنَّه لا يمكنك الخروج. لذا، لا يمكنك أن تكون الشخص الذي ترغب به".

لم يشعر مهند بالغضب، لكنَّه بدلاً من ذلك وقع في حالة اليأس الشائعة. فلم يُلقِ حجارةً قط، وكذلك الحال مع معظم جيله. فهم يسألون: "من أجل ماذا (إلقاء الحجارة)؟ ليُصابوا بالرصاص؟ مَن سيكترث؟".

كان باسل الأعرج هو صورة البطل في نظر مهند، وهو قائد حركة شبابية بالضفة الغربية دعا لإقامة احتجاجات سلمية، وصحب أتباعه في جولات حول أبرز معالم المقاومة الفلسطينية، مُحدِّثاً إياهم عن تاريخ المقاومة. كان الأعرج مثل مهند كاتباً وطبيباً صيدلي. وأخبرني أحد أصدقاء مهند أنَّه "كان مهووساً بالأعرج".

قبل أن يتجه مهند إلى المنزل، كان يتفقد وصول أي تبرعات جديدة لمكتبة مارنا المُجمَّعة من مصادر شتى، فربما ينهمك في كتاب Long Walk to Freedom (الطريق الطويل إلى الحرية) لنيلسون مانديلا أو يُقلِّب بتمعنٍ في صفحات أحد كتب أغاثا كريستي التي يظهر عليها أثر الاستخدام الكثير.

ووسط جمع من روايات الجريمة، وجدتُ بضع روايات أدبية: نسخة اعتلاها التراب من تقارير الأمم المتحدة عن غزة. ولو كان مهند قد قرأ أحدها لرأى تحليلاً يعود إلى عام 2002، لموجة من التفجيرات الانتحارية التي شهدتها الأشهر الأكثر دموية للانتفاضة الثانية. ووفقاً لإياد سراج، الطبيب النفسي الرائد في غزة، والذي أسَّس في عام 1990 برنامج غزة للصحة النفسية في غزة، فإنَّ الهجمات الانتحارية انتشرت بسبب شعورٍ باليأس ازداد تفاقماً، ونتج عنه "يأساً أصبحت الحياه فيه لا تختلف عن الموت".


تقول أسماء والدة مهند وهي تجلس في غرفة المعيشة في منزل الأسرة إنَّه "حين كان صغيراً كان يحب الاستماع إلى القصص". وبالكاد يظهر جزء من البحر من بين المنازل أسفل الطريق. كان أجداده يقصون عليه أجمل الحكايات عن قرية الجورة، التي كانت في ما سبق قرية مزدهرة للصيد عاشت فيها العائلة لقرون.

وإبان حرب 1948 بين العرب وإسرائيل، والتي أدت إلى قيام دولة إسرائيل، أُخرِجَت عائلة مهند مع 750 ألف فلسطيني آخر من منازلهم ولم يُسمَح لهم أبداً بالعودة منذ ذلك الحين. ودُمِّرت قرية الجورة، وحلَّ محلها ميناء عسقلان الضخم، الذي يمكن رؤيته من الشاطئ الموجود أسفل منزل مهند.

وقالت جدته الثمانينية، مدللة: "كنتُ أقص عليه حكايات حقول البرتقال، وأعيادنا وكيف كنتُ أركض وأسبح وسط الأمواج"، وكانت مدللة ترتدي حجاباً أصفراً زاهياً. وإلى جانبها جلست الأم أسما متشحةً بالسواد. كان جد مهند يحكي له عن أبيه الذي نشأ حين كانت فلسطين لا تزال جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وكم كان مثقفاً وعمل في بلاط السلطان واعتاد السفر إلى الخارج. قالت مدللة: "كان يقول لمهند إنَّه يريد أن يعود إلى بيته في قريته قبل أن يموت. لكنَّه مات في غزة، وحزن عليه مهند حزناً شديداً". وبعد ذلك، كتب مهند عن الجورة وعن "فتى ذي شعرٍ ذهبي يشرأب ليصل إلى الشباك ويرى البحر".

قالت أم مهند: "أعتقد أنَّ الاستماع إلى القصص ثم كتابتها كانت طريقته في التعامل مع الحزن". وقال خاله أسعد، الذي ساعد في تربيته، إنَّه كان ماهراً في الرياضيات أيضاً، وكان "يحب حل المسائل الحسابية. وكان يحب أيضاً أن يفعل كل شيء بنفسه؛ كان يحب أن يجرب".

