الحج إلى موقع “تعميد المسيح”.. حينما تغسل مياه الأردن المقدسة وجوه المسيحيين رغم المتفجرات والألغام

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/03 الساعة 15:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/04 الساعة 08:16 بتوقيت غرينتش

على ضفاف مياه نهر الأردن الباردة يتجول نايل تايلور، القادم من إنكلترا، وحوله انتشرت لافتات تحذر من الألغام الأرضية وأخرى تشير إلى الحدود.

وغير بعيد عنه كان عددٌ من الحُجَّاج الروس ينشدون الترانيم، مرتدين أردية بيضاء تباع في متجر الهدايا التذكارية بقيمة 9 دولارات للرداء الواحد، ثم نزلوا بعدها إلى المياه.

تايلور  البالغ من العمر 63 عاماً، رغم التحذيرات أصر على الحج للتعميد، يتجول في المكان ويتخيل يوحنا المعمدان وهو يعمد الناس "أتصور أنه كان هناك نوع من الفوضى أيضاً" يعلق بانبهار حالم، بعض التفاصيل التي تصنع الفرق بين الأـمس واليوم ومن بينها حارسة حدود إسرائيلية شابة تحمل رشاشاً وفي وضعية استعداد.

وفي وقت معين من النهار يغطس الحجاج ومعهم تايلور، واحداً تلو الآخر في مياه النهر ذات التموّج االبنيّ الفاتح، داخلين فيها من الجانب الخاضع لسيطرة إسرائيل بالضفة الغربية لتجديد إيمانهم في البقعة ذاتها التي يعتقدون أن يوحنا المعمدان قد عمَّدَ فيها المسيح.

النهر المقدس

في بقعة جانبية حيث يضيق النهر وتنتشر الحشائش الخضراء والنخيل، خرجت لورا نغ من المياه الضحلة وهي ترتدي قميصاً بنفسجياً، كان الجو شديد البرودة لكنها ما إن غمرت نفسها بالماء حتى شعرت بـ"نقاء نفسي من كل شيء" كما تصف عضوة المجموعة المسيحية لدراسة الإنجيل حالتها.

على الضفة المقابلة، على مسافةِ سباحةٍ بسيطة في المياه، كانت هناك مجموعةٌ صغيرةٌ من السائحين على الجانب الأردني يلتقطون بعض الصور باستخدام هواتفهم المحمولة.

وفي الأيام التي تسبق عيد الفصح، تصل المجموعات الزائرة للأرض المقدسة بحافلاتٍ مُحمَّلةٍ بهم إلى موقع التعميد الذي يحلو للإسرائيلين تسميته "قصر اليهود"، وأُطلِقَ الاسم ليكون إشارةً للدير الأرثوذوكسي اليوناني القريب، ويروج اليهود لدعوى أن هذا المكان هو الذي عناه يوشع للإسرائيليين بأرض الميعاد.

ويتوجه آلاف المسيحيين من مختلف كنائس الكاثوليك واللاتين في الأردن وخارجه، إلى موقع معمودية المسيح على الضفة الشرقية لنهر الأردن، لإحياء يوم الحج المسيحي في كنيسة عماد المسيح في المغطس، وهو الحج الأولى بعد إدراج "موقع المعمودية" على قائمة التراث العالمي في 3 يوليو/تموز 2015.

وينطلق الحج المسيحي إلى موقع المغطس، وجهة المسيحيين من كنائس الكاثوليك واللاتين، يعقبه في يوم الجمعة التالي حج المسيحيين من كنائس الأرثوذكس، ثم الكنائس المارونية الكلدانية على التوالي.

وعلى بعد أميالٍ قليلةٍ شمال البحر الميت وإلى الشرق من مدينة أريحا، يقع موقع التعميد الذي اجتذب نحو 570 ألف زائر العام الماضي، وفقاً للإحصائيات الإسرائيلية، هذه الأرقام ومشاهد الحجاج الهادئة تخفي الكثير من تفاصيل التاريخ المرير للمنطقة كمنطقة صراع.

فقد ظلَّ المكان مغلقاً لعقودٍ عقب الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في حرب 1967، وبعدما عقدت إسرائيل مع الأردن معاهدة سلامٍ 1944 تم ترميم جزءٍ صغيرٍ من الموقع، وفتحته للعموم في 2011.

ورغم معاهدة السلام فلا زال جنود الجيش الإسرائيلي يحرسون المكان خشية أن يعبر أحدٌ النهر من أو إلى الجانب الأردني، مما يعقد من مهمة الحُجَّاج، فلكي يصلوا إلى المياه المقدسة فإن عليهم عبور منطقةٍ عسكريةٍ والسير في ممرٍ ضيِّقٍ محاط بحقول ألغام.

خطر الموت

بعد حرب 67 زرعت كتائب الجيش الإسرائيلي الكثير من الألغام المضادة للأفراد والدبابات كجزءٍ من خطة دفاعها الجديدة.

حقول الألغام لم يسلم منها حتى الإسرائليون أنفسهم، ففي منتصف فبراير/شباط دخلت سيارة جيب تابعة للجيش الإسرائيلي إلى الأرض المُلغَّمة وانفجرت ودفنت هنا في الرمال، وأصيب وقتها سبعة جنود.

