أحبطوا بشار الأسد، وأزعجوا بوتين، وأغضبوا إسرائيل.. علم جديد يتجاوز عمل الاستخبارات ويميز القاتل من المقتول

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/08 الساعة 08:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/13 الساعة 15:15 بتوقيت غرينتش

داهمت السلطات الإسرائيلية العام الماضي قرية فلسطينية بدوية في صحراء النقب تدعى "أم الحيران"، حيث قام أحد المواطنين بدهس ضابط إسرائيلي أثناء الاقتحام، فيما أطلقت قوات الشرطة النار تجاهه مما أدى إلى مقتله.

الحادثة تم تصويرها من خلال طائرة مروحية للشرطة الإسرائيلية، وتم بث فيديو الدهس لاحقا لإثبات أن المواطن قام بالهجوم على عناصر الشرطة بشكل متعمد.

لكن علم جديد بدء يأخذ طريقه إلى النجاح، كشف قصة مختلفة تماما تحدثت عنها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.

"العمارة الجنائية" المصطلح الذي ظهر لأول مرة في عناوين صحف نُشِرَت العام الفائت، حقَّقت في مقتل مراهقَين فلسطينيين في الضفة الغربية. كانت طواقم عمل الإعلام المحلي والعالمي قريبة ومتاحة للمساعدة عندما قُتِلَ المراهقان. وسجَّلَت كاميرات المراقبة إطلاق النار. وقالت وزارة الدفاع الإسرائيلية في البداية إنَّ المراهقين كانا يرميان زجاجات المولوتوف على الجنود الإسرائليين، على الرغم من أن الصور أظهرت عكس ذلك. كما صرح وزير الدفاع فيما بعد بأنّ الفيديو قد زُيِّف.

بحثت "الهندسة الجنائية" في الفيديوهات ومنشورات الشبكات الاجتماعية. ثم جمّعت بواسطة برنامج محاكاة معماري نموذجاً حاسوبياً للموقع، وتتبّعت مسار طلقات الرصاص. حدّد ذلك بدقة الجندي الذي أطلق الرصاص على المراهقين والسلاح الذي استخدمه. وبمقارنة البصمات الصوتية، طابقت العمارة الجنائية صوت الرصاصات القاتلة بالصوت المميز للذخيرة الحية، وهو ما ناقض ادّعاء الجيش الإسرائيلي بأنه لم يستخدم إلا الرصاص المطاطي. ساهم هذا كله في تناقض الجنود الإسرائليين، واتهام الجندي بالقتل غير المتعمد.

تُعرض دراسة حول عمل العمارة الجنائية في معهد الفنون المعاصرة بلندن حتى 6 مايو/أيار حيث تعمل مجموعة تعاونية للعمارة الجنائية تضم مصممين وصناع أفلام ومبرمجين وعلماء آثار وعلماء نفس وآخرين من المقيمين في كلية جولدسميث التابعة لجامعة لندن، عملاً قد يقلّ أو يتخطّى عمل وكالات التحريات. وهي تتشارك مع جماعات مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش. كما أن المجلس الأوروبي للأبحاث أحد مموليها.

وتعدّ تحقيقاتها شخصية وليست رسمية. وأما مؤسسها هو المحقق المعماري الإسرائيلي-البريطاني إيال وايزمان.

وبدلاً عن تصميم المنازل وناطحات السحاب، تنقّب الجماعة عن الأدلة على الكذب والجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان. وذلك عن طريق دمج المهارات المكانية والهندسية للمعماريين، ببراعة أمناء المكاتب في جمع المعلومات، وإصرار الصحفيين الاستقصائيين، ودهاء السرد القصصي لدى كتاب السيناريو.

أزعجت تقارير الجماعة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني، وأحبطت الرئيس السوري بشار الأسد، وأثارت هجوم هيئة أخبار روسيا اليوم التابعة لبوتين، وأغضبت المسؤولين الإسرائيليين.