في سنوات صبى مهند، كانت فلسطين تمر بتجربة جديدة. فقد وُلِد عام 1994، حين ظهرت أولى ثمرات اتفاق أوسلو. وكان المقصود من توقيع الاتفاق، الذي تم وسط احتفاءٍ جماهيري عام 1993، إنهاء احتلال إسرائيل للأراضي التي احتلتها عام 1967 بشكلٍ تدريجي؛ أي غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وعلى هذه الأراضي كان من المفترض أن يقيم الفلسطينيون شيئاً يشبه الدولة.

غير أنَّ أوسلو أخفقت في التعامل مع مظالم عام 1948. وكان هذا هو السبب في عدم احتفاء المجتمع الدولي بها، لاسيما في غزة، التي يتركَّز فيها أكبر عدد من لاجئي العام 1948. ومعظم هؤلاء اللاجئين كانوا مزارعين استولت إسرائيل على أراضيهم ومزارعهم أثناء الحرب أو بعدها مباشرةً، ونُهِبت محاصيلهم وممتلكاتهم الأخرى. وأصبحت القرى الفلسطينية إما ممتلئةً باليهود أو مدمرة بالكامل. ومن بين سكان غزة البالغ عددهم مليوني شخص، يوجد 1.3 مليون شخص من اللاجئين أو من أبناء مَن فروا إلى غزة عام 1948، والذين ينص قرار مجلس الأمن رقم 194 على حقهم في العودة إلى أوطانهم.

وبالرغم من كل إخفاقات اتفاق أوسلو، فقد منح شيئاً من الأمل بإحلال السلام. وتمسك الفلسطينيون بهذا الأمل، ربما سعياً لتحسين أوضاع الجيل القادم، وحتى في غزة، حلَّت حمائم السلام محل صور الشهداء على الجدران. وإلى الجنوب في رفح، حيث كانت أسرة مهند تعيش حينها، افتُتِح مطارٌ ذو قباب ذهبية عام 1998، وكان هذا المطار بمثابة عجيبة من عجائب الزمن في عيون الصغير. لكن هذه القباب الذهبية ما لبثت أن تحولت خلال ثلاثة أعوام إلى حطام، بعد أن دمَّرتها القنابل الإسرائيلية. وما إن بلغ مهند الخامسة من عمره، كانت تجربة أوسلو تنهار، ولم تحقق من وعودها إلا النذر اليسير. هذا الشعور بالغدر الذي انتاب الفلسطينيين أجَّج دعمهم لحركة حماس الإسلامية، التي تُعَد منافساً لحركة فتح العلمانية التي دعمت أوسلو.

كان مهند يمر أثناء طريقه إلى المدرسة بملصقات لجيل جديد من "الشهداء". كان هؤلاء الشهداء انتحاريين، معظمهم انضم إلى صفوف حماس في رفح، خضعوا لأوامر مؤسسها ومُنظِّرها أحمد ياسين، الذي وُلِد -كما هو حال أجداد مهند- في قرية الجورة. أقنع ياسين الانتحاريين بأنَّهم سيذهبون إلى الجنة. غير أنَّ إسرائيل ما لبثت أن انتقمت من هذه العمليات، وسوَّت أجزاء كبيرة من رفح بالتراب.

سألتُ والدة مهند كيف شرحت الوضع في غزة لصبيٍ صغير، فقالت لي إنَّه لم يكن ثمة ما يجب شرحه: "الأطفال يرون كل شيء بأنفسهم؛ حواجز التفتيش، والمتفجرات، واقتحامات البيوت، وهم يعلمون أنَّ هذا حالنا جميعاً".

حين بلغ مهند العاشرة من عمره عام 2004، كان العديد من أبناء جيل ما بعد أوسلو قد عاود إلقاء الحجارة، كما فعل آبائهم. غير أنَّ مهند كان يُفضِّل الدراسة على المكوث في الشوارع. وفي عام 2005، ومع تزايد تسلح حركة حماس، سحبت إسرائيل جيشها ومستوطنيها من غزة، وأعادت تمركز قواتها على الحدود، وبدأت بناء جدار عازل، وبالتالي أصبحت رؤية العدو أكثر صعوبة. كانت هناك طائرات دون طيار تحلق في السماء وزوارق حربية على الشواطئ.

