عبر منطقة جبلية شاسعة تقطع فاطمة محمود 60 كيلومترًا من شمال شرقي سوريا إلى مسقط رأسها في مدينة الرقة ، رحلة تخوضها كل 3 أيام تشير فيها إلى أصحاب السيارات لتوصيلها مجانًا حيث قبر زوجها الذي تقصده للزيارة.
القبر على أنقاض منزلها في المدينة التي تحطمت في الحرب الدولية على تنظيم داعش ، تعلم فاطمة أنه ما يزال يرقد هناك، فرائحة جثته تملأ المكان
فاطمة لا تزور البيت المهدم لقراءة الفاتحة فقط؛ بل لتحفر بين الأنقاض بيديها بحثاً عن متعلقات منزلها وأي شيء قيِّمٍ يمكنها بيعه لدفع ثمن الغذاء وملجأها المؤقت الذي يقع في مكانٍ آخر بالمدينة.
كانت فاطمة -مثل الكثيرين في الرقة- تعيش حياةً مزدهرة بدرجةٍ كبيرة في ظل احتلال داعش طالما تخضع لقواعد التنظيم. وكان نشاط زوجها في تجارة السيارات مصدر دخل الأسرة.
لكنَّ معركة تحرير المدينة قلبت هذه الحياة رأساً على عقب؛ إذ دفعت فاطمة وبناتها الأربع البالغات 2000 دولارا لأحد المهربين؛ لمساعدتهن في الهروب من المدينة. ووعدها زوجها عبد العزيز باللحاق بهن، لكنَّه قُتل ولا تعرف فاطمة كيف ستواصل العيش.
"لقد بعت كل مجوهراتي ومجوهرات بناتي، وليس لدي أي شيء". هكذا قالت
تامر الغباشي، مدير مكتب صحيفة The Washington Post في بغداد، زار الرقة، وحكي في تقريره قصة فاطمة وآلاف غيرها في المدينة ، ليشرح كيف يُهدد الإهمالُ الأميركي لإعادة اعمار المدنية الانتصار على داعش هناك؟
تحرر ناقص في الرقة
"لقد تحرَّرت مدينتي، لكنَّني لا أستطيع العيش فيها"..تقول فاطمة بوجهٍ تعلوه الحسرة..
وهي مقولة تلخص قصة الرقة السورية، فبعد 6 أشهر من نجاح القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة في طرد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) من الرقة، التي أعلنها عاصمةً له، تحولت الرقة إلى مدينة مزروعة بالأنقاض والمتفجرات.
صارت أنقاض المباني أكثر بكثير من المباني القائمة. وأصبح التعرُّف على ملامح الرقة -التي كانت موطناً لنحو 400 ألف شخص، معظمهم كان يعيش في شقق شاهقة الارتفاع- عسيراً على من يحاولون العودة إليها والتحرُّك في شوارعها.
لا توجد في المدينة مياهٌ جارية ولا كهرباء ولا عدد كافٍ من الموظفين العموميين لنزع فتيل مئات المتفجرات التي زرعها مسلحو "داعش" في أثناء تشبثهم اليائس بالمدينة. وكثيراً ما يصادف الناس رفاتاً بشرية وهم يعاينون ما تبقى من المنازل والشركات.
يساهم دمار الرقة وبطء إعادة إعمارها في تعزيز شعور متزايد لدى أبناء المدينة بأنَّ الولايات المتحدة دمرت المدينة، لكنَّها غير مستعدة لتحمُّل المسؤولية عن إعادة إعمارها؛ وهو ما دفع روسيا لاتهام التحالف الدولي بمسح الرقة من الخارطة.
الأرقام تدعم هذا الشعور المتزايد بين السوريين وحلفائهم، فقد بلغ عدد المباني التي دُمِّرت أو تضررت في الفترة بين فبراير/شباط وأكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي (2017) -والتي شهدت غارات جوية بقيادة الولايات المتحدة- أكثر من 11 ألف مبنى.
كما أن الإشارات التي بعثت بها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تكشف عن تراجع اهتمامها بمستقبل سوريا، بعد دعوة ترمب في الشهر الجاري (أبريل/نيسان 2018)، إلى سحب القوات الأميركية من سوريا في أقرب وقتٍ ممكن.