ولدى مؤسسها وايزمان تاريخٌ طويلٌ واستثنائي من الصراعات الداخلية. فقد وُلِدَ في حيفا، ودرس في الجمعية المعمارية بلندن، وكان لا يزال يخطو خطواته الأولى كمهندس معماري في تل أبيب، عندما بدأ بدراسة تراث تخطيط المدن في الأراضي المحتلة.

أوحى له ما رآه بأن الهندسة المعمارية متورطة في انتهاكات حقوق الإنسان. واختير في عام 2002 لتنظيم عرض للهندسة المعمارية الإسرائيلية الجديدة برفقة زميله رافي سيغال. عرض وايزمان وسيجال مستوطنات في الأراضي المحتلة.

ما أدى لفزع الجمعية الإسرائيلية للمهندسين المعماريين وألغت العرض، وسحبت الكتالوغ. وأثارت هذه الحادثة اهتمام وايزمان، وجعلته يفكر.

لا فتحة.. لا هولوكوست

لا يبدو أن توقيته كان يمكن أن يكون أفضل من ذلك، فالتكنولوجيا تجعل أدوات البحث الجنائي ديمقراطية، وتوسع مجالات عمل المعماريين الشباب.

بدأ وايزمان كتابه الأخير "العمارة الجنائية" بالعودة إلى محاكمة طعن بلندن رفعها عالم التاريخ الذي يُنكِر حدوث الهولوكوست ديفيد إيرفينغ، قبل ما يقرب من عقدين من الزمن. استندت قضية إيرفينغ على برهان معماري، فقد صنع صور أقمار صناعية غير واضحة تظهر هدم محرقة في معسكر أوشفيتز. وقال الناجون إنَّ قنابل غاز السيانيد أُسقِطَت عليهم عبر فتحة في سقف المحرقة، لكن إيرفينغ قال إنَّه لا توجد فتحة في سقف المحرقة كما تظهر صور الأقمار الصناعية. وأصبح شعار منكري محرقة الهولوكوست هو "لا فتحة، لا هولوكوست".

خسر إيرفينغ مرافعته، لكن وايزمان اعتبر القضية قصة تحذيرية، ويُمكن أن تحرّف أدوات التحليل الجنائية بسهولة. ولأن الحكومات والقوى الأخرى المدافعة عن العنف والجريمة هي التي تسيطر عليها، يجب أن تتحداها وسائل مكافئة ومتطورة. قد تكون العمارة والتحاليل الجنائية تخصّصين مختلفين، لكن عند جمعهما يمكن أن ينتج تخصص جديد، أو كما أدرك وايزمان وسماه "أسلوب مختلف من الممارسة"، يمكن أن يساعد على استعادة "النظرة الجنائية" إلى أجهزة الدولة التي "تحتكرها عادة". 

سمى وايزمان هذه الممارسة "ممارسة جنائية مضادة" متبنياً بذلك عبارة صكَّها المصور ألان سيكولا.

وقفت ذلك اليوم بجانب مكتب الجماعة شرقي لندن. كان عشرات الباحثين يحدقون في شاشات حواسيبهم، وكان من ضمنهم نيك ماسترتون الذي كان يجمِّع، باستخدام جدول زمني وحاسوب ثلاثي الأبعاد، نموذجاً عن حريق برج غرينفيل الذي أودى بحياة 71 شخصاً في لندن العام المنصرم. أمضى ماسترتون وفريق غرينفيل شهوراً عديدة ماضية في ربط آلاف الصور ومقاطع الفيديو ومجموعة كبيرة من البيانات الوصفية مفتوحة المصدر التي تتعلق بالحريق ببعضها.

أخبرني ماسترسون أنه يستخدم بعض التقنيات التي تعلمها في مدرسة العمارة عندما كان التصميم البارامتري صرخة في عالم العمارة.

تعتمد العمارة الجنائية على برامج حاسوب وبرامج رسوم رقمية تصمم مجسمات أبنية غريبة لإعادة تمثيل المباني المحطمة بفعل القصف، والتعرف على أنماط الحطام الذي سببه قصف طائرات بدون طيار، وتوثيق المآسي مثل هذا الحريق. وبالطبع، ينقّب ماسترسون عن الصور على الإنترنت.

