في الخارج كانت هناك عاصفة رعدية، فيما اصطف الناس أمام الكنيسة، وخلعوا معاطفهم المبتلة بمياه المطر وهم يجلسون في مقاعدهم. ثم انتظروا.
وصل إلى المنصة بعد تأخيرٍ نصف ساعة… تلكَّأ هنيهةً وهو يعتليها، ثم مال على كومةٍ من الميكروفونات، وحين سُلِّطَت عليها أضواء كاميرات المصورين التلفزيونيين، لمع وجهه قبل أن يلقي خطابه الأخير.
إنها الساعات الأخيرة من حياة مارتن لوثر كينغ الابن. ساعات مليئةً بالأحداث المتسارعة وبالتفاصيل المثيرة، قبل أن تضع رصاصةٌ حداً لحياته، بعد كفاح مستمر في الولايات المتحدة للدفاع عن حقوق السود.
رصاصة واحدة أنهت نصف قرن من الكفاح من أجل حلم.. الحلم كان لمارتن لوثر كينغ، الداعية الأكبر للحقوق المدنية للسود في أميركا والذي اغتيل قبل أن يتحقق حلمه في الأرض الموعودة، كما كان يقول..
لكن الحلم نفسه لم يمت، ونال السُّود حقوقهم خلال تلك الأعوام الخمسين، بعد رحيل أصغر من فاز بجائزة نوبل للسلام، والذي حلّت ذكراه في الرابع من أبريل/نيسان 2018.
في مساء الرابع من أبريل نيسان 1968 تسارعت الأحداث.
وصل كينغ إلى كنيسة ماسون تيمبل في مدينة ممفيس بولاية تينيسي، حيَّا الحاضرين، وأثنى على شجاعتهم في وجه العاصفة، وحضورهم إلى التجمع، بما يُظهر أنَّهم يملكون من الجَلَد ما يكفي لمواصلة إضراب عمال الصرف الصحي في ممفيس، كما نشرت صحيفة The guardian البريطانية في تقريرها عن آخر 31 ساعة في حياة كينغ
كان كينغ يخطب في الكنيسة، بينما كان الرجل الذي قرر اغتياله يقبع في مكان قريب، في نُزُل نيو ريبيل New Rebel motel.
خريطة تظهر كنيسة ماسون تيمبل في مدينة ممفيس بولاية تينيسي حيث ألقى كينغ خطابه الأخير ونزل لورين Lorraine Motel الذي شهد اغتياله ثم بعد ذلك إلى متحف الحقوق المدنية
كان متعبا وقلقا ومتعجلا
حكى أحد كهنة الكنيسة أنَّ كينغ بدا ساعتها "قلقاً، وتعباً، ومنهكاً، ومتعجلاً"، وأنه كان مصاباً بالتهابٍ في الحلق ولم ينم جيداً. ومع نهاية الخطاب بدا واضحاً لجميع من كانوا في الكنيسة أنَّ هناك سبباً آخر لغرابة تصرفاته.
لم يكن لدى كينغ وقتٌ ليُحضِّر لخطابه، حتى وإن كان ينوي ذلك، وعادةً ما كان يتحدث دون ملاحظاتٍ مكتوبة، حتى وإن كان في ذلك مخاطرةٌ كبيرة.
وفي أولى لحظاته الفارقة كزعيم حقوقي مدني، بالحشد الذي أطلق حملة مقاطعة الحافلات في مونتغمري عام 1955- لم يكن لديه سوى 20 دقيقة ليُعِدَّ ويكتب ما يودُّ قوله.
وألقى حينها خطاباً طربت له نفوس الحضور، وانخرطوا في التصفيق والصياح مؤيدين له. وحملته عبارة "أملك حلماً"، التي أنهى بها خطابه في مسيرة واشنطن عام 1963، إلى صفوف القادة الأسطوريين. ولم تكن العبارة سوى مشهد خرج فيه عن النص المكتوب، لكنه صنع بها تاريخاً.
استعارات من التاريخ والفلاسفة
تحدث عن مصر واليونان ولينكولن محرر العبيد
كان الموضوع الأول الذي تناوله خطابه في الكنيسة مساء ذاك الأربعاء، يبدو بعيداً كل البعد عن ممفيس. طلب كينغ في خطابه وهو يتحدث بهدوء، أن يتخيل الحضور أنَّ "الرب القدير" قد أعاده إلى الزمن الماضي؛ ستكون محطته الأولى هي مصر في العصور المسيحية، وسيزور بعدها اليونان الكلاسيكية، والإمبراطورية الرومانية، وعصر النهضة، وحركة الإصلاح البروتستانتي، وسيشهد كذلك توقيع لنكولن إعلان تحرير العبيد.