وكشفت تقاريرصحفية أن البيت الأبيض دعا، في أواخر مارس/آذار 2018، إلى تجميد الإنفاق المُخصَّص لإرساء الاستقرار في المناطق السورية التي ساعدت القوات الأميركية في طرد تنظيم داعش منها، ليُعلِّق بذلك إنفاق نحو 200 مليون دولار، كانت الولايات المتحدة تعهَّدت بإنفاقها لهذا الغرض. وقال مسؤولٌ أميركي بارز غير مصرح له بالتحدث علناً عن هذه المسألة، إنَّ بعض مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية يتدافعون لمعرفة ماهية برامجهم التي ستتضرر من هذا القرار في شمال شرقي سوريا.
حذّر مسؤولون سوريون من أن تخليص سوريا من المسلحين، الذي كان هدفاً أساسياً، ربما لن يعود له مقتضى؛ لعدم مشاركة الولايات المتحدة في إعادة إعمار الرقة وطريقة حُكمها، مما يزيد احتمالية ظهور تنظيمات مُسلَّحة أخرى. كما أنَّ الإحباط في سوريا قد يفتح الباب أمام النظام السوري للعودة وملء الفراغ
و يحكي تقرير الغباشي عن رجلٌ يبلغ من العمر 66 عاماً فَقَدَ سبعةً من أفراد عائلته في غارات جوية، تساءل قائلاً: "هل كان هذا الدمار والموت يستحق كل هذا العناء؟ كلما حاولتُ بذل قصارى جهدي لإعادة الإعمار، أدركتُ أنَّه لا يستحق. لقد عانينا في وجود داعش، لكنَّنا نعاني أكثر في ظل هذا التحرير الأميركي".
يقول الرجل الذي يمتلك مطعماً ويديره منذ فترة طويلة، لصحيفة the washington post -رافضاً الكشف عن اسمه- إنَّه باع كل ذَهَب أفراد عائلته، واقترض أموالاً كثيرة لإعادة بناء منزله ومطعمه. وبينما كان يخلط الإسمنت خارج أنقاض مطعمه، كان يلتزم بالحفاظ على الطول المناسب للحيته وعدم التدخين في الأماكن العامة؛ ولذلك كان مُسلَّحو داعش يتركونه وشأنه.
إهمال بعد تحرير
نظراً إلى أنَّ مدينة الرقة كانت نقطة انطلاق هجمات داعش، فقد كانت تستحوذ على اهتمام الولايات المتحدة وأوروبا حتى وقتٍ قريب. أمَّا الآن، فيخشى سكان المدينة والقائمون على إصلاحها من أن يتخلى العالم عنهم في ظل تحوُّل اهتمامه بعيداً عن مدينتهم.
في الوقت الراهن، تركز السلطات الكردية المدعومة أميركياً والتي تسيطر على الرقة الآن، على صراعٍ متصاعد مع تركيا على طول الحدود الشمالية لسوريا، في حين تنشغل القوات الأميركية بهزيمة الفلول المتبقية من قوات داعش في أقصى الشرق على طول الحدود العراقية، بينما حوَّلت الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية اهتمامها إلى التصدي للعنف المروع في ضواحي العاصمة السورية دمشق، حيث استعاد النظام السوري منطقة الغوطة الشرقية التي كانت موضع نزاعٍ طويل وشهدت الهجوم الكيماوي المزعوم في الشهر الجاري (أبريل/نيسان 2018)، بحسب الصحيفة الأميركية.
من جهتهم، قال مسؤولون أميركيون مشاركون في جهود إرساء الاستقرار بالرقة إنَّ العمل على إعادة الخدمات الأساسية ودعم الحكومة المحلية جارٍ بالفعل، لكنَّه يواجه عقبات متنوعة؛ إذ تعترض الحكومة السورية على الأنشطة الأميركية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، وهو ما أبطأ تسليم المساعدات.
يقع قدرٌ كبير من المسؤولية عن الرقة الآن على عاتق أحمد إبراهيم الرئيس المشترك المؤقت لبلدية الشعب في المدينة، والبالغ من العمر 29 عاماً.
الغريب أن إبراهيم عندما تحدث لصحيفة The Washigton Post، وصف تنظيم داعش بأانه "كان مُنظَّماً ولديه استجابة كبيرة للغاية في أمور الحُكم، وهذا يضعنا تحت ضغطٍ هائل؛ إذ يتحتم علينا أن نؤدي أداءً أفضل منهم. وهذا هو التحدي الذي نواجهه: كيف نُقنع شعبنا بأنَّنا أفضل من داعش؟". ثم ختم حديثه بأن الفشل في ذلك مخاطرة كبيرة.
