كيف وجد الـFBI نفسه وسط “إعصار جامح”.. The New York Times تكشف الأصول السرية لزلزال قدم من موسكو إلى لندن ثم واشنطن

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/17 الساعة 22:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/17 الساعة 22:45 بتوقيت غرينتش

من المتوقع أن يكشف محقق وزارة العدل الأميركية روبرت مولر هذا الشهر عن نتائج مراجعته المطولة لكيفية إدارة مكتب التحقيقات الفيدرالي لقضية هيلاري كلينتون المرشحة السابقة للرئاسة، في الانتخابات التي فاز بها الرئيس الحالي دونالد ترمب، ويتهم الأخير أعضاء لجنة التحقيق باستهدافه والعمل ضده، ما جعلهم في قلب الإعصار.

وحسب صحيفة The New York Times الأميركية فإنه من المؤكد أنَّ النتائج ستثير الجدل حول قرارات جيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات وقتها، بمهاجمة كلينتون علانيةً في مؤتمرٍ صحفي، ثم الإعلان عن إعادة فتح التحقيق قبل أيامٍ فقط من اليوم المحدد للانتخابات العامة.

وكشفت الصحيفة الأميركية عن تفاصيل التحقيقات التي أجراها ممثلون عن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، ودور السفير الأسترالي في الكشف عن علاقة أحد مستشاري الرئيس ترمب خلال الحملة الانتخابية بروسيا.

وخلال ساعات من بدء التحقيق في العلاقات المزعومة بين حملة ترمب الانتخابية وروسيا في صيف 2016، بعث مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي محققيّن إلى لندن في مهمةٍ غاية في السرية، حتى أنَّ حفنةً من المسؤولين فقط هم من كانوا يعلمون بها.

وكُلِّفَ هذان المسؤولان بمهمةٍ مقابلة السفير الأسترالي الذي كان بحوزته أدلة على أنَّ أحد مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترمب كان على درايةٍ مسبقة بالتدخل الروسي في الانتخابات.

وعقب مناقشاتٍ مشحونة بين الحكومتين الأميركية والأسترالية، خالف المسؤولون الأستراليون البروتوكولات الدبلوماسية، وسمحوا بأن يجري مكتب التحقيقات الفيدرالي مقابلةً مع السفير ألكسندر دونر ليصف لقاءه بجورج بابادوبولوس، المستشار في حملة ترمب.

قضية "الإعصار الجامح" تنقلب على المحققين

وأرسل عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي في الثاني من أغسطس/آب 2016 إلى واشنطن موجزاً حول مقابلتهم غير العادية رفيعة المستوى عقب انطلاق التحقيقات بيومين. وساعد هذا التقرير على توفير الأساس لقضيةٍ أصبحت في يوم خميس منذ عامٍ مضى قضيةً يحقق فيها محققٌ خاص. ولكن في هذا الوقت، لم يعرفها مسؤولو مكتب التحقيقات الفيدرالي إلا باسمٍ مشفر: Crossfire Hurricane، أو الإعصار الجامح.

ويعود الاسم إلى كلمات أغنية لفريق The Rolling Stones تقول: "وُلِدتُ وسط إعصارٍ جامح"، في توقعٍ مثالي للعاصفة السياسية التي تستمر في إطاحة أجزاء من مكتب التحقيقات. فلمّ تكد تمر أيام قلائل على انتهاء التحقيقات في استخدام هيلاري كلينتون خادمٍ إلكتروني خاص عندما كانت وزيرة للخارجية في إدارة أوباما في مراسلاتٍ خاصة بالعمل الرسمي، حتى شرع عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي في التدقيق في حملة منافسها الجمهوري. وأصبحت القضيتان وثيقتي الصلة بصورةٍ معقدة في فترةٍ مهمة للغاية في تاريخ مكتب التحقيقات الفيدرالي.