وفي عام 2006، ومع تزايد انحسار آمال السلام، فازت حماس في الانتخابات التشريعية لتُشكِّل حكومة حكم ذاتي محدود في الضفة وغزة. رفض خصومها في فتح قبول انتصار حماس، ما أدى إلى نشوب الاقتتال بين الفصيلين الذي أفضى إلى مقتل المئات من الفلسطينيين. وحين استولت حماس بالفعل على السلطة داخل غزة في يونيو/حزيران عام 2007، وبقاء سيطرة فتح على الضفة الغربية، أعلنت إسرائيل غزة "كياناً إرهابياً". وفي الأشهر التي أعقبت ذلك، فرضت إسرائيل حصاراً على غزة دمَّر الاقتصاد الهش للقطاع. ودعمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إسرائيل بمقاطعةٍ سياسية لحماس.

ومنذ ذلك الحين، بدأ خنق غزة وعزلها عن العالم الخارجي، إذ منعت إسرائيل حركة البشر والوقود والغذاء عبر حدودها، ولم تسمح إلا بتمرير الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية. كما أمر الرئيس المصري حسني مبارك بإغلاق معبر رفح بين مصر وغزة، سعياً منه هو الآخر لاحتواء المتشددين الإسلاميين، فتواطأ مع إسرائيل.  في هذا المناخ الخانق، وجد مهند يونس، الذي لم يكن حينها إلا فتًى يافعاً، طريقة لإخبار العالم بطبيعة الحياة خلف قضبان السجن الأغلى على الإطلاق.

كان مهند في الثالثة عشرة من عمره حين بدأ الحصار. انتقلت أسرته من مدينة رفح، على الحدود الجنوبية المكشوفة لغزة، إلى مدينة غزة، حيث أملت والدته أن يكون هذا أكثر أمناً للعائلة مع وجود فرص أكبر لإدخال مهند إلى المدرسة، الذي كان حبه للقراءة والكتابة يزداد يوماً بعد يوم. ظهرت مواهبه لأول مرة إلى النور في جمعية خيرية في مدينة غزة تُسمى مركز القطان، حيث فاز بالجائزة الأولى في مسابقة تأليف القصص.

تتناول كثيرٌ من قصصه الأولى حكايات عن مكانٍ غريبٍ ومشؤوم نادراً ما يُسمِّيه، لكنَّنا ندرك الآن أنَّه غزة. في قصة له تحمل اسم "جغرافيا"، يستخدم راوياً يشبه حيواناً حبيساً "يمشط حدود غزة شبراً شبراً". أحياناً ما تظهر أشباح في قصصه، ويتسائل ما إذا الموت قد حرَّرهم أم أنَّ "الموت قد قيدهم هم أيضاً".

ويدرك رواة قصص مهند أنَّهم مسجنون، ليس بالجدران وحدها، وإنما بالمراقبة أيضاً. ففي إحدى قصصه، يجند جواسيس إسرائيليون لهم أسماء مستعارة مثل "أبو صالح" المراهقين ويقنعونهم بخيانة الشعب الفلسطيني، الذي كان يُقتَل حينها. يقول أحد الصبية في قصةٍ لمهند مُوجِّهاً حديثه إلى عميلٍ إسرائيلي اتصل به على هاتفه الجوال: "هل تريدني أن أشي بأخي؟". وتضيف القصة: "يدق الهاتف ثانية، ولا تتوقف شاشته عن الإضاءة. تنتابك رغبة أن تقذفه في الشجرة ليتفتت إلى آلاف القطع، غير أنَّك لا تستطيع مقاومة رغبتك في الرد عليه".

وفي قصةٍ أخرى، يذهب الراوي إلى حاجز تفتيش حيث "تمطر السماء مقاصل"، في تصويرٍ يثير في الأذهان القصف الإسرائيلي على غزة أثناء الهجوم العسكري بين 2008-2009، والذي قُتِل فيه 1400 فلسطيني. ربما بعد فترة وجيزة من هذا الهجوم طلب قادة حماس في مسجد حي مهند منه أن ينضم إلى ورشة عمل للحركة. دائماً ما حازت الحركة دعماً شعبياً من عملها الخيري، من خلال مساعدة المحتاجين ومن خلال البرامج الاجتماعية وإنشاء المدارس وورش العمل.