"مزيدٌ من الجثث وإسعاف قليل"
وفي تقرير لها عن الأوضاع بعد معركة الرقه -التي يصفها بعض العسكريين الأميركيين بأنها أكثر المعارك حدّةً بعد الحرب العالمية الثانية- ذكرت منظمة "إير وورز" البحثية البريطانية المستقلة، التي ترصد الغارات الجوية الأميركية والروسية في سوريا، أنَّ الطائرات والمدفعية الأميركية قصفت الرقة بنحو 20 ألف قطعةٍ من الذخيرة على مدار الحملة التي استمرت 5 أشهر، أي أكثر من حجم الذخيرة التي استخدمتها في أفغانستان على مرِّ العام الماضي (2017) كله، وأكثر في متوسط الذخيرة المستخدمة شهرياً من المتوسط الشهري للذخيرة التي استُخدِمت في مدينة الموصل، التي تُعد أكبر من الرقة بكثير، والتي استغرقت السيطرة عليها ضعف المدة المستغرقة في السيطرة على الرقة تقريباً.
ومن جهة أخرى يُحقِّق الجيش الأميركي في عشرات الدعاوى المتعلقة بسقوط ضحايا مدنيين في الرقة من جرَّاء الغارات الجوية ونيران المدفعية الأميركية، وأكَّد حتى الآن مقتل 24 شخصاً. بينما ذكر أحد التحليلات الصادرة عن "إير وورز" أنَّ عدد الضحايا بلغ نحو 1400 شخص. في حين يرتفع الرقم بتقارير أخرى إلى 6 آلاف، بحسب صحيفة تشرين السورية.
البنتاغون في معرض تبريره سقوط مدنيين ضحايا للقصف الأميركي على الرقة، قال إنَّ تنظيم داعش تعمَّد وضع المدنيين في مرمى النيران، وكثيراً ما حاول أفراده اجتذاب النيران الأميركية نحو المناطق ذات الكثافة السكانية العالية؛ مما أسفر عن وقوع إصابات غير مقصودة في صفوف المدنيين.
في السياق نفسه، استخرجت وحدة الدفاع المدني في الرقة -التي تضم 37 من رجال الإطفاء وآخرين من أفراد الإنقاذ- أكثر من 300 جثة منذ نهاية الحملة، ويُعتقد أنَّ الغالبية العظمى من هؤلاء القتلى لم يكونوا مشتركين في القتال. بينما يوجد الآن 6000 بلاغ عن رفاتٍ بشرية تحت الأنقاض.
ليست المساعدة التي يحتاجون إليها
ياسر الخميس، قائد فريق الاستجابة الأولية التابع لمجلس الرقة المدني، قال لمراسل The Washington Post: "يريد الناس العودة إلى أحيائهم والبدء في إعادة الإعمار. ولكن في كل مكانٍ نذهب إليه، يُبلِغ الناس عن مزيدٍ ومزيد من الجثث!"
ويقول خميس إنه طلب من جنود أميركيين سيارات إطفاء، ومعدات بناء ثقيلة لتحريك الأنقاض، ومعدات كهربائية لاستخراج الجثث من تحت الأنقاض الملتوية.
وكان رد أحد جنود القوات الخاصة بأنَّه يتفهَّم التحديات، لكنَّهم لا يمتلكون سوى 6 سيارات إسعاف لتوزيعها على مساحةٍ كبيرة من الأراضي السورية خاضعة للقوات الأميركية ،تمتد من مدينة الرقة شمالاً إلى مدينة دير الزور جنوباً.
وفي أثناء حديثهم، وصلت شاحنةٌ صغيرة تحمل 12 كيساً من أكياس الجثث تحتوي على رفات مستخرجة حديثاً لضحايا الغارات الجوية. ومع تجمُّع أفراد أُسر الضحايا للتعرُّف على ذويهم، دخل جنود القوات الخاصة سياراتهم وانصرفوا مسرعين. فحدَّق إليهم عمار العيسى (36 عاماً) وأخوه بغضب؛ إذ كانا قد تعرّفا للتو على جثتي والدهما حسين (66 عاماً) وأمهما جميلة (55 عاماً)، ضمن الجثث الموجودة في الشاحنة عن طريق قطعة من الملابس المميزة.