وتتناقض هذه القرارات مع الطريقة التي تناول بها مكتب التحقيقات الفيدرالي عملية الإعصار الجامح؛ فإلى جانب رجوع العملاء في هذه القضية إلى سياستهم المعهودة بالتزام السرية، تشير المقابلات التي أُجرِيَت مع عشرات المسؤولين الحكوميين الحاليين والسابقين ومراجعة الوثائق إلى أنَّ العملاء كانوا حذرين في هذه القضية أكثر من أية قضيةٍ سابقة. واشترط الكثير منهم عدم الكشف عن هويته عند التحدث حول القضية، لأنَّهم لمّ يكن مصرحٌ لهم بمناقشة التحقيق في العلن.

أخذ عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي في الاعتبار استجواب شركاء ترمب، وهو ما كان يمكن أن يُسّرع مسار التحقيقات، ولكنَّه كان ينطوي على خطورة الكشف عن وجود القضية؛ لذا رفضوا الفكرة لاحقاً. وسرعان ما أصبح كبار المسؤولين متيقنين أنَّهم لنَّ يصلوا إلى نتيجة في القضية قبل يوم الانتخابات العامة؛ مما زادهم تردداً حول القيام بأي تصرف. وحتى حين اتخذ العملاء خطواتٍ جدية في التحقيق، مثل استجواب السفير، كانت تحيطها السرية.                         

وخوفاً من التسريبات، أخفى عملاء مكتب التحقيقات تفاصيل حول القضية عن أصحاب المراكز السياسية في المبنى المقابل لهم، أي وزارة العدل. وقال مسؤولون إنَّه لم يُطلع سوى 5 مسؤولين من وزارة العدل على أبعاد القضية الكاملة، على خلاف المعتاد بموافاة 12 أو أكثر من الوزارة بتفاصيل موجزة في حالات قضايا الأمن القومي الكبرى.                   

وكانت هذه المعلومات من شأنها أن تطيح حملة ترمب الانتخابية في حال ظهرت إلى السطح؛ إذ كان مستشاره المستقبلي للأمن القومي وكذلك مدير حملة ترمب خاضعين للتحقيق. واتضح أنَّ أحدهما على علاقة بالمخابرات الروسية والآخر كان يُشتبه في أنَّه نفسه عميل لروسيا.     

 وفي قضية كلينتون، قال كومي إنّه أخطأ فيما يتعلق بالشفافية، لكن في مواجهة أسئلة من الكونغرس حول حملة ترمب الانتخابية، امتنع مكتب التحقيقات الفيدرالي عن الكشف عن أوراقه. وحين حاولت صحيفة The New York Times تقييم وضع التحقيقات في أكتوبر/تشرين الأول 2016، تخوَّف مسؤولو إنفاذ القانون من وضع أية استنتاجات؛ لينتهي الأمر برواية قوضت القضية بشكلٍ كبير.        

وقال كومي إنّه ليس من العدل مقارنة قضية كلينتون، التي كانت على مشارف الانتهاء في صيف 2016، بالقضية الروسية، التي كانت وقتها على وشك البدء، مضيفاً أنَّه لم يقم بحساباتٍ سياسية حول من سيستفيد من كل قرار.    

لكن كانت هناك حسبة سياسية واحدة تستند إليها القضيتان: فوز كلينتون وخسارة ترمب. إذ خشي العملاء من أن يُنظَر إليهم على أنَّهم أخفوا معلوماتٍ أو تساهلوا معها، بجانب قلقهم من أنَّ أية تصرفات علنية ضد حملة ترمب كانت ستعزز مزاعمه حول التلاعب بالانتخابات لصالح كلينتون.   

ترمب ضحية مكتب التحقيقات!            

