على مدار أسبوع تقريباً، يحاول خبراء غازات الأعصاب معرفة نوع الغاز الذي تسبب في وفاة 74 شخصاً -أغلبهم من الأطفال والنساء- في مدينة دوما السورية، بعدما كانوا يظنون أنه غاز الكلور، لكن في الحقيقة ليس هو فقط، وإنما هناك فرضية أخرى تشير إلى اقتران الكلور بغاز أعصاب أيضاً.
المستشفيات بمدينة دوما امتلأت بمرضى يتصاعد الزبد من أفواههم، ويكابدون لالتقاط أنفاسهم، وتحترق عيونهم في الساعات التي تلت السابعة والنصف من مساء السبت 7 أبريل/نيسان 2018. وبحلول اليوم التالي، ذهب ما يقدر بـ500 شخص إلى المنشآت الصحية السورية ولديهم "علامات وأعراض التعرض لمواد كيماوية سامة"، وفقاً لتقارير وصلت إلى منظمة الصحة العالمية من شركائها في سوريا، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
حتى في منطقةٍ ترزح منذ أشهر تحت نيران هجماتٍ لا تتوقف، كان هذا حدثاً غير عادي. فما لبث الأطباء أن وجدوا أنفسهم يتعاملون مع أعراض لم يسبق لهم رؤيتها من قبلُ؛ مع تشنج بعض المرضى وجحوظ أعين العديد منهم، بينما كانت دقات قلب آخرين بطيئة، وبالكاد تُبقيهم على قيد الحياة.
شيء آخر يقتل الناس
وبحسب الصحيفة البريطانية، الجميع اشتكوا من وجود رائحة نفاذة تشبه رائحة الكلور. ألقيت هذه المادة الكيماوية الاصطناعية على دوما وسائر أرجاء منطقة الغوطة عدة مرات من قبلُ، وكان بوسع الأطباء أن يدركوا بسهولةٍ، آثارها. غير أن شيئاً آخر كان يقتل الناس، ولم تكن لدى الأطباء فكرة عن كيفية علاجه.
وقال أحد الأطباء: "شيءٌ ما يعبث بالجهاز العصبي. الكلور لا يفعل ذلك. وفي حين كانت آثار الكلور واضحة عند بعض من عالجناهم، ثمة شيء آخر لا نعرفه".
ومنذ ذلك الحين، ولمدة 5 أيام، انهمك فنيو الاستخبارات في دراسة صور الأقمار الاصطناعية والرسائل اللاسلكية المُعترضة، ومسارات الطيران، في محاولة لفهم ما حدث بدوما. وفي الأردن تجهزت السلطات لاستقبال عيناتٍ من نحو 42 جثة ومئات الناجين.
تعج طرق التهريب إلى داخل دمشق وخارجها بالحركة، ويمكن أن تنفتح المعابر البدائية الممتدة على طول الحدود الأردنية الحبيسة فجأةً أينما وُجِدَت الحاجة إلى ذلك. ومنذ أن وقع الهجوم أصبح إيصال العينات، وخصوصاً الجثث، إلى المعامل أولويةً قصوى هذا الأسبوع، بينما تحاول الولايات المتحدة أن تفهم ما إذا كان الغاز الملقى يحتوي على ما هو أكثر من الكلور، بحسب الصحيفة البريطانية.
وقال مسؤول فحص العينات المأخوذة من المرضى بعد غارات غاز السارين بالغوطة في أغسطس/آب 2013، وبخان شيخون في أبريل/نيسان 2017: "عينات الدم والبول ستُظهر ذلك مدة أسبوع أو ربما أكثر. غير أنَّ غازات الأعصاب تتحلل بسرعة شديدة في الموقع. وفي حالة تشكيل لجنة تقصي حقائق فعالة، فسيكون عليها أن تذهب إلى موقع الهجوم على الفور".
غاز آخر مع الكلور
وقال جيري سميث، الذي تولى قيادة بعثة الأمم المتحدة للإشراف على سحب مخزون النظام السوري من السارين أواخر عام 2013، إنَّ الأعراض التي ظهرت على المرضى يمكن أن تُدلل على تعرضهم لغازٍ آخر مع الكلور. وأضاف: "يجدر بنا أن نسلط الضوء على ما نعرفه. معدلات الإصابات والسرعة البينة للموت والارتعاش". السم القائم على الفوسفات العضوي، وضمن ذلك السارين، يسبب تلك الأعراض. وكذلك جحوظ العيون والخروج الكثيف للزبد من الفم، جميعها كانت علامات كاشفة في الهجمات الماضية.
