قبل 70 عاماً، ازدحمت تُخوم قطاع غزة بعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين فرُّوا من القرى والمدن المجاورة بعد مذابح ارتكبتها العصابات الصهيونية ضدهم.
آنذاك، كانت ترتسم مشاعر الفزع والصدمة والبؤس في مزيج واحد على وجوه الفلسطينيين وهم يغادرون أراضيهم في محاولة للنجاة بأرواح أطفالهم ونسائهم.
وبعد 70 عاماً، يتكرر المشهد، ولكن السيناريو يختلف، فأحفاد اللاجئين كبروا وضاقت بهم مخيماتهم، وقرروا أنه آن أوان العودة، فحملوا دماءهم والغضب على وجوههم، وتوجهوا في مسيرات سلمية، بعشرات الآلاف في الاتجاه المعاكس هذه المرة إلى حدود غزة.
بداية هذه الرحلة، كانت قبل 45 يوماً، عندما انطلقت مسيرات "العودة الكبرى" قرب حدود غزة، بمشاركة عشرات الآلاف؛ للمطالبة بعودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم التي هُجِّروا منها عام 1948.
وفي تواصل لهذه المسيرات السلمية، التي تبلغ ذروتها الإثنين والثلاثاء 14 و15 مايو/أيار 2018، بالتزامن مع الذكرى الـ70 للنكبة الفلسطينية واحتفال الولايات المتحدة بنقل سفارتها لدى إسرائيل من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة- تجمَّع عشرات الآلاف من الفلسطينيين صباح الإثنين في 10 نقاط على الحدود الشرقية لقطاع غزة، وقرروا اجتياز الحدود، متوجِّهين لبلداتهم الأصلية.
وفي تفاصيل ذلك المشهد، أُغرقت الحدود بأصوات تكبيرات المتظاهرين وبدخان أسود ناتج عن إشعال مئات الإطارات. وبين أعمدة الدخان تلك، كان الفلسطينيون يرشقون القوات الإسرائيلية بالحجارة، لتردَّ الأخيرة بإطلاق رشقات من الرصاص الحي والرصاص المعدني المغلف بالمطاط ودفعات من قنابل الغاز المسيل للدموع.
وعلى بُعد أمتار قليلة من ذلك المشهد، احتشد متظاهرون آخرون في مجموعات كبيرة، وعندما حانت لحظة الصفر قبل ظهر الإثنين، تقدَّموا نحو السياج الأمني، ليقصُّوا جزءاً كبيراً منه ويجتازوا الحدود على وقع هتافات "الله أكبر".
حماس تطالب بتحقيق دولي في إنشاء الاحتلال "مناطق إعدام" بغزة: جريمة حرب وحشية وانتهاك لكافة الأعراف
مجزرة إسرائيلية "بشعة"
وفي تلك اللحظة، التي لم يختفِ فيها دخان الإطارات وقنابل الغاز، بعد اجتياز المتظاهرين السلميين للسياج الحدودي، في صورة مطابقة لنفير حجاج بيت الله الحرام- كانت قوات الاحتلال الإسرائيلية ترتكب مجزرة بشعة، فأمطرت الفلسطينيين بالرصاص الحي والمتفجر والمطاطي، ليتساقط منهم عشرات الشهداء والآلاف من الجرحى.
المسعفون والأطقم الطبية المرافقة للمسيرات كانت تحاول جاهدةً إنقاذ حياة المصابين، ولكن إمكاناتهم المتواضعة وأعدادهم القليلة لم تكن مُجدية إلى حد كبير أمام حجم المجزرة الإسرائيلية، ففي كل دقيقة كان هناك شهيد وعشرات الجرحى.
وارتفعت حصيلة القتلى إلى 41 فلسطينياً، الإثنين 14 مايو/أيار 2018، سقطوا برصاص الجيش الإسرائيلي، بحسب ما أعلنته وزارة الصحة بغزة في حصيلة جديدة. وأعلنت الوزارة في بيان صحفي، سقوط "52 شهيداً برصاص الاحتلال، من بينهم 7 أطفال وإصابة قرابة 2000 بجروح".
وفي صورة مرعبة تعكس حجم المذبحة الإسرائيلية، كانت بِرك من الدماء متناثرة على الأرض في موقع المظاهرات، وملابس الأطباء البيضاء صُبغت باللون الأحمر. وحتى الصحفيون، كان أمامهم مهمتان: تغطية المجزرة وإسعاف زملائهم المصابين، فهم كانوا في دائرة الاستهداف الإسرائيلية أيضاً، وسقط منهم 13 جريحاً.
حماس تطالب بتحقيق دولي في إنشاء الاحتلال "مناطق إعدام" بغزة: جريمة حرب وحشية وانتهاك لكافة الأعراف
"نفير" عام
وإضافة إلى مشاهد الدماء، تنوعت الصور على حدود غزة؛ فالشاب المقعد على كرسي متحرك (فادي أبو صلاح)، كان يحمل الحجارة ويلقيها تجاه الجنود، قبل أن يقنصه أحدهم برصاصة أودت بحياته.
وعلى مقربة منه، كانت مجموعة من الشبان ترفع الأعلام الفلسطينية على طول السياج الحدودي وهم يردِّدون هتاف "على القدس رايحين شهداء بالملايين".
وليس بعيداً عنهم، كان عجوز فلسطيني يستند إلى عكازه ويمشي متمهِّلاً باتجاه السياج الحدودي وهو يهتف "الله أكبر"، قبل أن تسقط بالقرب منه قنبلة غاز وتصيبه بحالة اختناق تسقطه أرضاً، ليحمله أحد الشبان باتجاه سيارة الإسعاف.
وعلى بُعد بضعة كيلومترات من موقع المجزرة، في غرب مدينة غزة حيث مجمع الشفاء الطبي، لا يُسمع هناك إلا أصوات سيارات الإسعاف ومكبرات الصوت بالمساجد التي تنادي بضرورة التبرع بالدم لإنقاذ حياة آلاف المتظاهرين المصابين.
وداخل مجمع "الشفاء"، أكبر مستشفيات القطاع، نصبت إدارة المستشفى خياماً بباحتها؛ في محاولة لاستيعاب الأعداد الهائلة من المصابين.
المساحة لم تكن العائق الوحيد أمام وزارة الصحة الفلسطينية، فالمستشفيات تكاد تخلو من الأدوية والمستلزمات الطبية اللازمة للحفاظ على حياة المصابين وأعداد الأطباء قليلة؛ ما دفع المسؤولين بالوزارة لمناشدة السلطات المصرية إدخال الأدوية والمستهلكات الطبية اللازمة على وجه السرعة، وإيفاد أطباء إلى القطاع قبل أن ينهار القطاع الصحي بأكمله.