ويواجه مكتب التحقيقات الفيدرالي الآن هذه الانتقادات وغيرها؛ إذ يقول ترمب إنَّه ضحية مكتب تحقيقات مُسيََّس، وأنَّ كبار عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي حاولوا تزوير الانتخابات بالامتناع عن مقاضاة كلينتون، ثم أثاروا التحقيق في التدخل الروسي لتخريب رئاسته. وأعلن أنَّ عُصبةً مُسْتَحْكَمة، بما فيهم أشخاصٌ عينهم هو، يعملون ضده.        

وقال ترمب الشهر الماضي في مداخلةٍ مع قناة Fox News: "هذه عملية استهداف لمجموعةٍ بعينها، كمطاردة الساحرات. وهم يعرفون ذلك. واستطعتُ أن أوصل هذه الرسالة".      

من جانبهم، بدأ أعضاء الكونغرس من الحزب الجمهوري بقيادة السيناتور ديفين ننز النائب الجمهوري عن ولاية كاليفورنيا في التدقيق في ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالي، بحثاً عن أي دليل قد يقوض التحقيق. ما زال الكثير من التحقيق مجهولاً وسرياً.

ولكن من اطلعوا على التحقيق عن قرب، وكثيرٌ ممّن راجعوا ملفات القضية العام الماضي، يقولون إنَّه بجانب ملاحقة ترمب كان يمكن لمكتب التحقيقات أن يفعل المزيد خلال الشهور الأخيرة من عام 2016 لتحري العلاقات المزعومة لحملته مع روسيا.

وقالت ماري مكورد، التي تعمل في وزارة الدفاع الأميركية منذ 20 عاماً، "لم أرَ أي شيءٍ يشبه الاستهداف أو يوحي بأنَّ النهج الذي يتبعه المكتب في التحقيق مدفوعٌ سياسياً". ترأست ماري مكورد فريق الادعاء المختص بقضايا الأمن القومي في معظم الأشهر التسعة الأولى من فترة التحقيق.              

وانتهت عملية الإعصار الجامح إلى قضيةٍ وجهت تهماً إلى مسؤولين سابقين بحملة ترمب الانتخابية وعشرات الروس. غير أنَّه في الأشهر الأخيرة من عام 2016، واجه عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي شكوكاً كبرى حول وقائع القضية وكيفية الاستجابة لذلك.      

قلقٌ داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي

بدأت عملية الإعصار الجامح تحديداً قبل 100 يوم من موعد الانتخابات الرئاسية، ولكن إذا كان العملاء حريصين على استجواب حملة ترمب مثلما أشار الرئيس، فالرسالة لا توحي بهذا. وكتب شتروك فور عودته من لندن: "لا أصدق أنَّنا نتحرى بجدية هذه المزاعم والعلاقات المتشعبة".

ويتذكر المسؤولون السابقون أنَّ الاجتماعات الأولى سادتها أجواءٌ من التوتر؛ إذ كان العملاء قد انتهوا لتوهم من التحقيق في قضية كلينتون، واستعدوا لجلسات استجواب استمرت لأشهر بقيادة أعضاء من الحزب الجمهوري حول أسباب عدم إدانة كلينتون.

وكشف محققون في الكونغرس في شهر فبراير/شباط أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي استجوب خلال تلك الأشهر الأولى أربعة من المساعدين في حملة ترمب، ولم يُكشَف عن هوياتهم. لكن يقول مسؤولون حاليون وسابقون إنَّ هؤلاء الأربعة هم: مايكل فلين، وبول مانافورت، وكارتر بيج، وجورج بابادوبولوس. حقق العملاء بشأن كلٍ منهم بسبب وجود صلات واضحة أو الاشتباه في وجود صلات مع الروس.                

وتبيَّن أن فلين، وهو مستشار كبير، تقاضى من الذراع الإعلامي للحكومة الروسية مبلغ 45 ألف دولار مقابل الإدلاء بخطاب في 2015، وتناول الغداء على حساب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أما مانافورت، مدير الحملة، فضغط من أجل مساندة المصالح الروسية في أوكرانيا، بجانب عمله مع شريكٍ كُشِفَ أنَّه على صلةٍ بالمخابرات الروسية.          