وتقول والدة مهند: "حين كان صبياً لم يكن متديناً بشكل كبير. ولكنَّه كان يؤمن بالله، ودائماً ما كان يرغب في أن يجد معنى لحياته ويسأل كثيراً عن الدار الآخرة والحياة بعد الموت". صبيٌ بهذا الذهن المتقد المتسائل لا بد أنَّه كان هدفاً مثالياً للحركة، وكانت أسرته أيضاً معروفة لقادتها. فليست فقط عائلة المؤسس أحمد ياسين هي التي تنحدر من الجورة، بل كذلك عائلة القائد السياسي إسماعيل هنية. ويقول أحد أصدقاء مهند إنَّ الهدف الرئيسي من سعي الحركة إلى ضم مهند إلى صفوفها هو أنَّه كان "ذكياً وفضولياً". وأضاف: "كانوا يريدونه أن يكون واحداً منهم؛ أحد أبطالهم، يصنع السلاح كيحيى عياش". كان يحيى عياش يصنع المتفجرات لحماس، وكان يُلقَّب بـ "المهندس"، واغتالته إسرائيل عام 1996.

وقال أسعد، خال مهند: "حضر مهند ذات يومٍ بلحيةٍ وقال لي إنَّه من حماس. لكن في يومٍ آخر كان يقول أنا من الجهاد الإسلامي. كل ما في الأمر أنَّه كان يسعى لتجربة أشياء جديدة؛ كان يتخذ قراراً ثم يرجع عنه".

ما لبث كثيرٌ ممن صوتوا لحماس في غزة عام 2006 أن بدأوا ينقلبون عليها. كانت الهجمات الصاروخية للحركة على إسرائيل تحظى باستحسانٍ على نطاقٍ واسع في غزة، تماماً كما حظيت شبكة الأنفاق التي بنتها الحركة أسفل الحدود الجنوبية إلى داخل مصر، والتي مكَّنت من تهريب بعض البضائع إلى داخل القطاع للتخفيف من الآثار السيئة للحصار. ولكن على الرغم من ذلك، وبمرور السنوات، بدأ يتضح للعديد من الناس أنَّ الهجمات الانتحارية التي نُفِّذت أثناء الانتفاضة الثانية، بين عامي 2000 و2005، قد دمَّرت القضية الفلسطينية. وفي ظل حكم حماس، بدأت الحياة في غزة تتحول بسرعة إلى صورة عصور الظلام الثقافية. ففرضت الحركة قوانين صارمة، بما في ذلك إغلاق المسارح ودور السينما، وتجريم معظم الحريات التي جاهدت النسوة للحصول عليها، وصار ارتداء الحجاب شبه إلزامي، وغير ذلك من القيود الاجتماعية القمعية. وبدأ حكم حماس يتحول في عيون البعض إلى حصارٍ داخل الحصار.

حين بدأ مهند الاستعداد لدخول الجامعة، وجد الحرية في مساحته الخاصة من خلال الكتابة والقراءة. تعلم الإنكليزية بنفسه، أملاً في أن يستطيع دراسة الأدب الإنكليزي، وبالرغم من أنَّ والدته أقنعته بدلاً من ذلك بضرورة دراسة الصيدلة، لأنَّ فرص العمل فيها أفضل، ظلَّ الأدب حبه الأول.

كان العثور على الكتب أمراً صعباً، وغالباً ما كانت الطريقة المثلى للحصول عليها هو تهريبها عبر الأنفاق. وتقول أسما: "كان يتعامل مع كتبه بسرية شديدة ويحتفظ بها داخل غرفته"، وعرضت علينا أن ترينا الغرفة التي كان مهند يقضي فيها وقته، والتي مات فيها.

قالت أسماء، وهي تفتح الباب المُفضي إلى غرفة صغيرة بها سريرٌ ومكتب عليه الجوائز التي نالها في مسابقات الكتابة: "لم يتغير شيءٌ منذ وفاته". كانت هناك دمى على كرسي، وقفاز ملاكمة. وأخرجت أسما من الدولاب ثوب التخرج؛ إذ حضرت حفل تخرج مهند بدلاً منه بعد أشهر من وفاته.

