يقصدها المحتجون واللاجئون والإرهابيون.. 50 عاماً من تاريخ سفارات أميركية صنعت التاريخ

وشهدت السفارات دوماً -بوصفها مواقع تابعة للحكومات الأجنبية عملياً ورمزياً- الكثير من الوقفات الاحتجاجية على السياسات، فضلاً عن كونها أهدافاً لهجماتٍ أكثر دموية، مما يجعلها دائمة التغيير؛ بحثاً عن مواقع أكثر تأميناً.

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/05 الساعة 11:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/05 الساعة 16:12 بتوقيت غرينتش

في أثناء الحرب العالمية الثانية، أنشأ الجنرال دوايت أيزنهاور مقره العسكري في الجهة المقابلة للسفارة الأميركية في ميدان غروسفينور بلندن، ليُعرف الميدان بعدها باسم "أميركا الصغيرة".

كانت السفارة قبل ذلك قد اتخذت مقراتٍ لها بالعديد من المباني وسط لندن قبل أن تستقر في ميدان غروسفينور في عام 1938، وفي مقرها الحالي منذ الخمسينيات.

وشهدت السفارات دوماً -بوصفها مواقع تابعة للحكومات الأجنبية عملياً ورمزياً- الكثير من الوقفات الاحتجاجية على السياسات، فضلاً عن كونها أهدافاً لهجماتٍ أكثر دموية، مما يجعلها دائمة التغيير؛ بحثاً عن مواقع أكثر تأميناً.

وحين تنتقل السفارة الأميركية إلى مقرها الجديد مطلع العام المقبل (2019)، ستكون تلك هي النهاية لعلاقةٍ تعود إلى عقودٍ مع هذه المنطقة من حي ماي فير؛ إذ عاش أول سفيرٍ أميركي لدى بريطانيا -الذي أصبح فيما بعدُ الرئيس الأميركي جون آدامز- في منزلٍ لا يزال قائماً بالميدان، من عام 1785 إلى 1788.

واضطُرَّت الولايات المتحدة إلى ترك هذا المقر القديم في المقام الأول بسبب مخاوف أمنية مُتعلِّقة بالإرهاب، في عصرٍ أصبحت فيه السفارات حصوناً صغيرة. وكان مستحيلاً نصب وسائل الرقابة والتأمين التي تُلبِّي معايير الحكومة الأميركية حول مبنى في قلب لندن التاريخية، إلى جانب استياء السكان من التدابير الأمنية المتزايدة.

وفي عصر القوة الأميركية العظمى، أصبحت المواقع الأميركية خارج البلاد تحظى بأهميةٍ خاصة، وكثيراً ما كانت في قلب الأحداث المؤثرة خلال القرن الماضي، صحيفة The Guardian نشرت تقريراً عن أشهر السفارات والأحداث التي جرت فيها أو حولها.

ميدان غروسفينور – لندن 1968

اكتسبت السفارة التي ستتركها الولايات المتحدة الآن -والتي ستصبح فندقاً فخماً- شهرةً عالمية في عام 1968، حين تحوَّلت تظاهرةٌ سلمية ضد حرب فيتنام إلى احتجاجٍ عنيف.

 إذ خرج نحو 8 آلاف مُحتجٍّ، معظمهم من الشباب، بمسيرةٍ من تظاهرةٍ بميدان ترافلغار في 17 مارس/آذار، رافقتهم فيها الممثلة والناشطة فانيسا ريدغريف، وكانوا يرغبون في إيصال رسالةٍ إلى السفارة.

وتفيد التقارير المعاصرة بأنَّ المحتجين دخلوا إلى الميدان الذي كان مزدحماً بالفعل. وكان بانتظارهم أكثر من 1000 شرطي، وربما 2000 شخص آخرين، من بينهم محافِظون صاحوا في وجه المحتجين قائلين: "خيانة"، إلى جانب شعاراتٍ أخرى مؤيدة للحرب مثل "اقصفوا، اقصفوا الفيت كونغ". (الفيت كونغ هم الجبهة الوطنية لتحرير فيتنام، والتي كانت تقاتل الولايات المتحدة والحكومة الموالية لها في جنوب فيتنام).

اندلعت معركةٌ شرسة، واحتدمت لأكثر من ساعة. وألقى المحتجون الذين اقتحموا حدائق السفارة، بالطين، والحجارة، والمفرقعات، وقنابل الدخان. وردَّت عليهم الشرطة، وشنَّ ضباط الخيالة هجماتٍ على المحتجين.

