مدن ليست على الخريطة!.. 3 أماكن خفية كانت وراء صنع أول قنبلة نووية في العالم.. وهذا ما كشف السر

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/04 الساعة 20:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/04 الساعة 21:21 بتوقيت غرينتش

حدث شيء غريب في ولاية تينيسي بالولايات المتحدة الأميركية عام 1943. إذ تدفق آلاف العمال الشباب نحو موقع تبلغ مساحته 59 ألف فدان،غرب نوكسفيل، ثم تبعتهم كميات هائلة من المواد الخام لم تظهر مرة ثانية. بُنيت المنازل والمرافق في سرعة قياسية. ورغم ذلك، فمدينة أوك ريدج رسمياً لم توجد أبداً خلال الحرب، ولم يُعثر عليها على أي خريطة، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية

وتساءلت الصحيفة البريطانية قائلة ماذا كان يحدث هناك؟ عرف هذا عدد قليل من الناس حينها، حتى من السكان. والإجابة كانت أن هذه نقطة انطلاق لسباق ضد أدولف هتلر لبناء قنبلة نووية.  

3 مدن سرية

كانت مدينة أوك ريدج واحدة من ثلاثة "مدن سرية" في مشروع مانهاتن، بالإضافة إلى لوس أنجلوس في نيو مكسيكو، وهانفورد، ريتشلاند في ولاية واشنطن.

احتل المدن الثلاثة أكثر من 125 ألف عالم، وتقني، وأفراد من فرق الدعم بنهاية الحرب. هناك صورة لسانتا كلوز أثناء تفتيشه على بوابات أوك ريدج، ونشرة إخبارية محلية مختومة بكلمة "محدودة". كل من كان عمره 12 عاماً أو أكثر كان عليه ارتداء شارة هوية شخصية. كان استخدام كلمات مثل "ذري"، و"يورانيوم" محظوراً خوفاً من العدو، كما تقول الصحيفة البريطانية.

رغم ذلك، كانت الجوانب الاجتماعية هناك مألوفة جداً، حتى المجتعات المُخطط لها، والتي حاولت أن توفر للمقيمين فيها أسلوب حياة مثالياً، والتي ربما قد أثرت على البناء الحضري والتصميم في أميركا بعد الحرب، استنسخت الفصل العرقي العنصري الذي تميزت به هذه الحقبة.

يقول مارتن مولر، وهو القائم على معرض "المدن السرية: العمارة والتخطيط في مشروع مانهاتن"، الذي سيفتح أبوابه يوم الخميس المقبل في متحف البناء الوطني بواشنطن: "لكن قبل مرور وقت طويل، تبدأ في رؤية الأشياء الغريبة بطرق مختلفة، وأحياناً فكاهية".

وضرب مثالاً إذ قال: "القيادة بمحاذاة الفندق الرئيسي في أوك ريدج ورؤية أن الحانة واستراحة الفندق هناك يسميان بغرفة المفاعل. تبدأ في رؤية الرموز النووية على المباني العشوائية حول المكان، وأيضاً الوصول لفهم أن هذه لم تكن فقط مجتمعات نموذجية نمت بطريقة عشوائية، بل ثمة أثر واضح لتصميم مدروس حتى في بداية وجودها"، كما تقول The Guardian.

كان هذا في أواخر عام 1942، أي أقل من عام بعد أن دخلت الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية، حين بدأ فريق مهندسي الجيش الأمريكي بهدوء في الحصول على مساحات شاسعة من الأرض في مناطق بعيدة في الولايات الثلاثة. كان السكان القليلون في هذه المناطق قد طردوا دون سابق إنذار، وهُدِمت منازلهم.

آلاف المباني نصبت سريعاً

وبحسب الصحيفة البريطانية سرعان ما وصل آلاف العمال الشباب من كل حدب وصوب، في البداية، أقاموا الخيام، وصنع آخرون ملاجئ مؤقته ضمن حدود المحميات العسكرية المخصصة حديثاً. بمنأى عن أنظار العامة بسبب العوائق الطبيعية والأسوار الأمنية، نصب العمال بسرعة آلاف المباني، بدءاً من المنازل مسبقة الصنع، وحتى الأبنية الصناعية على نطاق لم يسبق له مثيل.