فتحنا خزانة كتبه وبدأنا إخراج سيل من الكتب. كانت هناك روايات لدوستويفسكي وديكنز، وكتب فلسفة من قبيل Wittgenstein for Beginners وكتب لهيغل وكتاب The Magic or Reality لريتشارد دوكينز. ومن بين المؤلفين المسرحيين الذين كان يقرأ لهم آرثر ميللر ويوربيديس ويوجين يونسكو وتيرنس راتيغان. وهنا وجدنا كتاب A History of Zionism مصفوفاً فوق أعمال لتشي غيفارا وتشارلز داروين. معظم الكتب كانت ترجمات باللغة العربية، وبعضها كان باللغة الإنكليزية. ومن الصعب أن نعلم على وجه اليقين ما إذا كان مهند قد قرأ كل صفحة من هذه المجموعة الواسعة أم أنَّه فقط كان يحب اقتنائها. لكن ما نعرفه يقيناً أنَّ الجلوس بين هذه الجدران الأربعة، برفقة جورج برنارد شو وسوفوكليس ومحمود درويش، مكَّنه من أن يحطم جدران غزة ويتواصل مع العالم الواسع خارجها.

حين دخلت جدته مدللة إلى الغرفة، بدأنا ننظر إلى الكتب الموجودة على الرف التالي، ومن بينها كتاب "مذلون مهانون" لدوستويفسكي. والتقطت مدللة صورةً كانت موجودة لحفيدها.

عدنا إلى غرفة المعيشة المشمسة المواجهة للبحر، وذهبت أسما لتصلي. سألتُ مدللة لماذا تعتقد أنَّ مهند قتل نفسه، فقالت: "لا يوجد تفسير واضح، أخبرتُه يومها أنَّني سأموتُ قريباً، فقال لي 'لا تفعلي ذلك'، وأخبرني أنَّ هناك فتاة يريد الزواج منها، وكنتُ أعرف أنَّه يحبها. كان طيباً وجميلاً ذلك اليوم. أعددتُ له الطعام لأنَّ أمه كانت صائمة؛ وصنعتُ لي وله القهوة وحليت قهوته بالعسل وأعطيتُه إياها في غرفته. كان يشع بالأمان داخل غرفته".

مَن ينظر إلى شواطئ غزة من هنا يحسبها آمنة أيضاً؛ يبدو مكاناً للنزهة أو لإقامة حفل زفاف على شاطئ مزدان بالألوان الساطعة والديكورات الزاهية. غير أنَّ الزوارق الحربية الإسرائيلية تجوب على مقربة من الشاطئ، ورمال شاطئ غزة مشبعة بدماء عائلة يونس.

قالت مدللة: "قُتِلت جدتي هناك تماماً، فوق حمار"، وأشارت إلى الشاطئ حيث ضربتها القنابل الإسرائيلية هي وأسرتها أثناء فرارهم إلى الجنوب من الجورة عام 1948. وفي حرب عام 2014، قُتِل أربعة أطفال فلسطينيين وهم يلعبون على شاطئ قريب.


كانت حرب عام 2014 الأكثر تدميراً من بين الهجمات الإسرائيلية الثلاث التي عايشها مهند. إذ قُتِل فيها أكثر من 2200 فلسطيني، من بينهم 500 طفل على الأقل. بعد هذه الحرب، تزايدت كتاباته عن الموتى، وأحياناً يتصور الأمان في الموت، وكتب عن "مشاعر الفقد والأمان، أو عن الركض بحثاً عن ملجأ من الغرق والنجاة، عن مشاعر الانتحار ببساطة". ولكن مثل كثيرين غيره،  رأى سبباً للأمل في أوج الصدمة التي أعقبت القصف.

وكان هذا السبب هو أنَّ العالم بدأ يلتفت بعد الدمار الذي لحق غزة عام 2014 إلى القطاع. كان هناك أمل يحدو محاميي حقوق الإنسان الفلسطينيين بأنَّهم سيستطيعون رفع قضية على إسرائيل لارتكابها جرائم حرب. وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أنَّ الحصار لا بد أن ينتهي وأنَّ العالم لا بد أن يدفع ثمن بناء منازل غزة ومستودعاتها ومصانعها. كان شعب غزة قد بدأ بالفعل إعادة بناء وطنه: شاهدتُ شباباً يتسلقون الخرسانة المتداعي ويملأون عربةً يجرها حمار بالأحجار. كانوا يخلون بستانهم لزرع شتلات الكليمنتين وإعادة بناء مصنع العصير المملوك لهم الذي قصفته إسرائيل.

