بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أن بلاده ستنسحب من خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA)، المعروفة بالاتفاق النووي، سارعت تركيا إلى رفض هذه الخطوة في خمس تصريحات حتى اللحظة.
ففي أول رد تركي رسمي، يوم الثلاثاء 8 مايو/أيار، قال المتحدث باسم رئاسة الجمهورية إبراهيم كالن إن قرار ترمب سيتسبب بعدم الاستقرار، وبصراعات جديدة، وإن الاتفاق النووي متعدد الأطراف يجب أن يظل سارياً، بالنظر إلى مشاركة الدول الأخرى، مؤكداً أن "تركيا ستحافظ على موقفها الثابت تجاه كل أشكال الأسلحة النووية".
ووصفت وزارة الخارجية التركية، في بيان لها، الانسحابَ الأميركي بأنه "مؤسف"، ودعت إلى حماية الاتفاق النووي، ومواصلة تنفيذه بشفافية كاملة تحت إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقالت إن التقارير الدورية للوكالة أكدت التزام إيران ببنود الاتفاق.
وأعلن الوزير التركي لشؤون الاتحاد الأوروبي عمر تشليك، أن القرار الأميركي سيفتح المجال لتطورات "سيئة جداً"، مشيراً إلى أن اتخاذ هذا القرار رغم عدم وجود أدلة على انتهاك إيران للاتفاق، يعني أن الولايات المتحدة تسلك اتجاهاً معاكساً لحلفائها.
وفي صباح اليوم التالي، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لشبكة سي إن إن الأميركية، إن الولايات المتحدة لم تفِ بالاتفاق الذي توصَّلت إليه، وإنها ستكون الخاسرَ من قرار الرئيس دونالد ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.
يعود التحفظ التركي على القرار الأميركي إلى المحاولات الحثيثة لتركيا للحفاظ على علاقات براغماتية جيدة مع الجارة الفارسية، وفيما يلي نتناول خلفية هذه العلاقة فيما يخص الملف النووي.
مخاوف اقتصادية تركية
بالأمس، تحدى وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي تهديدات ترامب للدول التي تملك تعاملات تجارية مع إيران، وقال إن بلاده ستمضي قدما في تجارتها مع إيران بقدر المستطاع، ولن تكون خاضعة لمحاسبة أي طرف آخر".
وفي حديث لعربي بوست، ذكر الباحث والمحلل السياسي علي باكير أن تركيا تنظر إلى الاتفاق النووي بشكل إيجابي، وذلك لأنها قد تضطر إلى الدخول في المجال النووي، وبالتالي يكون اتفاق إيران جيدًا بالنسبة لها.
وذكر باكير أن أنقرة وطهران تعملان حاليا على عدد من الملفات الإقليمية، وبالتالي يكون إلغاء الاتفاق تصعيدًا مع إيران، ستكون له انعكاساته على السياسة التركية، التي ستكون مطالبة لاحقا باتخاذ موقف من الطرفين: "إما معنا أو معهم".
ومن ناحية ثالثة، فإن العقوبات، حسب باكير، ستكون لها انعكاسات على التعامل الاقتصادي من ناحية أخرى، حيث ستقيد تركيا إذا غامرت واشتغلت تحت الطاولة.
ورأى مراسل صحيفة ديلي صباح في واشنطن، رغب صويلو، أنه في حال أعاد ترامب فرض العقوبات على إيران، فإن ذلك سيخلق أزمة أخرى مع تركيا، وذلك بالنظر إلى حجم التجارة الكبير بين أنقرة وطهران، خاصة في قطاع الطاقة، مشيرا إلى أن "العودة إلى فترة ما قبل الاتفاق النووي ستكون إشكالية بالنسبة لأنقرة".
وأشار الخبير الاقتصادي الإسباني دانييل لاسال إلى أن إيران تصدر 95٪ من نفطها إلى الدول الآسيوية أو الأوروبية أو تركيا، وأن أيًا من هذه الدول لن تتبع الولايات المتحدة في إلغائها للاتفاق الإيراني.
Iran Ships 95% of Its Oil to Asia, Turkey and Europe.
None of their client nations will follow the U.S. cancellation of the Iran deal
— Daniel Lacalle (@dlacalle_IA) May 8, 2018
وفي عام 2017، بلغ حجم التجارة البينية بين تركيا وإيران 10.7 مليار دولار، بفائض قدره 4.3 مليار دولار لصالح إيران. ويسعى البلدان إلى إيصال حجم التجارة بينهما إلى 30 مليار دولار، وحيث أن تركيا تعتمد على الطاقة والغاز الإيرانيين، فإنها تحتاج السياح والتجار الإيرانيين.