وكان بيج، مستشار السياسة الخارجية، معروفاً جيداً لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي؛ إذ جنده سابقاً عملاء روس، ويُشتبه في أنَّه التقى أحدهم أثناء تواجده في موسكو خلال الحملة.        

وأخيراً، هناك بابادوبولوس، المساعد اليافع غير المتمرس الذي تسبب حديثه بينما كان مخموراً مع السفير الأسترالي في فتح التحقيق. وقبل ظهور الرسائل الإلكترونية المُخترَقة التي تخص المرشحة الديمقراطية على الإنترنت، بدا بابادوبولوس وكأنَّه يعرف مسبقاً أن روسيا تخفي في جعبتها فضيحة سياسية لكلينتون.      

وبنهاية أغسطس/آب، تبلورت أفكار مكتب التحقيقات الفيدرالي، بعد أن تشارك جون برينن معلوماتٍ استخباراتية مع كومي توضح أنَّ الحكومة الروسية هي من تقف خلف الهجوم على الانتخابات الرئاسية عام 2016. وبدأت الوكالات الاستخباراتية في التعاون للتحقيق في هذه العملية. وقال ثلاثة مسؤولون إنَّ فريق الإعصار الجامح كان جزءاً من هذه المجموعة، ولكنَّه عمل في الغالب بشكلٍ مستقل.                

وقال السيناتور مارك روبيو، النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا، إنّه عقب دراسته للتحقيق باعتباره عضواً من لجنة الاستخبارات بالكونغرس، لم يرَ أية أدلة على أنَّ فتح التحقيق مدفوعٌ سياسياً.

هفوات المحققين

بالعودة إلى الوراء، يقول البعض من داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الدفاع إنَّه كان يتعين على كومي توقع هبوب هذه العاصفة السياسية وحماية المكتب على نحوٍ أفضل. وتساءلوا لماذا جمع التحقيقات في قضيتي كلينتون وترمب في مقر المكتب، وليس في مكتبٍ ميداني.

وقالوا كذلك إنَّه لم يكن يجب عليه أن يسند التحقيقين لنفس الفريق، مشبهين ذلك بأنَّه مثل وضع نقطة الهدف في قلب مكتب التحقيقات. إذ أنَّ أي خطأ في أيٍ منهما سيجعل القضيتين والمكتب بأكمله عرضةً للانتقادات.  

وكشفت الصحيفة أن أخطاء كثيرة حدثت خلال التحقيق، عندما استدعى محققون داخليون أندرو مكابي، النائب السابق لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، لعدم صدقه حول التحاور مع صحفيين بشأن كلينتون؛ الأمر الذي عزز مزاعم ترمب أنَّه لا يمكن الوثوق بـمكتب التحقيقات الفيدرالي. وتبادل شتروك وليزا بيدج، المحامية في مكتب التحقيقات، رسائل تنتقد ترمب؛ ما منح الرئيس حين خرجت هذه الرسائل للعلن فرصة الاستناد إلى أدلة في اتهامه للمكتب بالتحيز.                           

وقال السيناتور روبيو، الذي راجع العديد من الرسائل والملفات الخاصة بالقضية، إنّه لم يرَ أي مؤشر على أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي أراد أن يُضعِف موقف ترمب. وأضاف: "ربما يكون هناك عملاء لديهم آراء سببت مشكلاتٍ لهم كما نرى الآن. لكن لمّ أرَ أدلةً حول ما إذا كان هذا جهداً ممنهجاً".          

جمعٌ حذِر للمعلومات الاستخباراتية

يمكن أن تستغرق تحقيقات مكافحة التجسس أعواماً من الزمن، ولكن إذا كان للحكومة الروسية تأثير على حملة ترمب، فقد أراد مكتب التحقيقات الفيدرالي معرفة ذلك بسرعة. وكان واحداً من الخيارات وأكثرَها مباشرةً هو إجراء مقابلات مع مسؤولي الحملة حول صلاتهم بروسيا.