وأُصِيب أكثر من 80 شخصاً من الشرطة والمحتجين، وأُلقي القبض على أكثر من 200 شخص. ومثَّل العنف في واحدةٍ من أكثر مناطق لندن عراقةً ورُقيّاً لحظةً صادِمة ضمن موجةٍ من الاحتجاجات العالمية الرافضة للحرب، وأضافت مزيداً من الضغوط على الحكومات الأميركية من أجل مغادرة فيتنام.

سايغون – فيتنام 1975

أصبحت صورة الحشود اليائسة التي تتسلَّق سُلَّماً للوصول إلى مروحيةٍ تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) وهي تغادر سايغون، العاصمة السابقة لجمهورية فيتنام الجنوبية، والتي التقطها مُصوِّرٌ فوتوغرافي هولندي في 29 أبريل/نيسان 1975- إحدى الصور المُميِّزة لحرب فيتنام.

أُجلِيَ حينها نحو 7 آلاف شخص -قلةٌ منهم من الأميركيين- جواً من السفارة ومواقع أخرى بمدينة سايغون في الساعات التي سبقت سقوط المدينة. هبطت المروحيات وسط سحب الدخان المتصاعد من المحارق على أسطح المباني، بعدما أشعل المسؤولون بصورةٍ محمومة، النار في وثائق سرية وفتات الوثائق المُمزَّقة.

لخَّص تقهقرهم الفوضى المحمومة للانسحاب الأميركي، وأصبح رمزاً لإخفاقات السياسة الأوسع، في حربٍ حصدت أرواح ملايين المدنيين والجنود الفيتناميين وقرابة 60 ألفاً من القوات الأميركية.

وكانت هناك حشودٌ أكثر يأساً لم تُلتَقط ضمن صورة المروحية، لكنَّها وُثِّقت على نطاقٍ واسع بوسائل أخرى، معظمهم من المدنيين الفيتناميين المُتجمِّعين حول بوابات السفارة؛ أملاً في أن يتمكَّنوا من الخروج من المدينة. ومع اقتراب القوات الفيتنامية الشمالية، كانت تخرج التقارير التي تفيد بالعثور على مقابر جماعية في البلدات التي سيطرت عليها.

وبعد سقوط سايغون، أُغلِقَت السفارة عقدين من الزمن. وحين أُعيدت العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وفيتنام في عام 1995، كانت العاصمة الفيتنامية قد انتقلت شمالاً إلى هانوي. وسُلِّمت السفارة السابقة إلى الولايات المتحدة، لكنَّ المباني القديمة كانت قد هُدِّمت. ويُشكِّل هذا الموقع الآن جزءاً من حديقةٍ داخل أراضي القنصلية الأميركية العامة، الموجودة فيما يُسمَّى الآن مدينة "هو تشي منه".

طهران – إيران 1979

في نوفمبر/تشرين الثاني 1979، أصبحت السفارة الأميركية في طهران مركزاً لمأساةٍ ستُوقف حركة العالم، وتُلقي بظلالها على نهاية رئاسة جيمي كارتر وربما تُعجِّل بها، وتُسمِّم العلاقات مع إيران عقوداً.

إذ اقتحم طلابٌ مسلحون مبنى السفارة، واحتجزوا الدبلوماسيين، في عملية استيلاءٍ على السفارة، كان من المُقرَّر لها أن تستمر بضعة أيام فقط. لكنَّ أنباء السيطرة على السفارة انتشرت بسرعة في أنحاء إيران والعالم، وحتى بعدما أثارت صورٌ من داخل المبنى لأميركيين معصوبي الأعين وهم يسيرون بخطى متعثرة حالةً من الغضب الدولي- كان واضحاً أنَّ اقتحام الطلبة السفارة يحظى بالتأييد داخلياً.

تولَّت الحكومة الإيرانية إدارة الأزمة بدل الطلاب، وعلى الرغم من إطلاق سراح 14 رهينة بعد فترةٍ وجيزة من بدء الكارثة، احتُجِز 55 آخرون أكثر من عام في ظروفٍ قاسية؛ إذ تعرَّضوا للحبس الانفرادي، والإذلال، وحتى للإعدامات الوهمية، بالإضافة إلى أساليب حرمان أخرى، إلى أن أُطلِق سراحهم في يناير/كانون الثاني 1981، بعد ساعاتٍ من تولِّي رونالد ريغان الرئاسة. واعتُبِر على نطاقٍ واسع، أنَّ هذا التوقيت كان يُمثِّل لمحة ازدراءٍ أخيرة من جانب إيران لكارتر.

