هذا الصخب الدولي حول ضرب دوما بالأسلحة الكيماوية صار معتاداً، بحسب ما كتبته روبين رايت، المحللة السياسية في صحيفة New Yorker. فالسيناريو هجومٌ جديدٌ بالأسلحة الكيماوية في سوريا -تفيد تقارير بأنه قتل ما يربو على 40 شخصاً وأصاب المئات، بينهم رضّع، في دوما- يثير شعوراً مقيتاً بالسأم من تكرار هذا المشهد مع دخول الحرب التي تتزايد دمويتها، في عامها الثامن.
كلامياً على الأقل، يقف الغرب على الجانب الصحيح من التاريخ؛ فقد نشر الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، تغريدةً غاضبةً يوم الأحد 8 أبريل/نيسان 2018، عن "العمل الوحشي" الذي قام به الأسد ووصفه بأنه أخرق ومريض. وشنّ هجوماً على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -بتحديدٍ نادراً ما يحدث من جانب ترمب- وعلى إيران لدعمها "الأسد الحيوان"، رئيس سوريا.
بل إن ترمب ألقى باللائمة على الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما؛ لعدم اتخاذ مزيدٍ من الخطوات بعد أن فرض "خطاً أحمر" على استخدام سوريا الأسلحة الكيماوية عام 2012.
غير أن ترمب وضع إدارته في موقف مشابه لموقف إدارة أوباما، بتحذيره من أن الأسد سيدفع "ثمناً باهظاً" للهجوم. وتبعته في هذا حكومات أوروبية وجماعات حقوقية، ودعا 9 أعضاء من بين أعضاء مجلس الأمن الـ15 لعقد اجتماعٍ طارئ.
ولكن، في نظر الولايات المتحدة الأميركية، ثمة أهداف قليلة في سوريا لا يمكن لروسيا وإيران إعادة بنائها بحضورهما الأكثر طغياناً في البلاد؛ فبعد الهجوم الصاروخي على قاعدة جوية سورية الربيع الماضي، أعلن الحاكم المحلي أن الضرر الذي تسبب فيه الهجوم قد جرى إصلاحه واستئناف الرحلات الجوية بعد عدة أيام من وقوع الهجوم.
والحق أنه ليس ثمة تغير كبير متوقَّع في التوازن العسكري على الأرض أو في نتيجة الحرب. فبمساعدة القوات الجوية الروسية، وكذلك مقاتلي حزب الله وإيران، تمكَّن نظام الأسد من أن يستعيد ببساطةٍ، الكثير من الأرض، وضمن ذلك كبريات المدن السورية. وخلال العام الماضي (2017)، ضم النظام رقعاً من الأرض المستردَّة ليشكل كياناً أكثر قابلية للحكم. في غضون ذلك، يواجه العديد من قوات المعارضة، مثل المقاتلين المحاصَرين في دوما والغوطة الشرقية، خارج دمشق، ظروفاً بالغة الصعوبة.
الأسد لن يتوقف من دون تدخُّل أميركي مباشر وطويل
وأخبرني فريد هوف، ضابط سابق بالجيش الأميركي وسفير سابق عمل على قضايا الشرق الأوسط في ظل إدارات ريغان وجورج بوش وأوباما: "وزارة الدفاع جهزت بالفعل أهدافاً طارئة تحسباً لحدوث شيء كهذا. ولكني أتشكك بجدية في أن أياً من هذه الأهداف، سواءً استُهدِفت بشكلِ فُرادى أو جماعةً، يمكن أن يحدث تغييراً ذا شأنٍ في المسار العسكري للحرب في سوريا".
التصرف الوحيد الذي يمكنه أن يغير مسار الحرب هو "تدخُّل عسكري بقيادة أميركية ضد الأسد، يحمل كل أنواع المخاطرات العسكرية"، حسبما أخبرني روبرت فورد، آخر سفير أميركي لدى سوريا. وقال فورد: "الأسد لا يحرز أي تقدُّم، والحرب يطول أمدها".
ويتفق فورد وهوف على أنه حتى حمْل الأسد على وقف استخدام الأسلحة الكيماوية يتطلب حملة مستمرة. وأخبرني فورد: "لو نفذت الولايات المتحدة سلسلة من الغارات المكلِّفة للأسد، والتي من شانها تدمير طائرات أو وسائل اتصال، في كل مرة يلقي فيها بأسلحة كيماوية، سواءً كانت الكلور أو السارين، فإن إحساسي يقول إنه سيتوقف عن استخدام الأسلحة الكيماوية بعد فترة. ولكن لا بد من أن تكون هذه الغارات في شكل سلسلة تستمر على مدار أسابيع وشهور قبل أن تُحدث تغييراً في سلوكه. وسيعمل النظام السوري على اختبار رد فعل الولايات المتحدة؛ ربما يوقف الهجمات أسبوعاً أو اثنين أو ثلاثة، ثم يعاود الكرَّة ثانية".
لكن أميركا تتجنب الدخول بعمق
وتجنبت إدارتا أوباما وترمب التدخل بعمق في الحرب الأهلية بسوريا، بحيث لم تنخرطا إلا في قدرٍ يسير منها، في المعركة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، التي بدأت حين استولى التنظيم على ثلث سوريا وثلث العراق لإنشاء الدولة الإسلامية عام 2014. وحتى هذا القدر من المشاركة قد فتر عزم الولايات المتحدة فيه؛ إذ طلب الرئيس الأسبوع الماضي من جنرالاته الترتيب لخروج سريع لما تبقى من القوات الأميركية، وقدرُها 2000 جندي كانوا يقدمون المشورة لقوات سوريا الديمقراطية، وهي ائتلاف من قوات المعارضة السورية التي تقاتل تنظيم داعش شمال شرقي البلاد.