قال مسؤلان سابقان إنَّ ذلك نوقش، ولكن لم تُتَّخذ إجراءاتٌ بشأنه، لأنَّ إجراء مقابلات مع الشهود أو استدعاء الوثائق يمكن أن يدفع بالتحقيقات أمام أعين الرأي العام، وهو تحديداً ما كان يحاول مسؤولو مكتب التحقيقات الفيدرالي تجنبه خلال أتون السباق الانتخابي  

وقالت سالي ييتس، وكيلة النائب العام السابقة، في مقابلةٍ لها: "إنَّك لا تتخذ إجراءات سوف تؤثر على الانتخابات بلا داعي". لم تناقش ييتس المسألة بمزيدٍ من التفاصيل، لكنَّها أضافت: "كان الناس حريصين جداً على أن يتيقنوا من أنَّ الإجراءات التي تُتَّخذ، فيما يتعلق بالتحقيقات، لم تُعلَن".

وقالت الصحيفة الأميركية إن كومي كان يُحاط علماً بمجرى التحقيقات الروسية إحاطةً منتظمة، إلا أنَّ مسؤولاً قال إنَّ هذه الإحاطات ركزت في الغالب على القرصنة والتدخل في الانتخابات. ولم يقدم فريق مكتب الإعصار الجامح سوى عدداً قليلاً من القرارات الحاسمة ليتخذها كومي.

وأصبح كبار المسؤولين على قناعةٍ بأنَّه من شبه المستحيل أن يجيبوا على أسئلةٍ تتعلق بالتواطؤ قبل يوم الانتخابات. وجعل هذا عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي أكثر حذراً. وقال مسؤولون إنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي حصل على سجلاتٍ هاتفية ووثائق أخرى باستخدام خطابات الأمن القومي، وهو نوع سري من أوامر الاستدعاء.

 وأجرى مصدر معلومات حكومي واحد على الأقل عدداً من المقابلات مع بيج وبابادوبولوس، حسبما قال مسؤولون حاليون وسابقون. وأصبح ذلك نقطةً مثيرة للخلاف السياسي، في ظل تساؤل حلفاء ترمب ما إذا كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يتجسس على حملة ترمب أو يحاول نصب شراك لمسؤولي الحملة.

وقال مكورد، الذي لم يكن سيناقش تفاصيل القضية، إنَّ "هناك دائماً درجة عالية من الحرص قبل اتخاذ خطواتٍ علنية في أي تحقيقات مكافحة جاسوسية. وكان من الممكن أن يأتي ذلك في مصلحة الرئيس هنا".

اتهامات بالخيانة

تظهر مثل هذه المناقشات التكتيكية في أحد نصوص شتروك الأكثر إثارة للجدل، والمُرسلة في 15 أغسطس/آب 2016 بعد مقابلةٍ في مكتب مكابي.

كتب شتروك: "أريد أن أصدق المسار الذي تجنبت أنت وضعه في عين الاعتبار في مكتب أندي، بأنَّه لن يُنتخَب بأي طريقة. لكنِّي خائف من أنَّنا غير قادرين على تحمل هذه المخاطرة. إنَّها تشبه بوليصة تأمين لحالة غير محتملة بأن تتوفى قبل أن تصل إلى الأربعين".

ويقول ترمب إنَّ تلك الرسالة كشفت مخططاً سرياً لمكتب التحقيقات الفيدرالي استجابةً لترشحه. وأخبر صحيفة Wall Street Journal قائلاً "سوف نتحرك إلى المرحلة 2 وسوف نُخرج هذا الرجل من المنصب. هذا هو مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي نتحدث عنه. إنَّها خيانة".