وفي أوج الاهتمام الإعلامي العالمي، استغل آلاف الشباب الراغبين في أن يصبحوا صحفيين في القطاع الفرصة لتقديم بث حي لرواياتهم عن الحرب من بين الأنقاض إلى العالم الخارجي. ووقف الطلاب، الذين مُنِحوا زمالات دراسية للدراسة في جامعات أجنبية، في جنبات الشوارع على أمل أن يخبرهم أحدٌ أنَّ المعابر ستُفتَح ليتمكَّنوا من الخروج من القطاع والانضمام إلى فصولهم الدراسية. كان مهند قد سجل اسمه في المركز الثقافي الفرنسي على أمل أن يدرس الأدب في باريس.

لكن بعد عامٍ من هذا، كانت أشجار الكليمنتين قد ماتت، وجلس صاحب مصنع العصير إلى جانب صندوقٍ للغذاء تقدمه الأمم المتحدة. وبات أكثر من 80% من الناس يعتمدون على المساعدات الغذائية.

وخلف الأبواب المغلقة، وتحديداً في الأماكن التي اشتد فيها القصف عام 2014، شهدتُ حياة الناس المعطوبة. فتحت أمٌ شابة خزانة الألعاب التي ضربها القصف، ونظرت إليَّ بينما الألعاب المحطمة تتهاوى منها. وجلس شابٌ يُحدِّق في شاشة فارغة في الساعات الطويلة التي انقطعت فيها الكهرباء. وأدار العالم ظهره لغزة ثانية.

لأول مرة خلال سنوات عملي الطويلة في غزة، قابلتُ أطفالاً يتسولون، وسمعتُ حديثاً عن البغاء، ورأيتُ أدلة على انتشار إدمان المخدرات والعنف الأسري، غالباً في المنازل التي كان ما يقرب من 10 أشخاص يعيشون فيها في غرفة واحدة. فلم يعيدوا بناء منازلهم منذ قصف عام 2014. ووسط هذا الدمار، تبيَّن أنَّ تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" بات يحوز تأييداً. إذ ألقى مسلحون إسلاميون عبوةً ناسفة على المركز الثقافي الفرنسي حيث كان مهند يدرس.

وفقدت وسائل الإعلام العالمية اهتمامها بالأمر، باستثناء التكهن من آنٍ لآخر باندلاع انتفاضة جديدة. حين سألتُ الشباب في مخيم جباليا للاجئين، حيث بدأت الانتفاضة الأولى، عما إذا كان هذا الاحتمال قائماً، انفجروا في الضحك، وقالوا إنَّ الجدار بات أعلى، وإنَّ أساساته ضربت في الأرض لتمنع حفر الأنفاق. لم يعد بوسع أحد أن يقاوم أكثر من ذلك. سألتُهم عما إذا كان هناك احتمالٌ أن يظهر مانديلا جديد في فلسطين. فقال لي أحدهم: "لو ظهر سيقتله الإسرائيليون".

وفي مارس/آذار من عام 2017، أطلقت القوات الإسرائيلية النار على باسل الأعرج، المثل الأعلى لمهند، وأردته قتيلاً. وكان باسل كاتباً وأحد المدافعين عن المقاومة السلمية. وأطلق عليه الفلسطينيون لقب "الشهيد المثقف المتعلم".

ويثير إخفاق قادة حركتي فتح وحماس في الترويج للقضية الفلسطينية أو حتى في تحسين الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني اشمئزاز العديد من الفلسطينيين، وذلك بسبب انشغال هؤلاء القادة بالاقتتال في ما بينهم مع تشديد إسرائيل للحصار على غزة. كتب مهند عن الإسرائيليين: "على الأقل يحترمون شعبهم، بينما نحن نطحن شعبنا. ولكنَّهم أخرجونا من أرضنا!". في إحدى قصصه، ألقى فتى "بفخرٍ حجراً على حاجز تفتيش" غير أنَّه ما لبث أن استسلم، وعاد أدراجه إلى المنزل؛ "لتستمر لعنته الأبدية هنا". وكما مات الشباب الألماني وهم يحاولون عبور جدار برلين، مات الشباب الفلسطيني وهم يحاولون الفرار بالقوارب "في محاولة للوصول إلى مدن تكون الحرية فيها اختيار، وليست منحة أو هبة".