وكان يمكن للأشخاص المتضررين أن يكونوا أكثر من ذلك، لكنَّ طاقم السفارة كان قد قُلِّص إلى الحد الأدنى بعدما هُوجِمَت وسُيطر عليها فترة وجيزة في فبراير/شباط من ذلك العام. ولجأ 6 دبلوماسيين أميركيين آخرين، كانوا خارج السفارة حين اقتُحِمَت، إلى نظرائهم الكنديين، وهُرِّبوا خارج البلاد، في عمليةٍ جريئة جسدها فيلم "Argo" الشهير.

ولم يُعَد مبنى السفارة إلى الولايات المتحدة قط. وحُوِّل إلى متحفٍ يضم معروضاتٍ عن التجسُّس، الذي تقول إيران إنَّه كان يُمارَس داخل السفارة، إلى جانب "متحف وحديقة لمواجهة الغطرسة". وإلى اليوم، تجري تظاهراتٌ سنوية خارج مقر السفارة في ذكرى احتجاز الرهائن، وتتعالى صيحات "الموت لأميركا".

ساحة تيانانمن – بكين – الصين 1989

بعد إسكات الحكومة الصينية المظاهرات الشهيرة المؤيدة للديمقراطية في ساحة تيانانمن بالدبابات في مطلع يونيو/حزيران من عام 1989، فرَّ الطلاب المتظاهرون في اليوم التالي عائدين إلى منازلهم ومهاجعهم. إلا أن أحد أبرز المنشقين الصينيين خالف ذلك، وقرر ترك الجامعة التي يدرّس فيها وطلب اللجوء في السفارة الأميركية بالعاصمة الصينية بكين.

وفقاً لما جاء بالتقارير، فإنَّ الفيزيائي "فانغ لي تشي" وزوجته "لي شو آن" كانا على رأس قائمة المطلوبين لدى الحكومة الصينية؛ لدورهما في التحريض على "التمرد المعادي للثورة"؛ الأمر الذي أثار مخاوف الدبلوماسيين الأميركيين في البداية. بيد أنَّ السفارة الأميركية تلقَّت أمراً من الإدارة الأميركية في واشنطن بقبول طلب الزوجين واستضافتهما.  

أمضى "فانغ لي تشي" وزوجته ما يقرب من العام في مقر السفارة الأميركية، وهو ما كان مُحرجاً إلى حدٍ ما للإدارة الأميركية، التي كان شغلها الشاغل آنذاك هو إبقاء بكين في صفها كحليفٍ معادٍ للاتحاد السوفييتي. وبطبيعة الحال، كان كل ما يشغل تفكير الدبلوماسيين الأميركيين حينذاك هو كيفية إخراج فانغ من الصين؛ إذ كانوا يخشون أن تضرب الحكومة الصينية بالقوانين الدولية عرض الحائط وتداهم السفارة لاعتقاله.

واصل "فانغ لي تشي نشر" أبحاثه كعالم جليل ومفكر بارز، مع أنَّه كان في واقع الأمر قيد الإقامة الجبرية، وكتب مقالاً مؤثراً يزعم فيه أنَّ الانتفاضة ستصبح طي النسيان إلى حدٍ كبير في الصين قريباً، نتيجة سيطرة الحزب الشيوعي على وسائل الإعلام والتعليم، وهي رؤية ثبتت صحتها إلى حدٍ كبير.

وفي نهاية المطاف، اضطر الدبلوماسي الأميركي المحنك هنري كيسنجر والحكومة اليابانية إلى التدخل في مفاوضات إخراج الزوجين من البلاد؛ إذ وعدت الحكومة اليابانية من جانبها بإعادة تقديم القروض إلى الحكومة الصينية في حال "تسوية قضية فانغ لي تشي"، في حين نقلت الإدارة الأميركية "فانغ لي تشي" جواً إلى الولايات المتحدة، وهناك قضى بقية عمره حتى وافته المنية في عام 2012.

نيروبي – كينيا ودار السلام – تنزانيا 1998

في صباح السابع من أغسطس/آب 1998، وفي التوقيت نفسه تقريباً، تعرضت السفارتان الأميركيتان في العاصمتين الكينية والتنزانية لهجومٍ بشاحناتٍ مفخخة، أسفر عن تدمير السفارتين بالكامل، ومقتل 224 شخصاً، وإصابة أكثر من 4 آلاف شخص؛ في واقعةٍ لا تزال تُعد إحدى أكثر الهجمات على البعثات الخارجية للولايات المتحدة في وقت السلم دمويةً حتى وقتنا هذا.

لفتت تلك الهجمات أيضاً أنظار الشعب الأميركي والمسلحين المتطرفين حول العالم إلى اسم المنفيِّ السعودي الطموح أسامة بن لادن وجماعته "تنظيم القاعدة".