كان الهدف فريداً من نوعه. فبمعرفة أن النازيين كانوا يسعون وراء الأسلحة النووية – رغم أنهم لم يكونوا بعيدين كما كان يُعتَقَد في هذا الوقت –  كانت الولايات المتحدة تستثمر مالاً وقوة بشرية لا تُصدَق لصناعة هذا النوع من الأسلحة قبلهم. لا يمكن أن يكون السبب أكثر إلحاحاً من هذا.

ويفسر مولر الذي زار أوك ريدج  للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، عندما كان والد زوجته فيزيائياً نووياً في المختبر النووي هناك: "رغم ذلك، أخذ في الاعتبار أثناء بناء هذه المجتمعات، أهمية إنشاء مساكن في بيئات مريحة للناس الذين قد يعملون لصالح العلماء والمهندسين الذين يقومون بهذا العمل المهم".

ويتابع: "كان هناك اتفاق على أنهم احتاجوا للشعور بأنهم في بيوتهم. احتاجوا للحصول على مجتمع يبدو "عادياً". لذا خلال هذا الوقت الذي أُعلِنت فيه حالة الطوارئ على مستوى البلاد، بَنَت حكومة الولايات المتحدة منازل عائلية منفردة في مكان يمكن أن نعتبره الآن أحياء ضواحي نموذجية، بدلاً من وضع كل هؤلاء الناس في مهاجع وثكنات كما أعتقد أن أي دولة أخرى في العالم كانت لتفعل في ذلك الوقت. هذا وحده في نظري كان أمراً استثنائياً"، بحسب الصحيفة البريطانية.

ويضيف: "هذه المدن حقاً كانت تضع أساساً للأفكار الناشئة عن التخطيط الهندسي للمدن، والبناء. في حالات عديدة، كانوا حركة مستمرة لما كان موجوداً بالفعل".

بنيت أكبر المدن السرية، أود بريدج، من الفراغ في نصف عام لصناعة الوقود للقنبلة النووية، وكانت مُتخيلة في البداية كمدينة لـ13 ألف شخص لكن العدد نما ليصير 75 ألفاً بنهاية الحرب. صمَّمت الأبنية شركة سكيدمور وأوينغس وميريل (SOM)، وهي الآن واحدة من أكبر شركات الهندسة المعمارية، وأكثرها تأثيراً في العالم. ورغم أن أوك ريدج بدت في عزلة عمَّا حولها، كانت أيضاً تعبيراً دقيقاً عن حال العالم وقتها.

الفصل العنصري موجود

 

ويتابع مولر للصحيفة البريطانية: "مع أن المدن كانت مُتخيلة كمجتمعات تقدمية، فقد أراد مصمموها حقاً أن يقيموا أماكن نموذجية رائعة لتكبر فيها العائلات، لكن الفصل العنصري كان سمةً أساسيةً فيها. كان الفصل العنصري في نظر مصممي هذه المدن وسكانها حقيقةً من حقائق الحياة، وكانت هناك مشكلات عرقية ضاربة في جذور هذه المجتمعات.

خطة شركة شركة SOM المبدئية كانت تهدف إلى إنشاء "قرية للسود" في الطرف الشرقي من المدينة، أبعد ما يكون عن مواقع العمل، والتي كان يُفتَرَض أن تضم بيوتاً قريبة من البيوت المقدمة للمقيمين البيض. لكن بما أن أوك ريدج كبرت بسرعة أكثر من المتوقع، عُدِل عن هذه الخطط، ونقل معظم السكان الأميركيين الإفريقيين إلى أكواخ بدائية من الخشب الرقائقي أفضل قليلاً من الخيم.

كانت تلك الأكواخ تتجمد في الشتاء – والتسخين فيها بمواقد بدائية – وقائظة الحر في الصيف، ولا يتمتع سكانها بقدرٍ جيدٍ من الخصوصية، وافتقرت إلى السباكة الداخلية، لذا اضطر السكان إلى استخدام مراحيض جماعية. حتى المتزوجون لم يُسمَح لهم بالعيش معاً في مخيمات الأكواخ، وكان المقيمون يتعرضون باستمرار لمراقبة السلطات الأمنية أكثر من هؤلاء الذين يعيشون في الأحياء الأكثر استقراراً، بحسب الصحيفة البريطانية.

