يوم الخميس 26 أبريل/نيسان 2018، وصل صابر القِرم باكراً إلى خيمة عائلته الواسعة التي حصلوا عليها من منظِّمي المظاهرة، وبدأ يكنس الأرضية المشمعة، ثم صنع ناراً وطبخ باذنجاناً بالطماطم لتوزيعه على المحتاجين، استعداداً للمظاهرة الأسبوعية يوم الجمعة.
بعد الغداء، سار إلى السياج ليلقي نظرة سريعة على الجنود الإسرائيليين، ثم بدأ يبحث عن حطب للنار. سحب جذع شجرة طوله 6 أقدام طيلة أكثر من ربع ميل إلى الخيمة، وهناك هشَّمه بيديه وقدميه.
صابر القرم، حسب تقرير نشرته صحيفة New York Times، في سن الثانية والعشرين، يرتدي سروال جينز ضيقاً وحذاء أبيض، ولديه قَصة شعرٍ عصرية، ويحمل القليل من المال بعد قضاء العديد من الشهور من دون عمل.
يصيح قائلاً: "الله أكبر!"، ويقذف الحجارة باستخدام المقلاع أو يبذل مجهوداً كبيراً في شد حبل غليظ مثبَّت بحاجز الأسلاك الشائكة الذي تضعه إسرائيل على أمل تمزيقه. إنه مجرد شخص محموم، وبطل في روايته الخاصة.
يستعدون لـ"مسيرة العودة الكبرى" في ذكرى النكبة
وينظم الفلسطينيون في غزة "مسيرة العودة الكبرى". وتحيي هذه المسيرة مطالب الفلسطينيين التاريخية بحق العودة إلى بلداتهم ومدنهم، التي هربت أو أخرجت منها عائلاتهم بعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948.
ووضع المحتجون عدداً من المخيمات في المنطقة العازلة التي فرضتها إسرائيل على طول 40 كيلومتراً من الحدود مع غزة. ويتوقع أن تبلغ الاحتجاجات ذروتها يوم 15 مايو/أيار 2018، ذكرى يوم النكبة الذي تم فيه ترحيل الفلسطينيين من ديارهم قبل 70 عاماً، وفقاً لموقع BBC.
ويعيش نحو مليونين من الفلسطينيين محاصَرين في قطاع غزة؛ إذ سحبت إسرائيل قواتها والمستوطنين اليهود من القطاع، ولكنها أبقت سيطرتها محكمة على الحدود البرية والبحرية. ويوجد في قطاع غزة كثافة سكانية، هي من أعلى النسب في العالم.
وقُتل نحو 40 فلسطينياً برصاص القوات الإسرائيلية على الحدود، منذ أن بدأت الاحتجاجات يوم 30 مارس/آذار 2018، كان أحدثهم 3 شبان، قال البيان الإسرائيلي إنهم حاولوا اجتياز السياج الحدودي.
يقولون للإسرائيليين: ارجعوا إلى البلدان التي جئتم منها
عند العاشرة ليلاً، بدأ صابر القِرم وأصدقاؤه في إعداد طعام شواء لـ12 شخصاً، ولم ينتهوا حتى بلغت الساعة 2:30 صباحاً. يستغرق شي 10 كيلوغرامات من جوانح دجاج وقتاً طويلاً على شواية قطرها 45 سنتيمتراً.
جلوساً حول النار، قال صديق اسمه أبو معاذ (25 عاماً)، إنه يريد استخدام طائرة ورقية ليلقي منشورات بالعربية والعبرية تحذر الجنود الإسرائيليين: "أَخْلُوا بيوتكم وارجعوا إلى البلدان التي جئتم منها".
لاقت الفكرة استحسان الجميع.
لاحقاً، صنع طائرات ورقية من العيدان ومن البلاستيك الشفاف ومن الورق، وتحدث عن تعليق علب كولا فارغة بها، يملؤها بخِرَق مبتلّة بالكيروسين، لكي يطيّرها فوق السياج أو ربما ليحرق شيئاً أو شخصاً ما.
يعود القِرم إلى بيته لينام؛ لأنه سيعود إلى الخيمة في الثامنة صباح الجمعة؛ ليكنس من جديد ويصنع نار الحطب ويرشف الشاي مع جيرانه.
يموتون منذ 5 أسابيع بالرصاص الحي على الحدود
الجمعة الماضي 27 أبريل/نيسان 2018، ذهب صابر إلى الصلاة، ثم تناول شطيرة فلافل، واقترب من أسلاك الحدود الشائكة. كان يلوح بمقلاعه (النقيفة) كأنها مروحية، عبثاً يصوبها على الجنود الإسرائيليين مراراً وتكراراً.