كان اسم بن لادن قد ارتبط فيما مضى بهجومٍ انتحاري على مدمرة الصواريخ الأميركية الموجهة "يو إس إس كول". لكن بعد الدمار الذي حل بشرق إفريقيا، أعلنت السلطات الأميركية عن مكافأةٍ بقيمة 5 ملايين دولار أميركي لمن يدلي بأي معلوماتٍ تفيد في اعتقال بن لادن، وأضافت اسمه إلى قائمة المطلوبين الخطرين لديها.

ووفقاً لما نشرته مجلة نيويوركر الأميركية عن الحادثتين، فقد كانت تلك الهجمات مخطَّطاً لها بدقة، وبلغت درجةً من الضخامة والتعقيد والعنف فاجأت الاستخبارات الأميركية. ومع أنَّها كانت تستهدف السفارتين الأميركيتين في كل من كينيا وتنزانيا، فقد جاءت الغالبية العظمى من ضحاياها من المواطنين الكينيين. لم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إنَّ تفجير السفارة الأميركية في العاصمة الكينية نيروبي كان من القوة بحيث أدى إلى انهيار مبنى مجاور، وانتقلت حرارة الانفجار عبر زقاق ٍضيق لتحرق حافلةً كاملة مكتظة بالركاب.

من جانبها، أعلنت السفارة الأميركية في نيروبي، في وقتٍ لاحق، عن أنها كانت قد تلقت تحذيراً بالهجمات، وأنَّ السفير الأميركي قد حاول بدوره الانتقال إلى موقع أكثر أماناً.

أدت تلك التفجيرات إلى حقبةٍ جديدة من الدفاعات والتحصينات، لدرجة أنَّه حتى البعثات الأميركية البعيدة تماماً عن مناطق الحرب قد كثفت حمايتها. ونُقِلَت السفارة الأميركية في نيروبي إلى موقع أكثر أماناً.

بنغازي – ليبيا 2012

في يوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2012، تعرضت البعثة الأميركية في مدينة بنغازي الليبية -وهي قنصلية وليست سفارة؛ لأنَّها ليست في العاصمة- لهجومٍ أسفر عن إحراق مبناها ومقتل السفير الأميركي كريس ستيفنز و3 أميركيين آخرين.

في البداية، اعتُبرت الحادثة هجوماً من قِبل حشدٍ غاضب مدفوع بالغضب من فيلم يُحرّض على كراهية الإسلام، ليجري التعامل معها لاحقاً على أنَّها هجومٌ متطرف. وفي وقتٍ سابق من العام الجاري (2018)، أدانت محكمة أميركية أحد زعماء الميليشيات؛ لدوره في العنف الذي حدث.  

جاء ذلك الهجوم لتضييق الخناق على ترشح هيلاري كلينتون للرئاسة؛ لأنَّها كانت تشغل منصب وزير الخارجية وقت وقوع الهجوم، إلى أن برّأت اسمَها لجنةٌ من الكونغرس شديدة الولاء لها بعد تحرياتٍ بلغت قيمتها 7 ملايين دولار أميركي. إلَّا أنَّ نقاد هيلاري كلينتون، ومن بينهم الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب، قد استمروا في مهاجمتها على "إخفاقاتها وتغطيتها المزعومة على تلك الإخفاقات".

أدى الهجوم أيضاً إلى الحد من رغبة الغرب في التدخل بشؤون المنطقة؛ إذ جاء العنف الممتد من سوريا إلى ليبيا ليغطي على بصيص الأمل بتحقيق الديمقراطية والعدالة اللتين جلبهما الربيع العربي إلى المنطقة.

السفير الأميركي لدى ليبيا، كريس ستيفنز، كان قد وصل إلى ليبيا بعد عامٍ من الثورة التي أطاحت بمعمر القذافي. لكنَّه وصل إلى بلادٍ ممزقة بالفعل نتيجة العنف وعدم الاستقرار اللذين كانت تشهدهما ليبيا.

ما حدث في الهجوم هو أنَّ الميليشيات اقتحمت المجمع السكني الذي يقيم فيه السفير الأميركي، والذي لم يكن مؤمَّناً جيداً. ومع أن السفير الأميركي قد اختبأ في غرفة آمنة مع زملائه الأميركيين، فقد لاقى حتفه هو وزميله الدبلوماسي شون سميث من جراء استنشاق الدخان الناجم عن انفجار وقع خارج المبنى. تلا ذلك الهجوم هجومٌ آخر مساء اليوم نفسه، استهدف ملحق وكالة الاستخبارات الأميركية بالسفارة بقذائف الهاون، وأسفر عن مقتل ضابطين تابعين لوكالة الاستخبارات الأميركية.

تحميل المزيد