وخلال فصلي الربيع والصيف من عام 2017، سمعتُ مزيداً من التقارير من الأطباء عن حالات انتحار نفذها أصحابها على نحوٍ يبدو كحادث. لم يقتصر الأمر على إلقاء الناس بأنفسهم من أعلى المباني، بل كان الأطباء أيضاً يشهدون حالاتٍ لضحايا ما يبدو أنَّه حوادث سيارات متعمدة، وحالات غرق ربما كانت مقصودة. وربما زعم المرضى أنَّ جروح السكين الموجودة في أجسادهم نتجت عن "شِجار". سمعتُ من بعض الشهود عن حالاتٍ لأشخاص بائسين ساروا نحو المنطقة العازلة رغبةً منهم في أن يُطلِق الإسرائيليون النار عليهم. وقالت لي فتاة شابة إنَّها تناولت جرعة زائدة من الدواء لأنَّها لم تكن ترغب في الزواج أو إنجاب الأطفال في غزة.

وبدأت الأرواح الصلبة لسكان غزة تنكسر. قالت الدكتورة غادة الجدبة، مدير الخدمات الطبية للأونروا: "شعب غزة يريد الحياة ولا يستطيع". أما يوسف عوض الله، مدير مركز رفح للطب النفسي، فألقى برأسه إلى الخلف وهو يمثل الاختناق وقال: "هذا خنقٌ للشعب في غزة. في الواقع، نحن واقعون في مصيدة وليس في حصار"، ثم صفق بيديه معاً وقال: "مثل مسلسل الرسوم المتحركة توم وجيري". 

ويعد ارتفاع عدد حالات الانتحار في غزة جزءاً من أزمة الصحة النفسية في القطاع على حد قول عوض الله. وتقول منظمة اليونيسيف إنَّ ما يقرب من 400 ألف طفل قد تعرَّضوا للصدمة وبحاجة إلى دعمٍ نفسي واجتماعي. ويزدهر إدمان المخدرات، في الأغلب للمسكنات القوية، في القطاع. وقال عوض الله: "الإسرائيليون يعرفون ذلك؛ لهذا فإنَّ الحرب التي يشنونها حالياً تهدف إلى كسر عزيمتنا وليس مقاومتنا".

وبسبب الحصار، تعرقل العمل في منشآت الصحة النفسية في غزة، التي كانت بالأساس دون المستوى المطلوب على الدوام. وقال عوض الله: "قتل رجلٌ أمه يوماً ما لأنَّه كان يظن أنَّها تتجسس عليه". وقال آخر إنَّ الإسرائيليين وضعوا جهاز التجسس داخل رأسه. لكن ما الذي يمكننا فعله؟ ليس لدينا أدوية، وبالكاد تتوفر لدينا أسرة أو أطباء نفسيون". وأخبرني عوض الله عن حالة أخرى طعن فيها رجلٌ أطفاله قبل أن يشعل النار في نفسه؛ وقال: "حين يعجز الرجل عن إعالة أسرته، يعاني. ووصوله إلى نقطة إضرام النار في نفسه يعني أنَّه عانى لدرجة لم يعد يبالي معها إن ذهب إلى الجحيم".

فتح عوض الله ذراعيه على اتساعهما ليشرح لماذا تزيد احتمالية انتحار النابهين والشباب. وقال: "الفجوة بين ما يتطلعون إليه وما هو متاحٌ لهم أكبر مما هي عليه بالنسبة للأشخاص العاديين، وأصبح انتظار المستقبل الذي يطمحون إليه ولا تطاله أيديهم أمراً غير محتمل".


في صيف عام 2017، بدا أنَّ الجميع في غزة في انتظار شيءٍ ما؛ مرضى السرطان في انتظار أن يسمعوا ما إذا كان بوسعهم أن يغادروا القطاع لإجراء الجراحات العاجلة في "الخارج". والشواطئ المزدانة بديكورات ذات ألوان زاهية تنتظر توفر المال لدى المخطوبين للزواج. والجميع ينتظر الكهرباء.

أما راجي الصوراني، مدير مركز حقوق الإنسان الفلسطيني، فكان ينتظر أن يسمع ما إذا كانت اتهاماته لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب ستجد أذناً صاغية، لكنَّ أمله في إمكانية حدوث ذلك بدأ يتلاشى. وقال حينها: "لا أحد يتحدث عن الاحتلال؛ ولا أحد يتحدث عن الضحايا الذين يعيشون في ظل الاحتلال؛ الجميع يفترض أنَّ إسرائيل هي الضحية وأنَّه يجب حمايتها منا. نحن نعيش في كابوس".

وعلى ذكر الكوابيس، دعوني أخبركم أنَّ مهند كان ينتظر في غرفته وصول كتب جديدة. وعلى قائمته كان كتاب The Trial لكافكا؛ ومسرحية هامليت.