ويواجه ترمب ضغوطاً للتدخل. ويقول السيناتور ليندسي غراهام، عضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية نورث كارولينا وعضو لجنة الخدمات المسلحة، في برنامج "هذا الأسبوع" على قناة ABC: "هذه لحظة حاسمة في رئاسة ترمب؛ فلو لم يطابق فعلُه تغريدته سيبدو ضعيفاً في عيني روسيا وإيران". وقال إن ترمب يحتاج إلى أن "يُبدي حسماً لم يسبق لأوباما أن أبداه ليفعل ذلك". أما السيناتور جون ماكين، فكان أكثر حسماً: "الرئيس ترمب أرسل إشارات للعالم، الأسبوع الماضي، بأنَّ الولايات المتحدة ستنسحب مبكراً من سوريا. وقد التقط بشار الأسد وداعموه في روسيا وإيران هذه الإشارات".
وقد حاز ترمب مديحاً واسعاً بسبب الغارات العسكرية التي شنها، والتي جاءت بعد هجوم بالأسلحة الكيماوية على المدنيين في مدينة خان شيخون، والذي أسفر عن مقتل نحو 100 شخص وإصابة 600. وقد تحققت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، التي فازت بجائزة نوبل للسلام عام 2013، من استخدام سوريا غاز السارين للأعصاب المحرم دولياً.
ومنذ ذلك الحين، انتشرت مزاعم بأنَّ سوريا قد زوَّدت القنابل المستخدمة التي أُلقِيت في عدة أماكن بغاز الكلور. ولم تردَّ الولايات المتحدة عسكرياً على أي من تلك الهجمات، غير أن الأنباء الواردة من دوما بالعثور على مدنيين صرعى في منازلهم من الاختناق، والصور التي تُظهر أطفالاً يكابدون لالتقاط أنفاسهم- قد استرعت انتباهاً عالمياً.
ويقول توماس بوسرت، مستشار ترمب للأمن الداخلي على قناة ABC الأميركية: "هذا الأمر لا يخص الولايات المتحدة وحدها؛ بل هو قضية تتفق عليها جميع الأمم والشعوب منذ الحرب العالمية الثانية. هذه ممارسة غير مقبولة". وفيما يتعلق بالرد الأميركي، قال بوسرت إن جميع الخيارات مطروحة، "هذه الصور مريعة. ونحن ننظر في الأمر بالوقت الراهن".
ويقطع الجيش السوري دوما بشكل كامل عن العالم الخارجي، مما يجعل التحقق من نوعية الأسلحة المستخدمة وعدد الخسائر في الأرواح ومصدر الهجوم أمراً بالغ الصعوبة. ونُقلت الصور من بعض سكان دوما وجماعات حقوقية وفريق "الخوذ البيضاء"، وهو فريق من المتطوعين المدنيين تم ترشيحهم لجائزة نوبل للسلام؛ لما يقدمونه من أعمال الإغاثة.
وجاء هجوم الأسبوع الماضي العنيف بعد انهيار المفاوضات، يوم الجمعة 6 أبريل/نيسان 2018، بين المعارضة والحكومة حول إخلاء المقاتلين من المدينة وإنهاء الحصار والسماح للحكومة باستعادة السيطرة على المدينة. ونقلت وسائل إعلام حكومية روسية يوم الأحد 8 أبريل/نيسان 2018، أن المعارضة قد وافقت على التخلي عن آخر معاقلها بالغوطة، في الأحياء الشرقية من العاصمة السورية الشاسعة. ويمكن أن يكون للتأخير أثرٌ على زخم الرد العسكري الأميركي.
ووصفت الخارجية الروسية، في بيان لها، مزاعم تنفيذ هجوم بالأسلحة الكيماوية بـ"الخدعة" المنصوبة لحماية "الإرهابيين". وقالت الخارجية: "حذرنا من مثل هذه الاستفزازات كثيراً من قبل. والهدف من تلك الادعاءات الكاذبة، التي لا تستند إلى أي دليل، هو حماية الإرهابيين والمعارضة الراديكالية التي ترفض التوصل إلى تسوية سياسية، ومحاولة تبرير تنفيذ غارات عسكرية خارجية".
ودعت السيناتور الجمهورية عن ولاية مين، سوزان كولينز، ترمب إلى إعادة النظر في قراره بسحب القوات الأميركية من سوريا. كما حثته على اتخاذ خطوة غير مسبوقة بفرض عقوبات على موسكو لتقديمها المساعدة منذ زمن طويل لدمشق.
وقالت في حديث لبرنامج "حالة الاتحاد" على قناة CNN الأميركية: "في المرة الماضية حين حدث ذلك نفذ الرئيس هجوماً موجَّهاً لتدمير بعض المنشآت. وهذا يمكن أن يكون اختياراً مطروحاً الآن، غير أنه يمكن أن يكون سبباً إضافياً لأن يصعّد الرئيس الضغط والعقوبات على الحكومة الروسية؛ لأنه دون دعم روسيا لا أعتقد أن الأسد كان سيبقى على كرسيّه".