حالة الولع بدبي ومحاولة تقليد نمطها المعماري يبدو أنها انتقلت من الشرق الأوسط إلى قلب أوروبا، ولكن الأمر يواجَه بمقاومة من السكان والمعماريين المحليين هناك.
فالآن أحد أكبر مشروعات التنمية الحضرية في أوروبا لا يستمد إلهامه، فقط من دبي؛ بل يعتمد على الاستثمارات والشركات الإماراتية لتحديث بلغراد، عاصمة صربيا العريقة التي عانت طويلاً الحروب.
ولكن هذا المشروع الضخم، الذي تقدَّر استثماراته بـ3.6 مليار دولار، والمسمى "Belgrade Waterfront-واجهة بلغراد المائية"، تسبب في جدل كبير واحتجاجات بالبلاد.
إذ يتسم بالبذخ ويُنظر إليه على أنه العمود الأساسي لخطة رسمتها طبقة النخبة المسيطرة على مقاليد الأمور في صربيا، لتحويل المدينة العجوز إلى "دبي البلقان"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
القُرحة المزعجة تمنح البلاد هوية جديدة وتنهي عزلتها
منذ عشرينيات القرن العشرين، كانت منطقة الواجهة البحرية حول محطة القطار الرئيسية بمثابة "قرحة" لبلغراد، حسب وصف موقع مجلة The Forbes الأميركية.
كانت ثقباً فارغاً مزعجاً في وسط المدينة، وقد تم اقتراح العديد من المبادرات على مدار السنين لإنشاء مركز اجتماعي وتجاري جديد، وتحفيز الاقتصاد المحلي، فضلاً عن الاستفادة ببساطة من منطقة مركزية مهملة.
وبات المشروع، الذي يقضي بإنشاء ناطحات سحاب فارهة ومراكز تسوق باذخة، رمزاً لخطة أطلقها الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، لمنح البلاد "هوية جديدة" بعيداً عن عزلتها الدولية وماضيها المليء بالصراعات.
ويهدف فوتشيتش، الذي كان قومياً متعصباً إبان حروب البلقان التي شهدتها تسعينيات القرن العشرين وتحول إلى إصلاحي موالٍ لأوروبا بعد أن حاز مزيداً من النفوذ السياسي- إلى تحقيق هدفه بأموال مقترضة ومن عوائد بيع أراضي الدولة إلى مشترين أثرياء من روسيا والصين ودول الخليج.
ويقول منتقدو المشروع إنَّ الحكومة الصربية لا تسمح لشيء بأن يعترض طريقها في سبيل إنجاز هذا المشروع.
وفي هذا السياق، قال دوبريكا فيسيلينوفيتش، زعيم حركة المعارضة المعروفة باسم "دعونا لا نهدم بلغراد" والتي تظاهرت في الشوارع ضد المشروع: "إنهم مصممون على فرض طريقهم إلى المستقبل علينا، ويُزيحون كل ما يعترض طريقهم بالجرافات".
وينظر المسؤولون إلى التظاهرات على أنَّها لا تدرك الأهداف الأوسع لمشروع تطوير الواجهة المائية. وفي هذا السياق، قال عمدة بلغراد سينيشا مالي: "نريد إعادة بلغراد إلى أمجادها القديمة، وأن نجعلها مدينة عظيمة تحظى باحترام الجميع مرةً أخرى، بعد سنوات من العار الذي لحقها بالحروب وعدم الاستقرار".
مضارب البيسبول تخلي المكان
غير أنَّ الضرر الذي لحق بالمشروع والشكوى من اتباع أسلوب فرض الرأي بالقوة وطريقة تنفيذ المشروع لا تقتصر على السكان وحدهم، حسب The New York Times.
فقبل بدء البناء منذ عامين، طُلِب من 231 عائلة إخلاء الأرض المملوكة للدولة لإقامة المشروع، لكنَّ بعض تلك العائلات رفضت المغادرة. وفي إحدى الليالي، ظهر في موقع المشروع نحو 30 رجلاً مُقنَّعين بيديهم مضاربُ بيسبول ومعدات ثقيلة.
وبحلول الفجر، كانت العديد من المباني السكنية والشركات قد أُخليت للسماح ببدء البناء، حسبما ورد في تقرير الصحيفة الأميركية.
وأصابت هذه الواقعة الصرب بالصدمة عام 2016، وحملوا غضبهم إلى الشوارع لاستنكار ما رأوه من ممارسات فاسدة لطبقة النخبة. وتحولت التظاهرات إلى أكبر حركة احتجاجية ضد الحكومة منذ الثورة الشعبية التي أطاحت برجل صربيا القوي سلوبودان ميلوشيفيتش عام 2000.
واتهم معارضو المشروع عمدة بلغراد بالوقوف خلف هذه الواقعة، وهو اتهام أنكره بشدة في إحدى المقابلات الصحفية، كما اتهم العديد من الصرب العمدة والرئيس بعدم استشارة الرأي العام حول الخطط الموضوعة لتطوير أرضٍ مملوكة للشعب.