بنهاية الحرب، انتقلت معظم عائلات البيض خارج الأكواخ، وبتقلص عدد السكان، ذهبوا إلى منازل أكثر استقراراً. لكن العديد من العائلات الأميركية السوداء اضطرت للعيش في هذه الأكواخ حتى مطلع الخمسينيات.

كان هناك تطور على أية حال. يقول مولر: "في فترة ما بعد الحرب، استقرت أوك ريدج كمكان مليء بالأكاديميين من ناحية، والمتعلمين جيداً من ناحية أخرى، وكانت واحدة من المدن الرائدة في حركة إلغاء الفصل العنصري في الجنوب. في الحقيقة، اثنتان من أوائل المدارس العامة التي ألغت الفصل العنصري في الجنوب كانتا في أوك ريدج. حتى أن أوك ريدج هددت بالانفصال عن تينيسي بسبب إلغاء التمييز. لذا كان هناك تطور سريع نسبياً".

كشف سر المدينة

وبحسب الصحيفة البريطانية حين ألقت الولايات المتحدة بالقنبلة النووية على هيروشيما في اليابان عام 1945، أدى قتل عشرات الآلاف من البشر إلى إنهاء الحرب، وكُشف سر المدينة. احتفل العديد من السكان. وصرحت جريدة أخبار محلية قائلةً: "القنبلة النووية الخارقة المصنوعة في أوك ريدج تضرب اليابان"، وقالت أخرى: "أوك ريدج تهاجم اليابان.. تحمس العمال بكشف سر القنبلة النووية، ووصفت قصص الصحافة والراديو السلاح بكونه "خارق القوة"، وتوقعت أن ينقذ حيوات كثيرة".

على كل، لم يكن الجميع مبتهجاً. إذ يُقتبس في المعرض عن ماري لوي ميشيل، وهي عاملة كتابة في أوك ريدج إنها قالت: "الليلة التي قالت فيها الأخبار إن القنبلة ألقيت، كان هناك احتفالات مبهجة في الشوارع، استمر عناق وقبلات ورقص وموسيقى حية وغناء لساعات وساعات. لكن أزعجني أن أعرف أنني، بشكل غير مباشر، شاركت في شيء مماثل، وجلست في غرفة سكني، وبكيت".

وبقيت المدن الثلاث جزءاً من المجمع الصناعي العسكري، وتابعت العمل على الأسلحة النووية خلال الحرب الباردة بالإضافة لبحوث علمية أوسع، والآن أوك ريدج متعمقة بشدة في الطاقة المتجددة. نجت الثقافات الفرعية الفريدة التي نمت فيها خلال سنواتها المبكرة من العزلة.

ويُبدي مولر ملاحظة إذ يقول: "هؤلاء الناس كان عليهم بطرق عدة أن يلتزموا ببناء ثقافتهم الخاصة، ومن المثير للاهتمام حتى هذه الأيام، أن بعضاً من شركات المسرح الصغيرة، والفرق الموسيقية التي شُكلت خلال الحرب العالمية الثانية ما زالت موجودة، وتعمل كمنظمات ثقافية مجتمعية في هذه المدن"، بحسب الصحيفة البريطانية.

وتشمل هذه الثقافات "الثقافة الذرية"، أو بطريقة أخرى، الكوميديا السوداء. في واحدة من أكثر أماكن تناول الطعام شهرةً في أوك ريدج، عُلِّقت على الحائط صورٌ لغيوم دخانية من النوع الذي يتشكَّل بعد التفجيرات الذرية، ويضم شعار مدرسة ريتش لاند الثانوية غيمةً دخانيةً مماثلةً. ويقول ميلر: "هناك صور للرموز الذرية وما إلى ذلك، وأود أن أشير سريعاً إلى أن هذا ليس نتيجةً لقسوة قلوب السكان في هذه المجتمعات".

ويتابع: "إنهم يدركون خطورة العمل الذي جرى في هذه الأماكن خلال الحرب وبعدها في الحرب الباردة. لكنه نوع من المزاح كالذي يتبادله الأطباء في غرف الطوارئ؛ فالأطباء مشهورون بعدم تحفُّظهم في تبادل المزاح عن الحالات الطبية التي يعالجونها. هذه هي الطريقة التي يتعاملون بها مع خطورة ما يقومون به".

تحميل المزيد