يقول القِرم إنه على مقربة منه سقط رجل مصاباً في بطنه على ما يبدو بشظية قنبلة يدوية. ثم تابع قائلاً إن ذلك لم يشكل له صدمة قَط، "قد أُصاب أو أُقتل في أي وقت، فالأمر لا يهم".
يصيح قِرم، الذي يجلس وسط الأحجار التي يقذفها، قائلاً: "نريد العودة!".
أدى الحرمان واليأس على مدار أكثر من عقد من الزمن، من دون أي أمل، بالآلاف من الشباب في غزة إلى المشاركة في المظاهرات، التي لا يعتقد سوى القليل -إن وجدوا- أنها سوف تحقق هدفها المرجو، وهو العودة إلى منازلهم فيما يُعرف حالياً باسم إسرائيل والتي هُجِّرها أجدادهم منذ عام 1948.
وخلال 5 أسابيع من الاحتجاجات، لقي 46 شخصاً حتفهم، بينما تعرض المئات لإصابات بالغة، بحسب ما أوردته وزارة الصحة في غزة.
ومن خلال نسبة بطالة تبلغ 64% بين الشباب، يوجد في غزة، الخاضعة للحصار الإسرائيلي والمصري على مدار سنوات، عدد لا حصر له من الشباب مثل القِرم ممن يواجهون أسوأ الخيارات، حسب تعبير الصحيفة.
ينحدرون بانتظام في اتجاه اليأس التام
يضيف التقرير أن القِرم لا يعتبر نفسه إرهابياً ولا فدائياً، فهو لا يصلِّي باستمرار ولا يمارس السياسة. ويذكر أنه لا ينتمي إلى "حماس" أو "فتح" أو أي فصيل آخر. إنه شاب لا يجد ما يفعله، وقد منحته الاحتجاجات فرصة للشواء مع الأصدقاء في وقت متأخر من الليل والنوم حتى وقت متأخر من النهار، وغناء أغنيات الحب أو الشهادة أو نهاية المعاناة، وانتقاد العدُوِّ الكريه طيلة المساء.
غالبية شباب غزة يحلمون بفرصة للهجرة في نهاية المطاف.
ويمكن أن ينضموا إلى جماعات مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ويكرسوا حياتهم للنزاع المسلح مع إسرائيل مقابل الحصول على سبل المعيشة والشعور بالانتماء.
وقد يمكنهم البقاء بالمنزل وتجنُّب الملل، من خلال تدخين الشيشة أو أي مواد أكثر فاعلية، وانتظار أن تتغير الأوضاع.
وقال القِرم في لحظة هادئة داخل خيمة أسرته: "لا يهمني إذا ما أصابوني. الموت أو الحياة.. إنه الشيء نفسه".
ولم تؤدّ الاحتجاجات إلى ترويع الإسرائيليين الذين يتعاملون مع غزة وكأنها فيروس يجب حصاره. ومع ذلك، فقد نجحت الاحتجاجات في أحد جوانبها الهامة: فقد سلطت الضوء على مشكلة أبناء القطاع، المحرومين من المياه النقية وحرية الحركة والانتقال وإمدادات الكهرباء، والمنحدرين بانتظام في اتجاه اليأس.
ويُصلّون من أجل أن يسود السلام ذات يوم.. ذات يوم
اعتاد صابر أن يربي الحمام والدجاج على سطح منزل أسرته؛ من أجل المتعة والطعام، حتى قصفت إحدى الضربات الجوية الإسرائيلية منزل جيرانه وانهار على الحظيرة وقتل كل ما بها من طيور.
حلمَ القِرم أحياناً بالعمل في مصنع للسيارات أو بالسفر إلى الخارج لتعلُّم كيفية تصنيع السيارات ثم العودة إلى غزة لتطبيق ما تعلَّمه. ومع ذلك، لم يستطع القيام بشيء سوى تحميل التوك توك والدراجات البخارية بالحمولات، أو جر عربة لتوزيع الدقيق والسكر وغيرها من المواد الغذائية الأساسية على اللاجئين الآخرين.
في الخريف، يجني القِرم الزيتونَ أحياناً، وعندما تكون هناك أعمال بناء، يبحث عن فرصة ليرصَّ لَبنات الطابوق أو لصبّ الإسمنت. لم يسبق له قَط أن حظي بوظيفة ثابتة.
مساء الجمعة، كان الظلام قد حل الآن، والمتظاهرون يتوجهون إلى بيوتهم. سرعان ما عاد القِرم إلى دندنة أغنية، لكنها هذه المرة كانت لحناً لبنانياً عن الإرهاق من الحرب.
يختم قائلاً: "يكفي ما يكفي. كفانا شقاء ووعوداً وكلمات. تلاميذ المدارس وأجراس الكنائس وجندي وفارس وأصوات الأذان– جميعها تصلّي من أجل سلام يسود".