لم تكن تفاصيل الرحلة عبر الزمن، بطبيعة الحال، محور خطاب كينغ؛ بل استخدمها كأداة بلاغية لتأكيد حديثه وجذب انتباه المستمعين. فقد اعتاد أن يُضفي طابعاً درامياً على خطاباته ومواعظه. وفي خطاب ممفيس، جمع بساطة قصص الأطفال بنظرة شاملة للتاريخ، مع إشارات مرجعية إلى رموز تاريخية قديرة.
ارتفعت حدة صوته في نغمة موسيقية
وهو يروي تخيُّله لمحطته في اليونان القديم، تحدث عن لقائه المُتخيَّل بأفلاطون، وأرسطو، وسقراط، ويوربيدس،. لم يكن يعبأ بأنَّ قلةً فقط من مستمعيه تعرف تلك الأسماء. فقد كان كينغ يُطعِّم خطاباته غالباً ببعدٍ فكري بارز.
ولم يتحدث بلسان مارتن لوثر كينغ الإنسان؛ بل أيضاً بلسان كينغ اللاهوتي الذي يحمل الدكتوراه من جامعة بوسطن. كان لسان رجل متعلم، بوسعه أن يلفظ أسماء فلاسفة ومؤلفين مسرحيين قدامى؛ لإضفاء صبغة شعرية على حديثه.
زادت حدة صوته وارتفع وهو يواصل حديثه. ذلك الصوت الجهور الثوري بدا كأنَّه يخرج من بئر عميقة. كان صوته يرتفع ويخفت في نغمة شبه موسيقية؛ وكان قريباً من الأفهام وبليغاً في الوقت ذاته.
طلب الفقراء أن يثوروا مثل عبيد مصر الفرعونية
في ممفيس، تحدث كينغ وهو يتناول أحد أبرز موضوعات خطابه في كنيسة ماسون تيمبل بلهجةٍ متشائمة قاتمة، فقال إنَّ اختيار البشرية لم يعد يقتصر على العنف أو اللاعنف، ثم طرق بأصابعه على المنصة، وقال إنَّ الخيار أصبح بين اللاعنف و"اللاوجود". وواصل حديثه قائلاً إنَّه إن لم تتحرك الحكومة بسرعة للتخفيف من فقر الأميركيين ذوي الأصول الإفريقية، فإنَّ هذه الأمة محكومٌ عليها بالهلاك.
ثم تحوَّل كينغ إلى رسالة أخرى يدعو فيها إلى الوحدة. وحثَّ المُضربين على البقاء معاً، مستشهداً بمقطع من العهد القديم. وطالبهم بأن يظلوا متحدين، تماماً كما اتحد العبيد في مصر القديمة ضد الفرعون ليفروا من الأغلال.
وكانت الرموز الدينية تنساب في حديثه بأريحية؛ إذ كان والده القسيس مارتن لوثر كينغ الأب يدفعه إلى حفظ الكتاب المقدس وتلاوة آياتٍ منه على طاولة العشاء، حتى حين كان لا يزال فتًى صغيراً. أما والدته التي كانت عازفة أرغن في الكنيسة، فقد زرعت في ثنايا روحه مسحةً دينية من خلال الأغنيات.
ألقى بعض العبارات العاطفية والنكات اللطيفة
منذ نعومة أظفاره، أبدى كينغ براعةً في الخطابة. فقد كان صبياً في الـ15 من عمره -أي في آخر سنة بالمدرسة الثانوية، متجاوزاً أقرانه بفصلين دراسيَّين- حين فاز في مسابقةٍ للخطابة على مستوى الولاية بين الطلاب الأميركيين ذوي الأصول الإفريقية. وحين كان في الـ18، دعاه والده إلى إلقاء عظة الأحد في إيبنزير. وأذعن لطلب والده رغم أنَّه لم يتلقَّ تدريباً رسمياً في الكهانة.
تايلور برانش الذي تولى كتابة سيرة كينغ، يصف تلك اللحظة قائلاً إنَّ الواعظ الجديد "بدا كأنَّه يعكس كينونته الكاملة في التعبير عن عواطفه؛ ووقف الحضور احتفاءً به".
وبعد إتمامه دراسة علم اللاهوت، صقل كينغ ملكاته وأسلوب حديثه؛ فدرس فنون الوعظ لدى الوعاظ الأميركيين من أصولٍ إفريقية. وأمعن في دراسة آدابهم وحفظها حتى تمكن من تقليدها وبات لديه مخزونٌ منها.