لكنَّ المحققين أخبروا المفتش العام شيئاً مختلفاً قليلاً. إذ قالوا إنَّ بيج وآخرين حبَّذوا وتيرة حذرة وأبطأ، ولا سيما لأنَّ استطلاعات الرأي تنبأت بهزيمة ترمب. وقالوا إنَّ أي شيء كانت مكتب التحقيقات الفيدرالي سيعلن عنه ستستفيد منه مزاعم ترمب حول مسار الانتخابات، التي تشير إلى أنَّ الانتخابات كانت مزورة.

واعترض شتروك بأنَّه حتى إذا كانت فرص ترمب بالفوز منخفضة، فالمخاطر كانت عالية لتبرير التقاعس. وجادل شتروك بالمثل لاتخاذ مسار أكثر عدوانية خلال التحقيقات مع كلينتون، وفقاً لأربعة مسؤولين سابقين وحاليين.

 إذ قال المسؤولون إنَّه اعترض على قرار وزارة العدل بمنح حصانة لمحامي كلينتون، والتفاوض من أجل الدخول إلى الأقراص الصلبة الخاصة بحواسيبها. وفضَّل شتروك استخدام أوامر التفتيش أو الاستدعاء بدلاً من ذلك. وفي كلتا الحالتين، خسر الجدال.

السياسة والتقاليد

لم تمنح بيروقراطية مكتب التحقيقات الفيدرالي أي أفضلية لعملائه. ففي يوليو/تموز، تواصل جاسوس بريطاني متقاعد يُدعى كريستوفر ستيل مع صديق من مكتب التحقيقات الفيدرالي، وأمدّه بتقارير تربط مسؤولي حملة ترمب بروسيا.

لكنَّ الوثائق دارت بين أفراد الهيكل التنظيمي لمكتب التحقيقات، حسبما قال مسؤولٌ سابق. ويقول محققون بالكونغرس إنَّ السجلات لم تصل إلى فريق الإعصار الجامح إلا في منتصف سبتمبر/أيلول.

كان ستيل يجمع المعلومات عن ترمب باعتباره محقق خاص يعمل لصالح Fusion GPS، وهي مؤسسة أبحاث تجارية ومعلومات استخباراتية إستراتيجية يمولها الديمقراطيون. لكنَّه اعتُبر أيضاً موثوقاً للغاية، نظراً إلى مساعدته العملاء على كشف غموض بعض القضايا المعقدة.

سافر العملاء في أكتوبر/تشرين الأول إلى أوروبا لمقابلته. لكنَّ ستيل كان قد شعر بالإحباط من الاستجابة البطيئة من جانب مكتب التحقيقات الفيدرالي. فبدأ في مشاركة ما توصل إليه مع صحفيين من صحف The New York Times، وThe  Washington Post ومجلة The New Yorker، وصحف أخرى خلال شهري سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، وفقاً لشهاداتٍ بالكونغرس.

لذا عندما كان العملاء يحاولون التأكد من المعلومات التي يملكها ستيل، بدأ الصحفيون في مهاتفة المكتب وسؤالهم حول النتائج التي توصلوا إليها. فإذا كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يعمل ضد ترمب، مثلما يؤكد، لكانت هذه فرصة للدفع بمعلوماتٍ محرجة إلى وسائل الإعلام قبيل الانتخابات.

لم يحدث ذلك. ولم تنشر أغلب وكالات الأنباء تقارير ستيل أو اهتمام مكتب التحقيقات الفيدرالي بها حتى الوقت الذي أعقب يوم الانتخابات.

وكان الكونغرس أيضاً يطرح مزيداً من التساؤلات. وقدم برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية، موجزاً لكبار المشرعين في الكونغرس خلال ذلك الصيف بشأن التدخل الروسي في الانتخابات، ومعلوماتٍ استخباراتية تفيد بأنَّ موسكو دعمت حملة ترمب؛ وهي نتيجة لم يُعلَن عنها قبل مرور أشهر. وصاح المشرعون من أجل الحصول على معلوماتٍ من كومي، الذي رفض الإجابة على التساؤلات العلنية.

