إنَّ علامات الأثر التركي حاضرةٌ في كلِّ مكانٍ ببلدة جرابلس السورية. يرتدي الأطباء أرديةً تحمل اسم وزارة الصحة التركية، وتتكدَّس بمحلات البقالة صناديق من البسكويت تركي الصنع، كذلك يوجد فرعٌ لهيئة البريد التركية بلونه الأصفر المميز.
وقد خضعت تلك المنطقة، الواقعة شمال الدولة السورية التي مزَّقتها الحرب، للسيطرة التركية منذ عام 2016، عندما اندفعت المعارضة السورية، المدعومة من قِبل أنقرة، إلى البلدة، وأجبروا جهاديي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، الذين استبدُّوا بالسكان المحليين مدة 3 أعوام، على الفرار.
تلك البلدة هي الآن رمزٌ للنفوذ المتزايد الذي تمارسه تركيا في منطقة شمال سوريا. ويقول المسؤولون إنَّها "نسخةٌ مُصغَّرةٌ من مُخطَّط" شكَّل ما سيؤول إليه النفوذ التركي بعد أن وضعت الغارات العسكرية 4 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي السورية تحت سيطرة أنقرة، وقد كانت أحدثها مقاطعة عفرين الكردية.
هل يجرُّ الوجود التركي في المنطقة أنقرة إلى التزام صعب؟
يقول مُحلِّلون إنَّ الوجود التركي في المنطقة، يخاطر بإثارة الاستياء والتوتُّر، وقد يجرُّ أنقرة إلى التزامٍ صعب ومكلِّف. كذلك، تخيِّم ظلال اندلاع نزاعٍ مُحتَمَل مع القوات الكردية، المدعومة من قِبل الولايات المتحدة والواقعة على بُعد 3 كيلومترات فقط من مناطق الوجود التركي.
لكن في الوقت الراهن، فإنَّ تركيا فخورة بدورها الحالي، وحريصةٌ على أن يراه العالم. عندما زار صحفيون مدينة جرابلس الأسبوع الماضي، في رحلةٍ نظَّمها مسؤولون أتراك، عبَّر العديد من السوريين هناك عن امتنانهم للمجهودات التركية. وقالت أميرة نجَّار، وهي مُعلِّمة: "الرأي العام هنا هو أنَّ تركيا تساعدنا. لا ينظر إليهم الناس بصفتهم قوة محتلة. نحن نأمل أن يظلُّوا موجودين"، بحسب ما نقلته صحيفة Financial Times البريطانية.
أدرَّت تركيا موارد ضخمة إلى المنطقة على مدار الأشهر الـ18 الماضية. فقد ساعدت الوزارات التركية في ترميم المباني المُتضرِّرة، وأنشأت مستشفى وعياداتٍ صحية، وأعادت فتح المدارس. وتدفع أنقرة رواتب المئات من المُعلِّمين، والأطباء، والشرطيين. وجرى مدُّ كابل بطول 3 كيلومترات عبر الحدود لإمداد جرابلس بالكهرباء.
وفي مجمَّعٍ سكني مطوَّق بجدرانٍ خرسانية وبواباتٍ حديدية على حدود البلدة، يشرح مسؤولون منتدبون من قِبل تركيا كيف ينظرون إلى المهام الموكلة إليهم في سوريا. وقال أحمد تورغاي، نائب محافظ مدينة غازي عنتاب التركية، وقد عمل يسوريا 9 أشهر: "لم يكن هنا سوى الفوضى والحرب، والآن بدأ الناس يشهدون أموراً جيدة".
كان الهدف الأساسي للعملية التركية، المعروفة باسم "درع الفرات"، هو منع القوات الكردية -التي استخدمتها قوات الغرب لمحاربة داعش، لكن تراهم تركيا بصفتهم إرهابيين- من تحقيق أية مكاسب أخرى على امتداد المنطقة الحدودية. لكنَّ الرئيس رجب طيب أردوغان قال كذلك إنَّه يريد التعجيل بعودة 3.5 مليون لاجئ يعيشون حالياً في تركيا، وقد مثَّلوا ضغطاً قائماً على المدن التركية وسبَّبوا استياءً متزايداً من جانب الأتراك.
ووفقاً لما قاله المسؤولون، فقد تضخَّم تعداد سكان منطقة جرابلس بعد أن كان نحو 5000 آلاف شخصٍ تحت سيطرة داعش، ليبلغ اليوم 140 ألف شخص. ويتضمَّن قاطنو المدينة اليوم سوريين عائدين من تركيا، بالإضافة إلى نازحين داخلياً من مدنٍ وقرى أخرى في سوريا.