وكان مُنتبهاً إلى ما يمكن للمجازات والاستعارات الصورية أن تفعله في بناء مخزون بلاغي لديه. وكان يُدوِّن في دفتر بُنّي اللون بحجم الجيب النكات التي تسترعي انتباهه. ومن بين ما دوَّنه كان: "لا شيء يعلمك كصدمة تهز كيانك". ودوَّن عبارة أخرى لجان جاك روسو: "شعور القلب فوق المنطق".
حكى عن تعرضه لمحاولة اغتيال سابقة
وتجلى تمكُّن كينغ من الكلمات في ماسون تيمبل مساء ذاك الأربعاء. فكما كان يفعل دائماً في معظم خطاباته، أثار موضوعاً محلياً ليرتقي به إلى قضيةٍ قومية، حيث دعا مستمعيه إلى دعم عمال النظافة في ممفيس؛ وقال إنَّهم إذا فعلوا ذلك فلن يُشكلوا فقط مستقبل مدينتهم؛ بل سيحوِّلون وجه الأمة بأسرها بما يضربونه من مثل.
ثم اتخذ خطابه منحىً شخصياً. فأخبر الحضور بأنَّ امرأةً أميركية من أصول إفريقية مهووسة طعنته عام 1958 حين كان ينشد التراتيل في هارلم. وانغرس سن النصل في صدره على بُعد مسافة يسيرة من الشريان الأورطي. وقد خضع لجراحةٍ لإزالة السكين وتضميد الجرح، ثم علم بعد ذلك أنَّه كان محظوظاً جداً، فلو كان حتى قد عطس بينما السكين تنغرس في شريانه لكان قد مات.
فقال إنَّه لو كان قد عطس لم يكن سيحضر اعتصام الفصل العنصري لطاولات الغداء، ولا حملات حركة فرسان الحرية لإنهاء قوانين جيم كرو حول الحافلات المتنقلة بين الولايات، ولا حملة برمنغهام ولا تطبيق قوانين الحقوق الفيدرالية، ولم يكن ليُلقي خطاب "أملك حلماً" في واشنطن، ولم يكن ليحضر مواجهة سيلما حول حقوق التصويت، ولا فيضان الدعم المجتمعي في ممفيس للإضراب الذي دفعه إلى المجيء إلى المدينة.
والتحذيرات من القتل التي تلقاها اليوم
وبدت روايته قصة إشرافه على الموت كأنَّها نقلته إلى غمامةٍ كثيفة حول موته. حيث تلقى تهديداً بالموت قبل رحلته إلى ممفيس، ما اضطره إلى تأجيل السفر من أتلانتا ذاك الصباح.
وأخبر كينغ مستمعيه كيف أنَّ شركة الطيران أخذت التهديد بموته على محمل الجد، وقامت بحراسة الطائرة خلال الليل، وفتشت حقائب كل المسافرين؛ بحثاً عن متفجرات. وقال إنَّه فور وصوله إلى ممفيس، سمع مزيداً من الكلام حول تهديداتٍ بقتله.
سبق أن تحدث كينغ كثيراً عن خوفه من أن يموت ميتةً عنيفة، ولكن لم يكن من المعتاد أن يتحدث علناً عن عمق أساه وهو يفكر في خوفه من الموت. فعادةً ما كانت النغمة التي يتحدث بها عن الموت بسيطة ومطمئنة ورابطة الجأش. بيد أنَّه بدا تلك الليلة في ممفيس قلقاً من أن يكون هدفاً لرصاصة اغتيال في أي لحظة.
وتذكر محاولة سابقة لتفجير منزله
سبق لكينغ أن تعامل عدة سنوات مع ذاك الخوف. ففي بدايات اشتغاله بزعامة الحقوق المدنية في مونتغمري، فُجِّرَ الرواق الأمامي لمنزله. ولم يكن منه إلا أن أعلن بعناد بعد فترةٍ وجيزة: "أخبِروا من في مونتغمري بأن بوسعهم أن يواصلوا التفجير، سأموت سعيداً؛ لأنَّني صعدتُ إلى قمة الجبل ورأيتُ الأرض الموعودة، وستكون هنا في مونتغمري".
وقبل شهرين من حديثه بماسون تيمبل، تطرق في موعظة الأحد بإبينزير، إلى احتمالية موته مبكراً، وكان في واقع الأمر يُلقي موعظةً فيها تأبينٌ لنفسه. وقال إنَّه لم تعد هناك حاجة لكل ما أُضفيَ عليه من ألقاب التشريف؛ بل إنَّه يفضل "أن يذكر أحدٌ ذاك اليوم الذي حاول فيه مارتن لوثر كينغ الابن أن يقدم حياته في خدمة الآخرين وأنَّه كان يقود الجهود لتحقيق العدالة".