استُخرِجَت الجثتان من تحت أنقاض منزلهما الذي دُمِّر بغارةٍ جوية في 15 أغسطس/آب 2017. وقال عمَّار إنَّ أخاهما محمد (20 عاماً) لا يزال مفقوداً، بينما قُذِفت أختهما نهلة (21 عاماً) في الشارع من جرَّاء الانفجار ولقيت مصرعها على الفور.
وأضاف عمار: "كان هناك مكتبٌ مالي تابع لداعش في الطابق الأرضي وكانت أسرتي تعيش فوقه. لا أعرف لماذا احتاج الأميركيون إلى قنبلة لضرب مكتب مالي؟!".
مقتل غامض لمُنسِّق سياسي
قدَّمت الولايات المتحدة عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ما يُقدَّر بنحو 60 مليون دولار لجميع أنحاء شمال شرقي سوريا من أجل جهود تحقيق الاستقرار التي عُرِّفت على أنَّها إزالة الألغام وتحريك الأنقاض وإصلاح الخدمات الأساسية مثل أنظمة المياه والكهرباء وإعادة فتح المدارس.
وقال مسؤولون إنَّ هناك مجموعةً صغيرة من مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية في الرقة، لكنَّهم لا يستطيعون التحرُّك بسهولةٍ؛ بسبب مخاوف أمنية ودبلوماسية؛ لذا يعمل جنود القوات الخاصة الأميركية كوسطاء بين المسؤولين الأميركيين والمجلس المدني في الرقة المكون من عرب وأكرادٍ سوريين.
العضو الأشهر في هذا المجلس هو عمر علوش، وهو مسؤولٌ عن التنسيق مع الوكالات والحكومات الخارجية. وحين سُئل علوش في أحد اللقاءات الصحفية عمَّا فعلته الولايات المتحدة لإعادة إعمار الرقة منذ انتهاء القتال، قال باللغة الإنكليزية: "لا شيء".
اشتكى علوش من بطء الأموال الأميركية في الوصول، وعدم تناسب بعض المشروعات التي اقترحتها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية -مثل إعادة طلاء حجارة الأرصفة- مع الاحتياجات المحلية.
وقال علوش: "إذا لم نستطع إقناع الناس في الرقة بأنَّنا نساعدهم، فنحن في مشكلةٍ كبيرة"، محذراً من أنَّ طول أمد إعادة إعمار المدينة سيمهد الطريق أمام الأسد للعودة؛ لأن الناس "ستختار الشخص الذي سيُصلح منازلهم". وكان علوش يسعى في الأشهر الأخيرة، بصفته مسؤولاً مستقلاً، للتحاور مع النظام السوري، بالإضافة إلى مسؤولين في البنتاغون ووزارة الخارجية الأميركية. ولكن، تم العثور عليه مقتولاً بالرصاص في بيته بعد أيامٍ من لقائه مع أحد مراسلي صحيفة The Washington Post.
المخاطرة بثقة الشعب
ذكر المسؤول الأميركي البارز أنَّ تعليق مساعدات تحقيق الاستقرار من جانب البيت الأبيض سيؤثر تأثيراً مباشراً في عمليات إزالة الألغام والمتفجرات؛ إذ تُعَد إزالة الألغام من المباني والشوارع أمراً ضرورياً قبل إصلاح الخدمات الأخرى ومُكلِّفاً على وجه الخصوص؛ لذا قال المسؤول: "إذا توقف ذلك (إزالة الألغام)، فستتوقف الكثير من العمليات الأخرى".
أما ميليسا دالتون، الخبيرة في الشؤون السورية بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية التي رافقت مسؤولين عسكريين ودبلوماسيين أميركيين في زيارةٍ إلى الرقة في يناير/كانون الثاني 2018، فتقول إنَّ تنظيم داعش والجماعات المتشددة المشابهة قد تستفيد إذا لم تتحسن الظروف، مضيفة: "إنَّ أي نوعٍ من المشاعر الطيبة التي يحملها سكان الرقة لقوات سوريا الديمقراطية والولايات المتحدة بفضل تطهير هذه المناطق من داعش، قد يتضاءل على مرِّ الأشهر القليلة القادمة؛ إذا لم تُترجَم جهود هذه الأطراف إلى تغييرٍ حقيقي".