تحدث مهند عن الانتحار. ولكنَّه كان يتمسَّك بالأمل بوضوح، لأنَّه تحدَّث أيضاً عن خطبة الفتاة التي أحبها. ثمة رابط ما بين الخطبة والانتحار؛ إذ أخبرني صاحب المصنع المفلس أنَّ ابنه الذي شنق نفسه كان يُفتَرَض أن يتزوج في الأسبوع التالي للحادثة. ومهند كان واقعاً في الحب بلا ريب كما تقول والدته: "كان بوسعنا أن نرى هذا ظاهراً عليه". كتب عن حفل زفافٍ في الجورة، غير أنَّ النص كان مفعماً بشيءٍ من الفقد لقريته القديمة ولزيجته المستقبلية، ربما لأنَّه لم يستطع أن يقاوم أكثر من ذلك ألم "المتناقضات التي كانت تنفجر في رأسي" على حد تعبيره.

يغرق مهند في كتاباته الأخيرة في آلام الآخرين، ويلمسها حين تكون بالغة الحدة أو بالغة الخفاء. فيكتب عن أبٍ تحتضر ابنته في مكانٍ ما بعيداً عنه، يقول الأب: "شعوري بالعجز بات يقتلني كل يوم".

ولا يفتأ مهند يذكر تدني الأحوال في حواجز التفتيش التي يُؤخَذ فيها المسافر إلى "غرفة سرية تشبه الزنزانة، خاليةٍ من أي حياة … حيث يُحتَجز المسافرون لا لشيءٍ سوى لأنَّهم فلسطينيون. لماذا يُحرَم على الفلسطينيين دخول عواصم العالم ومطاراتها؟"

وآخر المسرحيات التي كتبها مهند كانت مسرحية تُسمى "الفرار". وقبل وفاته بفترة وجيزة قام بمحاولة أخيرة للفرار. قالت أمه إنَّه قدَّم أوراقه في جامعة عبرية عريقة في القدس ليدرس الأدب، وقُبِل فيها. غير أنَّه لم يستطع قبول العرض لأنَّ الأمن الإسرائيلي رفض أن يمنحه تصريحاً ليغادر غزة.

حتى اللحظة الأخيرة، كان مهند يغالب البؤس و"يبحث عن الجمال"، بالرغم من أنَّه أخبر متابعيه أنَّه كان يستمع إلى مقطوعة باخ التي تحمل عنوان Come Sweet Death, Come Blessed Rest. حتى حين دخل إلى غرفته في الليلة الأخيرة وأغلق الباب، ربما لم يكن متأكداً تماماً من أنَّه يريد إنهاء حياته. وبدا لخاله أسعد من وضعية جسده أنَّه كان قد غيَّر رأيه في مسألة الانتحار، لكن بعد فوات الأوان.

وفي الأسابيع والأشهر التي تلت موت مهند، بدا واضحاً أنَّ بؤسه ازداد تغلغلاً في داخله حين أدرك أنَّ الكتابة لن تصنع فارقاً؛ فقد رأى أنَّ الحكاية الفلسطينية تخضع لروايات الخارج. وجاء انتحاره قبل فترة وجيزة من اعتراف دونالد ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتشكيكه في حق العودة للاجئين.

وتحمل واحدة من آخر القصص التي ألفها مهند عنوان "الحوت الذي سد بابي بذيل". وفي القصة، يرى الراوي حلماً متكرراً تزوره فيه حيتان صغيرة وتحاول قتل نفسها. يستيقظ ويتسائل لماذا قررت الحيتان الموت، ويقول: "يُقال إنَّ الحيتان تقتل نفسها حين تفقد وِجهتها، وحين لا تعلم إلى أين تذهب".

سألتُ عوض الله عما إذا كان يعتبر مهند شهيداً؛ فكَّر لبرهة وابتسم وقال إنَّ حالة البؤس التي ألمَّت به سبَّبت له مرضاً نفسياً خطيراً؛ وبسبب هذا المرض قتل نفسه. وبناءً على ذلك، يأمل عوض الله أن ينظر الله إلى مهند نظرة رحمة وأن يدخله الجنة وينجيه من النار.

سألتُه ما الذي كان يمكن فعله للحيلولة دون انتحار مهند.

 فأجابني: "لا شيء. فقط أن يُولَد في مكان غير غزة".

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

تحميل المزيد