وفي أواخر شهر مارس/آذار، حين حزم أمره على الرجوع إلى ممفيس، أسرَّ إلى والديه أنَّه يمكن أن يلقى حتفه في أي لحظة.
ارتفع صوته لأقصى حد وقال إنه يريد أن يعيش طويلا
وحين وصل إلى نهاية خطابة في كنيسة ماسون تيمبل، بدا أنَّه قد تصالح مع فكرة الموت إلى حدٍ لم يسبق له أن أعلن عنه أمام الملأ من قبلُ.
علا صوت كينغ ليصل إلى أقصى حدٍ ممكن، ورمش بعينيه بسرعة وهو يقلب رأسه من جهةٍ إلى أخرى. وأقر بأنَّه كان يريد أن يعيش حياةً طويلة، ولكنَّه سلَّم لما ستضعه الأقدار في طريقه أياً ما كان. وقال إنَّ الرب قد سمح له بأن يصل إلى قمة الجبل ويرى الأرض الموعودة.
ثم ألقى وعداً قاطعاً نبيلاً: "يمكنني ألَّا أصل إلى هناك معكم. ولكنِّي أريدكم الليلة أن تعرفوا أنَّنا، كبشر، سنصل إلى الأرض الموعودة!".
وأنهى خطبته بمسحةٍ من الحماسة الدينية حين قال إنَّه لا يشعر بالقلق، وإنَّه لم يخشَ أحداً قط، وقال بعبارةٍ بليغة ختامية: "لقد رأت عيناي جلال قُرب الإله".
هذه الاستعارة من ترنيمة معركة الجمهورية كانت أساساً لكل خطاباته. وتحتفي هذه الكلمات التي سطَّرتها الشاعرة والناشطة الأميركية جوليا وارد هاو عام 1861، بمعركةٍ شرسة استمرت حتى الموت باسم تحرير العبيد الأميركيين.
إنَّها دعوة للمطالبين بالتحرر من العبودية لأن يقتفوا أثر المسيح في التضحية بأنفسهم في سبيل قضيةٍ عادلة.
تحدث كينغ 43 دقيقة، ثم استدار وقد أعياه التعب واغرورقت عيناه بالدموع، وترنح حتى وصل إلى كرسيه على المنصة. وبدا متهادياً وقد فقدَ قدرته على الوقوف.
وأشعل التصفيق والدموع في قاعة الجمهور
أمسكه رالف أبيرناثي، الناشط الحقوقي والصديق المقرب من مارتن، وساعده في الجلوس على الكرسي. ويقول المحامي مايك كودي وهو يتذكر هذا اليوم: "بدا ككُرةٍ فَكَّ أحدهم سدادتها ليهرب الهواء منها، وكأنَّ أحداً قد امتص كل طاقته".
حين هوى كينغ إلى كرسيه، وقف الحضور وهم يصرخون ويصفقون. ووصفت المؤرخة جوان بيفوس، في وقتٍ لاحق، الحضور بأنَّهم كانوا "أسرى الدمع والتصفيق".
وحتى في أوساط الكهنة الذين كانوا يعلمون جيداً مهارات الخطابة لدى كينغ، ارتعدوا جميعاً بفعل الشحنة العاطفية التي كانت في خطابه. وقال بيلي كيليس لاحقاً: "لم يسبق أن سمعت هذه الحدة أو الشغف أو الدراما بصوته، وفي الطريقة التي كان يلقي بها حديثه، وظل يزداد قوةً بعد قوة".
وأضاف أنَّ كينغ بدا كأنَّه يُجهِّز لموته من خلال التطهر على الملأ، من "الخوف. فقد كان عليه أن يتخلص منه. كان عليه أن يطلقه كله".
وفي مذكراته، كتب أبيرناثي: "سمعته يلقي كلاماً قوياً من قبل، ولكن ليس بهذه القوة". واتصل جيسي جاكسون بزوجته وقال لها: "لقد ألقى مارتن أبرع خطاباته على الإطلاق… كان متألقاً، وكانت هناك هالة غامضة تحيط به".
وقبل الرصاصة.. لم يكن يريد الرحيل
وكما يحدث في كل خطابٍ مؤثّر يلقيه كينغ، اندفع الحضور نحوه. وجرت العادة لدى كينغ أن يخرج من المكان بسرعة حين يندفع الجمهور نحوه، غير أنَّ أحد الكهنة استدرك قائلاً: "ولكنَّه في تلك الليلة لم يكن يريد الرحيل. لم يكن يرغب إلا في أن يظل بالمكان ويقابل الناس ويصافحهم ويتحدث إليهم".