ودرست وكالات الاستخبارات في باريس ولندن وواشنطن، هذا الأسبوع، مقاطع فيديو المرسلة من موقع الحدث لمعظم القتلى. وقال مسؤولون أميركيون إنَّ هذه المقاطع بدت مشابهة لصور التُقطت في أعقاب غارتين مؤكدتين بغاز السارين، أثارتا موجةً واسعة من الإدانة ضد النظام السوري.
وبحلول يوم الثلاثاء 10 أبريل/نيسان 2018، كان المسؤولون الأميركيون يشيرون إلى أنَّ القنبلة التي ضربت المبنى السكني المكون من 3 طوابق في دوما كانت تحتوي على غاز الكلور وغاز أعصاب.
وبحسب الصحيفة البريطانية، أصر المسؤولون العسكريون في باريس ولندن وواشنطن على أنَّ القنبلة أُلقيت من إحدى مروحيتين تابعتين للنظام السوري، أقلعت من قاعدة الضمير الجوية شمال دوما قبل الهجوم بـ30 دقيقة. وحُدِّدَ مسارها على الخريطة. غير أنَّ المراقبين المحليين في دوما سجلوا وصول طائرتي الهليكوبتر. وتقوم الطائرات السورية والروسية بجولات قصف فوق المنطقة منذ مساء الجمعة 6 أبريل/نيسان 2018.
وفي الوقت نفسه، كانت القوات البرية تحاول عبثاً اقتحام دوما، آخر معاقل المعارضة على بوابات دمشق (بعد أن استعاد النظام المعقلين الآخرين في مقاطعة الغوطة قبل ذلك بأسبوعين). وسبق أن رفضت ميليشيا جيش الإسلام المسلحة في دوما مطالب سورية وروسية بالتفاوض على الرحيل. وكان من الصعب تحقيق الإنجاز الكبير باسترداد آخر مساحة كبرى من العاصمة خارج سيطرة النظام السوري. ولكن في الساعات التي تلت الضربة تبدل الوضع؛ إذ وافق جيش الإسلام على إخلاء المنطقة والتوجه صوب شمال سوريا.
روسيا تفحص المنازل
ودخلت القوات الروسية دوما يوم الثلاثاء، وفحصت المنزل الذي مات فيه معظم الناس. وقبل وصول القوات، صوَّر المسعفون مقاطع فيديو لأسطوانة صفراء كبيرة على سطح المبنى. تحطمت فوهة الأسطوانة بفعل الاصطدام. وأكد موقع Bellingcast الاستقصائي على شبكة الإنترنت صحة مقطع فيديو صوره أحد المسعفين من على سطح ذلك المبنى. ولم يتسنَّ للموقع تأكيد صحة صور لقذيفة ثانية في غرفة نوم وربطها بالمنزل نفسه.
كلتا القذيفتين تشبه البراميل التي استُخدِمَت بشكلٍ واسع في الغوطة وغيرها من الأماكن بسوريا لإلقاء قنابل الكلور. ولم تكن هناك أي تعديلات واضحة في هاتين القذيفتين، مما ترك المسؤولين بواشنطن وأوروبا في حيرةٍ من أمرهم حول أسباب وقوع هذا القدر الكبير من حالات الوفاة والإصابات.
وقال مسؤولٌ إقليمي: "نحن ننظر في إمكانية وجود حاويات منفصلة داخل الأسطوانة. فمحتوياتها غير قابلة للخلط؛ لأنَّ هذا سيؤدي إلى أن تصبح متطايرة وغير ثابتة، ولكن يمكن دمجها. هذه نظرية معقولة؛ فيمكن أن يكون غاز الأعصاب والكلور في الأسطوانة نفسها، ولكن في حاوياتٍ منفصلة، ونقطة التفجير نشرتهما معاً. شهدنا حدوث ذلك في أماكن أخرى من سوريا، ولكنَّه لم يسبب معدل وفيات بهذا القدر. نحن في هذا الموقف؛ لأنَّ هؤلاء المساكين عالقون في وضعٍ لا فرصة للنجاة منه".