ويرى الكثير من الديمقراطيين مفارقةً حزينة في هذه اللحظة. فبعد كل ذلك، تخلى كومي عن السياسة العامة، وناقش تحقيقات كلينتون مرتين علانيةً. غير أنَّه رفض المطالبات المتكررة بمناقشة تحقيقات ترمب.

فيما قال كومي إنَّه يندم على قراره بتوبيخ كلينتون لمّا وصفها بأنَّها "مهملة للغاية"، وحتى إن أعلن أنَّها لا ينبغي اتهامها. لكنَّه أصر على قراره بتنبيه الكونغرس، قبل أيامٍ من الانتخابات، بأنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي كان يعيد فتح التحقيقات في قضية كلينتون.

وبالرغم من ذلك، كانت النتيجة هي تخلي كومي عن كلٍ من السياسة والتقاليد في قضية هيلاري كلينتون، لكنَّه التزم جداً بالقواعد من أجل ترمب. وقال آدم شيف، النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا، والعضو الديمقراطي البارز في لجنة الاستخبارات بمجلس النواب، إنَّ ذلك وحده يثبت أن مزاعم ترمب المتعلقة بالظلم "تتعارض بشدة مع الحقائق، وتدمر ديمقراطيتنا".

التجسس قيد البحث

بدأ  فريق مكتب التحقيقات الفيدرالي المعني بقضية التدخل الروسي في الانتخابات في التركيز على أربعة مسؤولين في الحملة. ولكن في منتصف خريف 2016، تقدمت تحقيقات بيج إلى درجة أبعد. عرف العملاء بيج لسنوات. إذ حاول الجواسيس الروس تجنيده في 2013، وأنكر ذلك عندما حذره العملاء، حسبما قال ستة مسؤولين سابقين وحاليين. ووجدت تلك التحذيرات طريقها إلى الاستخبارات الروسية، لتترك العملاء في حالة شك من أنَّ بيج أبلغ جهودهم إلى موسكو.

واستناداً إلى المعلومات التي أوردها مكتب التحقيقات الفيدرالي والمعلومات التي كانت لدى ستيل، حصل المدعون العموميون على موافقة المحكمة بالتصنت على بيج، الذي لم يعد مع حملة ترمب.

وأصبحت تلك المذكرة مثار خلافٍ عميق، فضلاً عن أهميتها للجدالات المثارة من جانب الجمهوريين بأنَّ الهيئات الاستخباراتية استخدمت البحوث الديمقراطية استخداماً غير صحيح للمساعدة في تبرير التجسس على حملة ترامب. ويعيد المفتش العام النظر في هذه المزاعم.

ووقعت ييتس، وكيلة المدعي العام تحت إدارة الرئيس باراك أوباما، على أول مذكرة. إلا أنَّ الطلبات التالية وافق عليها أعضاء من إدارة الرئيس ترمب: وهم  دانا بوينتي، القائمة بأعمال المدعي العام، ثم رود روزنشتاين، وكيل النائب العام.

وبعد أشهر من التحقيقات، ظل بابادوبولوس لغزاً كبيراً. وكان العملاء يوشكون أن يغلقوا تحقيقاتهم حول فلين، حسبما قال ثلاثة مسؤولين سابقين وحاليين. (أثار فلين اهتمام مكتب التحقيقات الفيدرالي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 من خلال التوقيع على مقال رأي كُتب على ما يبدو نيابةً عن الحكومة التركية، واتصالاته الهاتفية بعدها مع السفير الروسي في ديسمبر/كانون الأول).

وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول، أقر مسؤولو إنفاذ القانون بالتحقيقات، استجابةً لتساؤلاتٍ من صحيفة The  New York Times، لكنَّهم حثّوا على التكتم. إذ قالوا إنَّهم دققوا بشأن بعضٍ من مستشاري ترمب، لكنَّهم لم يجدوا أي أدلة على تورطهم في القرصنة الروسية. وعَكَس ذلك الحذر المقال الذي نتج عن هذه التحديثات، ونشر في 31 أكتوبر/تشرين الأول، وقال إنَّ العملاء لم يكشفوا عن أي "علاقة مباشرة أو مقنعة بين ترمب وبين الحكومة الروسية".

وردت الحقيقة الرئيسية بالمقال، التي تفيد بأنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي فتح تحقيقاتٍ موسعة في العلاقات المحتملة بين الحكومة الروسية وحملة ترمب، في الفقرة العاشرة.

وبعد عامٍ ونصف، لم تتكشف أي أدلة علنية تربط بين مستشاري ترمب وبين القرصنة، أو بين ترمب نفسه وبين الجهود التخريبية من جانب الحكومة الروسية. إلا أنَّ النبرة التي كُتِبَ بها المقال وعنوانه الرئيسي "التحقيق مع دونالد ترمب، مكتب التحقيقات الفيدرالي لا ترى علاقة واضحة مع روسيا"، جعل التحقيقات التي كانت قد بدأت لتوها تبدو وكأنَّها قد انتهت.

ويقول الديمقراطيون إن المقال برَّأ ترامب تبرئةً استباقية، وأبطل أي فرص لإثارة تساؤلات بشأن العلاقات الروسية للحملة قبل يوم الانتخابات.

ومن جانب ستيل، أفقده ذلك الثقة في جهاز إنفاذ القانون الأميركي. وشهد غلين سيمبسون، مؤسس Fusion GPS،  على نفس الأمر خلال هذا العام، إذ قال "لم يكن يدري ما الذي يدور داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي. وكان هناك قلق من أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي كان يجري التلاعب به لغاياتٍ سياسية من قوم ترمب".

ضماناتٍ وسط الشكوك

قبل أسبوعين من تنصيب ترمب رئيساً للولايات المتحدة، أحاطه كبار المسؤولين الاستخباراتيين داخل برج ترمب في مانهاتن بقضية القرصنة الروسية والخداع. وأفادت تقاريرهم بأنَّ بوتين حاول زرع الفوضى في الانتخابات، وأضعف مكانة كلينتون، وساعد في نهاية المطاف في فوز ترمب.

ثم قابل كومي ترمب مقابلةً سرية، وكشف عن تقارير ستيل وحذر بأنَّ الصحفيين حصلوا عليها. وقال كومي إنَّه كان يخشى من جعل هذه المحادثة "على شاكلة موقف إدغار هوفر"، في ظل تقديم مكتب التحقيقات الفيدرالي معلوماتٍ محرجة للسيطرة على رئيسٍ منتخب.

وفي مذكرةٍ حديثة، كتب كومي أنَّه أكد لترمب بأنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي انتوى حمايته في هذه النقطة. وكتب حول وثائق ستيل: "قلتُ إنَّ وسائل الإعلام مثل CNN امتلكتها، وكانت تبحث عن خبرٍ مثير. قلتُ إنَّه من المهم أن نعطيهم الإذن ليكتبوا أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي كان لديه المواد".

لم يكن ترمب مقتنعاً، لا بمسألة روسيا ولا ضمانات كومي. وكان قد اتخذ قراره قبل أن يدخل كومي من باب الغرفة. فقبل ساعات، أخبر ترمب صحيفة The New York Times بأنَّ الأخبار المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات كانت تُدفَع عن طريق خصومه لصرف الأنظار عن انتصاره. وقال ما سرعان سيصبح عبارةً مفضلة: "إنَّه استهدافٌ سياسي على شاكلة مطاردة الساحرات".

 

 

علامات:
تحميل المزيد