ماذا يفعل الأتراك في جرابلس؟
ويقول مسؤولون أتراك إنَّ دورهم في جرابلس استشاريٌّ بحت، يساعدون من خلاله مجلس السوريين المُعيَّنين لحُكم المدينة. لكنَّ الأمر لم يخلُ من التوتُّر؛ إذ اندلعت مظاهراتٌ الأسبوع الماضي؛ رداً على قرارٍ بمنع المُعلِّمات من ارتداء النقاب. كذلك، أثار مقطع فيديو للشرطة المحلية التي درَّبتها تركيا، وهم يُردِّدون شعارات مؤيدة للرئيس التركي، سخطاً محلياً.
لكن عبد اللطيف المحمد، وهو عضوٌ بالمجلس المحلي، قال إنَّ تلك الحوادث الصُغرى قد جرت تسويتها. وأصرَّ على أن زمام الأمر ما زال في يد السوريين. وقال: "لا يُمكن لشيءٍ أن يحدث دون موافقتنا. نحن نتخذ قراراتنا لأنفسنا".
ومع ذلك، فإنَّ الأثر التركي ظاهرٌ في كلِّ مكان. تجد في ملعب إحدى المدارس ملصقاً يخلِّد ذكرى محاولة الانقلاب التركي عام 2016. وتعلَّم الصبية في الشوارع الإشارة بأيديهم بعلامة الذئب الرمادي القومية فيما يمر الجنود الأتراك أمامهم.
ويمثِّل الأمن أكبر تحديات البلدة؛ إذ هزَّت المنطقة سلسلةٌ من التفجيرات، ألقى مسؤلو الأمن اللوم في وقوعها على الميليشيات الكردية المجاورة.
ويقول سوريون إنَّهم قلقون مِن كم الأسلحة المنتشرة، ومن مجموعات المعارضة السورية بأرجاء البلدة. وتجري محادثاتٌ بشأن مغادرتهم المدينة، لكنَّ الواضح أنَّ الأمر سيستغرق وقتاً حتى تُقيَّد سلطتهم فيها. وقال محمد عيسى، وهو عنصرٌ من الشرطة المدنية المُدرَّبة على يد تركيا: "نحن قائمون على هذا الأمر. سيتحقَّق خطوةً بخطوة".
جرابلس.. أغلب سكانها من العرب السنة
قد تنظر تركيا إلى جرابلس باعتبارها نموذجاً لحُكمها في سوريا، لكنَّها أيضاً الأبسط بين المدن الخاضعة لسيطرتها. وبخلاف المناطق الأخرى، تعرَّضت جرابلس لحدٍ أدنى من الدمار. وسكانها في أغلبهم هُم من العرب السنَّة. كذلك، تقع مباشرةً على الحدود التركية، ما يحد من التحديات اللوجيستية التي قد تواجهها.
ومع ذلك، يوجد العديد من المشاكل؛ إذ تحظى القرى التابعة للمدينة بإمدادٍ محدود من الكهرباء ولا تصل لها مياه جارية، وما زال هناك 20 ألف شخصٍ على الأقل يعيشون في الخيام.
قد تتفاقم التحديات أكثر بالنسبة لتركيا. وقد هدَّدَ أردوغان مراراً بالهجوم على المناطق المجاورة والخاضعة لسيطرة القوات الكردية ورُعاتهم الأميريكيين، ما قد يضع بدوره دولتين عضوتين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) على مسارٍ تصادمي. ويوجد الطرفان المتضادان أحدهما على مقربةٍ من الآخر، لدرجة أنَّ جماعات المعارضة في جرابلس تقول إنَّ بإمكانهم رؤية المركبات العسكرية الأميركية على مد النظر.
وقد أصرَّ أردوغان أنَّ على تركيا لا تنوي الاستيلاء على أية أراضٍ سورية. ومع ذلك، يعترف المسؤولون الأتراك بأنَّ رحيلهم قد يستغرق عدة أعوام، حتى وإن تبدو عليهم اللامبالاة تجاه مخاطر التورُّط في التزامٍ غير محدود المدة، أو تبدُّل الميول المحلية تجاههم.
وإلى الآن، فإن كثيراً من السوريين يشعرون بالعرفان؛ لكونهم آمنين من الرئيس السوري بشار الأسد و"داعش" معاً. وقالت أم أوهان شعبان، وهي جدَّة تقطن ببلدةٍ خارج جرابلس: "لا نملك خياراً بخصوص وجود تركيا هنا. لكن، لو قارنت بين الحياة الآن والوقت الذي قضيناه تحت حُكم داعش، فإنَّ الوضع الراهن رائع".