لقد صار القول بأن الهواتف الذكية والشبكات الاجتماعية تغمر عالم اليوم بالصور كليشيهاً يغير الجدالات العامة حول السلطة والمراقبة والعنف والعِرق. بالنسبة لوايزمان، يمكن أن تكون "صور الحطام" كما يسميها مربكة ومفيدة في الوقت نفسه لكنها تحتاج إلى أن تُركَّب. فهي تتطلب "تشييداً وتكويناً، أي أنها تتطلب هندسة معمارية"، والنتيجة حسب قوله هي "مجموعة من الصور المعمارية" التي تعمل مثل عدسة تسمح للناس بـ "رؤية مسرح الجريمة على أنه مجموعة من العلاقات بين الصور في الزمان والمكان".

كريستينا فارفيا هي الآن مُنسِّقة أبحاث في العمارة الجنائية، حين سألتها عمَّا إذا كان عملها مرتبطاً بما تفعله كمعمارية، قالت لي: "ما نفعله موجودٌ فعلاً في "العمارة الورقية"، باستثناء أننا نتوقَّع النتائج. وكمعمارية، فنحن مُتدرِّبون أيضاً على جمع أناسٍ مختلفين معاً من أجل إنتاج تصميم. لكن في المقابل، نحن نختلق الأدلة".

وكالة عابرة للقارات

ومنذ العام 2011، حين أسَّس وايزمان الوكالة، توسَّع عملها لتتجاوز إسرائيل والأراضي الفلسطينية إلى المكسيك، وغواتيمالا، وأفغانستان، وأوروبا. وكان تحقيقها في ما إذا كان عميلٌ ألماني متخفٍ قد كذب في شهادته في قضية قتل رجلٍ من أصلٍ تركي في مقهى إنترنت، هو مِن أكثر التحقيقات غموضاً وخداعاً في معهد الفنون المعاصرة.

كما كانت أكثر القضايا المؤلمة قد حدثت في صيدنايا، السجن سيئ الصيت خارج دمشق.

منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية، اختفى الآلاف من الأشخاص داخل مراكز الاعتقال. في صيدنايا، يُحتَجَز السجناء في الظلام، ويتعرَّضون للتعذيب والضرب إن تكلَّموا. لا يُسمَح للأشخاص من خارج السجن بالدخول إليه، وما مِن صورٍ حديثة متوافرة من الداخل.

وبالتعاون مع منظمة العفو الدولية، حاورت الجماعة المعمارية خمسة معتقلين بصيدنايا في إسطنبول. طلب السجناء من الباحثين أن يصفوا المبنى. خَنَقَ كرب الصدمات التي تعرَّضوا لها ذكرياتهم، لكن العمارة نفسها قدَّمَت سنداً لهذه الذاكرة. لم يكن من الممكن أن يُستخَف بأيٍّ من التفاصيل. وبناءً على ما في الذاكرة من روائح الدم والشحم، وأصوات تتهادى لمُحرِّك شاحنةٍ تجلب سجناء آخرين، أو جلبة مجموعة من الحرَّاس يضربون نزلاء جدداً، في زنزانةٍ بعد أخرى، تمكَّنَت العمارة الجنائية من بناء نموذج حاسوبي لسجن صيدنايا.

أوضح وايزمان قائلاً: "حين ترتكب دولةٌ جريمةً، تُطوِّق الموقع، وهذه ميزةٌ للدولة. ويصبح الموقع منطقةً للعمارة، مُمَيَّزاً بالطوق نفسه. والسجن بالتعريف هو عمارةٌ، ويمكنك اختراق الطوق، من خلال التسريبات، والصور التي تنشرها وسائل الإعلام، وصور الأقمار الصناعية. وحين لا تتوافر هذه الأشياء، تُشكِّل الذاكرة طريقةً للالتفاف حول الطوق. وفي كل قضيةٍ، تكون المنطقة المُطوَّقة هي "موقع البناء" الذي نفحصه".