ويقول بويان بيلوبابا، مالك متجر لغسل السيارات وإصلاحها في بلغراد، إنَّه تلقى تهديدات لرفضه إخلاء شركته القائمة في مكانها منذ 37 عاماً؛ من أجل هدمها وزرع حديقة تابعة للمشروع مكانها.
ويروي الزوجان إيفان وفيدا تيموتيفيتش، اللذان يسكنان في منطقة تقع بمسار المشروع، أنَّ المياه والكهرباء قُطِعتا عن منزلهما بعد رفضهما إخلاءه. وفي حال نفذت الحكومة مشروعها، فإنَّ الموقع الذي يوجد فيه المنزل سيتحول إلى جادة طريق.
ويُعَد الزوجان من بين آخر المتمسكين برفضهم للمشروع.
ليس إلا مجرد جزء من سيل الاستثمارات الإماراتية
أثار الدعم المالي للمشروع أيضاً مخاوف حول غياب الشفافية وتزايد التأثير الأجنبي؛ ويتلقى مشروع "واجهة بلغراد المائية" تمويلاً من شركة استثمارات في أبوظبي تُسمى Eagle Hills Properties، والتي وقَّعت عقداً مع الحكومة الصربية عام 2015.
ويُعَد هذا المشروع، الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات، مجرد جزء من سيل أموال تدفَّق من الإمارات إلى صربيا؛ إذ صنَّف محمد بن زايد، الحاكم الفعلي للإمارات، صربيا باعتبارها الوجهة الأساسية غرب البلقان التي ستنصبُّ فيها جهود بلاده لتنويع مواردها الاقتصادية بعد نفاد النفط، حسب تقرير الصحيفة الأميركية.
وبدأ المشروع عام 2013، حين توسط العمدة "مالي" في صفقة مع "طيران الاتحاد"، الناقل الوطني الإماراتي، لبيع 49% من حصة خطوط "جات" الجوية المملوكة للحكومة الصربية والموشكة على الإفلاس، وإعادة هيكلتها تحت اسم "آير صربيا" وتحويل مطار بلغراد إلى مركز إقليمي.
ووقَّعت الإمارات كذلك اتفاقية مع الحكومة الصربية للاستثمار في تطوير الأراضي الزراعية وشراء شركات زراعية مملوكة للدولة. وتُضَخ أموال الإمارات كذلك في قطاع الصناعات الدفاعية الصربية، وضمن ذلك تصنيع الطائرات.
سر التوافق بين الشيخ والرئيس
وتساور الشكوك العديد من الصرب حول الطريقة التي تم التوصل بها إلى الصفقات مع الإمارات وما يدور خلف الأبواب الموصدة.
وتنقل The New York Times عن محللين قولهم إن محمد بن زايد يتبع نمطاً في القيادة يميل إلى نهج الإملاء في صنع القرار، بينما الرئيس الصربي يحب أن يرى المال يتدفق إلى خزينة الدولة في غفلة من الجهات الرقابية، مع الحفاظ على توقعات المستثمرين الغربيين.
وتقول تينا بريليتش، الباحثة في شؤون جنوب شرقي أوروبا بكلية لندن للاقتصاد والتي شاركت في تأليف ورقة بحثية تتناول الاستثمارات الإماراتية بصربيا: "الثقافة السياسية للبلدين متوافقة من عدة أوجه؛ فالنمط السلطاني للإمارات المتحدة يتوافق مع المنهج الشمولي المتبع في البلقان".
الغريب أنه تم التخطيط للمشروع بأكمله في السر، دون مشاركة عامة. بعد أن تم تصنيفه كمشروع ذي أهمية وطنية، مثل مطار أو قاعدة عسكرية، حسب The Forbes.
الطراز الخليجي لا مكان له هنا
وسيبلغ إجمالي المباني في المشروع 5700 منزل و8 فنادق بالمنطقة بين النهر ومسارات قطارات السكك الحديدية التي تُوصِل إلى محطة القطار المركزية للمدينة والتي يعود تاريخ بنائها إلى القرن التاسع عشر.
ويتضمن المشروع مجموعة من ناطحات السحاب، ستضم أطول مبنى في جنوب شرقي أوروبا، وداراً للأوبرا، وأكبر مركز تسوق في القارة، والذي كان من المتوقع أن يخلق 13 ألف فرصة عمل.
إنه ليس مجرد مشروع من شأنه أن يضيف جديداً إلى الشكل الحضري للعاصمة الصربية، ولكنه سيغير وجهها تماماً.
غير أن بويان كوفاسيفيتش، رئيس أكاديمية صربيا للمهندسين المعماريين، نعتَ المشروع بأنَّه "جريمة في حق التخطيط العمراني". وقال إنَّ ناطحات السحابة المقامة في دبي والتجمعات السكنية المغلقة على الطراز الخليجي لا مكان لها بمدينة مثل بلغراد.
وقال: "إنَّهم يبنون مدينة مُحرَّمة في القلب من بلغراد. يصرُّ على القول إنَّ المشروع يُشكِّل هوية جديدة للبلاد، لكن هل سَأَلَنا إذا كنا نريد هوية جديدة؟ هل طرح هذا الأمر للنقاش؟ هل استشار خبراء فيه؟".