العدالة والتنمية وإيران
على الرغم من وجود الملف النووي الإيراني على الأجندة الدولية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، فإنه لم يدخل إلى أجندة السياسة الخارجية التركية حتى العقد الماضي، حين أعلنت قيادات في حزب العدالة والتنمية، مثل عضو لجنة الصداقة التركية الإيرانية في البرلمان أحمد إينال- دعم حق إيران في الحصول على السلاح النووي.
يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى ملف الطاقة الحيوي في العلاقات التركية الإيرانية، إذ كانت تركيا تستمد من إيران في ذلك الحين 12% من احتياجاتها من الغاز (هذه النسبة أصبحت 16.6% في 2017). ثانياً، يُعتقد أن الخلفية الفكرية للعدالة والتنمية تسهم في التقارب مع الجمهورية الإسلامية، وتتمثل في دعوة أردوغان المستمرة إلى التعاون بين 57 دولة إسلامية.
ولكن ربما يكون ما أثار حفيظة الأتراك غير ذلك، وهو ذكرى الإخلال الغربي بالاتفاق النووي، الذي توسطت للتوصل إليه في عام 2010 كلٌّ من تركيا برئاسة أردوغان، والبرازيل برئاسة لولا دا سيلفا.
أنقرة عرّاب الاتفاق النووي الأول
أُدرج الملف النووي كقضية ساخنة في وثيقة الأمن الوطني التركي لعام 2005، لكن أنقرة حاولت عدمَ الانحياز إلى الولايات المتحدة أو إيران، لخشيتها من حدوث مواجهة عسكرية أميركية إيرانية، تُضاف إلى الغزو الأميركي للعراق، مما يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.
اعتقد صناع القرار الأتراك في ذلك الحين أن المصالح التركية تتعرض للخطر بسبب النزاع المربك حول البرنامج النووي الإيراني، وأن التدخل التركي في حل هذا النزاع سيضمن حماية هذه المصالح، فحولت تركيا دورها من مراقِب (observer) إلى مُيَسّر (facilitator)، ومن ميسر إلى وسيط (mediator) في هذا النزاع.
رحَّبت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بالوساطة التركية، ودعا مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي تركيا إلى تقديم الدعم الدبلوماسي لإقناع إيران بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، الأمر الذي نجحت فيه أنقرة.
في محادثات فيينا في أكتوبر/تشرين الأول 2009، اقترح البرادعي إيداع اليورانيوم المخصب الإيراني في تركيا، مقابل توفير مجموعة دول 5+1 (الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا) اليورانيوم المطلوب لإنتاج الكهرباء، وفي مايو/أيار 2010، وافقت إيران على الاتفاق الذي توسطت فيه تركيا والبرازيل، وأقنعت حتى الصين وروسيا بالتصويت لصالح عقوبات على إيران في حال عدم التزامها.
لكن مجموعة فيينا رمت بالاتفاق عرض الحائط، بذريعة عدم شمول الاتفاق لليورانيوم المخصب في فترة المفاوضات، وقالت إن موافقة إيران "خطوة تكتيكية، للإيهام بأنها مستعدة لاستخدام المواد النووية لأهداف سلمية"، وأعلنت فرض حزمة جديدة من العقوبات على إيران.
وزير الخارجية التركي في ذلك الحين، أحمد داود أوغلو، أعلن أن رفض مجموعة فيينا لاتفاق تبديل اليورانيوم المخصب، حرم إيران حتى من حقها في إنتاج الطاقة النووية السلمية، واتّهمها بأنها تجاهلت شائعات امتلاك إسرائيل لأسلحة نووية. ومنذ ذلك الحين، زادت كثافة انتقادات حكومة العدالة والتنمية للترسانة النووية الإسرائيلية، وللموافقة الضمنية الأميركية عليها.
محاولة تركية أخرى
وفي إسطنبول، في أبريل/نيسان 2011، حاولت تركيا مرةً أخرى التوسط في محادثات متعددة الأطراف بشأن البرنامج النووي الإيراني، حيث مثلت مجموعة 5+1 الممثلة العليا للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي كاترين آشتون.
اشترطت إيران في هذه المحادثات رفعاً مسبقاً للعقوبات الأممية، وهو شرط رفضه الجانب الآخر، بل خرج بآلية جديدة لتقييم العقوبات والحاجة المحتملة لزيادتها.
ورغم وصف محادثات إسطنبول بأنها فرصة تاريخية للمسؤولين والأكاديميين الأتراك والإيرانيين، إلا أنها انتهت دون تحقيق نتيجة ملموسة.
وبالتالي، عندما أُعلِنَ التوصل إلى الاتفاق النووي الأخير، في يوليو/تموز 2015، كان من الطبيعي أن تسارع تركيا إلى تأييده ودعمه، وهذا ما يفسر الانزعاج التركي تجاه إعلان ترمب انسحابه.