تركوه ينزف حتى الموت

وبالعودة إلى القرية البدوية، أم الحيران، الواقعة جنوب "إسرائيل" والتي دُهمت، كان موقع البناء فيها هو التل المغبر حيث دهست السيارة ضابط الشرطة. كان الإرهابي المُفتَرَض في تلك القضية مزارعاً يُدعى يعقوب موسى أبو القيعان، أما الشرطي الذي دُهِس فيُدعى إيرز ليفي.

وبالتعاون مع مجموعة ActiveStills، وهي مجموعة تصوير فوتوغرافية مقرها إسرائيل، استخدمت المسح التصويري، وزامَنَت كل صورة وفيديو متوفِّر للمداهمة، وأنتجت بذلك تسجيلاً صوتياً مماثلاً. وعند تشغيل التسجيل الصوتي إلى جانب أفلام التصوير الحراري، كَشَفَ ظهور ثلاث طلقات نارية من سلاح شرطيّ ظهرت فيها ومضات الحرارة، لكنها قد أُغفَلَت في مقطع الفيديو الصامت من طائرة الهليكوبتر. أُطلِقَت النار على سيارة أبي القيعان قبيل أن تُسرِع أسفل التل ناحية إيرز ليفي.

وبعد فترةٍ وجيزة من هذا الكشف، نشرت صحيفة Haaretz الإسرائيلية تقرير تشريح للجثة يكشف أن أبا القيعان عانى جرحين جراء الإصابة برصاصتين؛ واحدة منهما في ركبته اليمنى في الساق التي يتحكَّم بها في دوَّاسة الوقود. وكشف الجرح عن تفسيرٍ بديل للسبب وراء إسراع أبي القيعان بسيارته وهي مضاءة الأنوار، بعدما كان يسير ببطء، كما لو أنه فقد السيطرة على سيارته.

واصلت الشرطة إصرارها على أنه كان إرهابياً، لكن بعد أكثر من شهرٍ من المداهمة، غيَّرَ جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) ووزارة العدل القصة، وأعزوا الواقعة إلى تخبُّط الشرطة.

لكن ما ظلَّ من دون توضيح هو الرصاصة الثانية، إذ شهد فلاحو القرية برؤية ضابط إسرائيلي يُطلِق النار على أبي القيعان من مسافةٍ قريبة بعد أن توقَّفَت سيارته.

لذا واصلت العمارة الجنائية تحقيقها.

أعادوا تمثيل الحدث في أم الحيران بمساعدة المُتطوِّعين، باستخدام نفس طراز السيارة، مؤكِّدين أن السيناريو الذي فقد فيه أبو القيعان المُصاب السيطرة وأسرع أسفل التل مُطابقٌ لمقطع الفيديو الدليل على الحادث. واتضح أن أبواب سيارة اللاند كروزر تُغلَق أوتوماتيكياً حين تصل سرعة السيارة إلى 20 كيلومتراً في الساعة، كما جرى في حالة سيارة أبي القيعان قبل أن تنحني إلى طريقٍ مسدود أسفل التل.

ومن مقطع فيديو التقطته طائرة هليكوبتر، يتضح أن باب السيارة المُجاوِر للسائق كان مفتوحاً حين حاصرت الشرطة السيارة المُتوقِّفة، ما يعني أن أبا القيعان فتح الباب طوعاً. ثم اخترق صوت طلقة الصوت الظاهر في مقطع الفيديو.

استقرت الرصاصة الثانية تحت قلب أبي القيعان. وقال تقرير مُسرَّب لتشريح الجثة إنه نَزَفَ حتى الموت من هذه الإصابة، بينما احتُجِزَت عنه العناية الطبية.

قد انتهى تحقيقٌ أجرته وزارة العدل مؤخراً، دون أن يخلُص إلى أي استنتاجات. وتنتظر القضية المُدَّعي العام الإسرائيلي ليُصدِر حكمه النهائي.

علامات:
تحميل المزيد