هيكل السيارة المُتفحِّم كان مرئياً من الطريق، مع وجود لافتاتٍ تشير إلى خطر الموت.

ويُعتقد أن مهندسي الجيش الإسرائيلي قد فخَّخوا نوافذ وأبواب المعابد وصوامع الرهبان، والتي تنتمي في معظمها إلى الكنائس الأرثوذوكسية الشرقية، وذلك لأنهم يظنون أنها تُستَخدَم كغطاءٍ للمقاومين الفلسطينيين المتسللين من الأردن لمهاجمة الإسرائيليين.

والآن في إطار الجهود الرامية لإعادة تأهيل المكان وفتح الموقع بأكمله، بدأت جمعية هالو تراست، وهي مؤسسةٌ خيريةٌ بريطانيةٌ أميركيةٌ مُتخصِّصةٌ في إزالة الألغام، عملية إزالة الألغام بالتعاون مع الهيئة الوطنية الإسرائيلية لمكافحة الألغام التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، والمركز الفلسطيني لمكافحة الألغام التابع للسلطة الفلسطينية.

استطاعت المؤسسة الخيرية أن تجمع أكثر من مليون دولارٍ أميركيٍ لهذه المهمة التي من المنتظر أن تستغرق عاماً على الأقل حسب الخبراء، حيث يقدرون عدد الألغام والمتفجرات بأكثر من 3000 آلاف لغم في منطقةً لا تقل مساحتها عن نصف ميلٍ مربع، زيادة على مخلفاتٍ حربية أخرى كالصواريخ غير المُنفجِرة وقذائف الهاون والمدفعية.

جيمس كراون، الرئيس التنفيذي لـ"هالو تراست" يصف الألغام المضادة للأفراد بأنها في حوالي حجم قرص الجبن، والألغام المضادة للدبابات بأنها تقريباً في حجم البيتزا الكبيرة (يبلغ قطرها 30 سم).

كراون الذي كان لواءً في الجيش البريطاني يعتقد أن الحرب وسيلةٌ لبلوغِ غرضٍ سياسي، أما الألغام الأرضية المميتة فتظل لعقودٍ من الزمن حتى بعد انقضاء الصراع السياسي.

عملية نزع الألغام التي بدأت في 11 مارس/آذار في محيط مجمع الكنيسة الإثيوبية الجنوبية زاد من تعقيدها أن الوحدات الإسرائيلية المختلفة لم تترك أي سجلاتٍ أو خرائط للأماكن التي وضعت فيها الألغام المضادة للأفراد، والقادة الذين جرى الوصول إليهم لا يتذكرون المواقع بدقة.

وبجوار موقع عسكري إسرائيلي مهجور فوق تلةٍ تتيح رؤيةٍ بانورامية للنهر، كان هناك فريقٌ متعدد الجنسيات من إسرائيليين وفلسطينيين وجورجيين يعملون سوياً، بحذرٍ شديد، باستخدام أجهزة الشكف والمعدات الآلية المُدرَّعة، وسطهم كان يقف رونين شيموني، مدير برنامج جمعية "هالو تراست" في الضفة الغربية، يمسح بعينيه الفضاء الممتد حوله المليء بأماكن العبادة ويعلق "ستظل الكنائس هنا بعدنا كلنا".

المنافسة بين الضفتين

وعلى الرغم من الحرج السياسي للعمل في المناطق المُحتَّلة، فإن الفلسطينيين والإسرائيليين يتشاركون نفس الاهتمام بالترويج للسياحة الدينية، وتُعزِّز كلٌ من إسرائيل والضفة الغربية المواقع المسيحية الكبرى مثل الناصرة وبيت لحم، حيث تُعد تجارة الحج مربحة.

 وتتلخَّص الفكرة في إعادة الممتلكات إلى الكنائس، مما يسمح للرهبان – والحُجَّاج – بالعودة أيضاً.

وقد تؤدي توسعة قصر اليهود إلى تسخين المنافسة بين ضفتيّ نهر الأردن على موقع التعميد الحقيقي، ويُعرَف الجانب الأردني، الذي يضم مجمعاً كنسياً بقبةٍ ذهبية، باسم المغطس، ويُعرَف خارج الأردن باسم بيت عنيا.

وفي العام 2012، حدَّدَت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) الضفة الأردنية موقعاً للتراث العالمي، معلنةً أنه يُعتَقَد أنه موقع تعميد المسيح.

وعلى الرغم من العثور على بقايا كنائس قديمة وكنائس صغيرة وغرف رهبان تعود إلى العصرَين الروماني والبيزنطي في الجهة الشرقية، لا يبدو أن هناك دليلاً أثرياً في أيٍّ من الجهتين من القرن الأول.

في الوقت الذي أنهى فيه نايل تايلور جولته، كان مايكل بِن، 58 عاماً، وزوجته بريندا، 59 عاماً، يستغلان الفرصة ليغطسا في نهر الأردن.

الزوجان الكنديَّان يعشقان التحديات الخطرة، فقد سافرا من قبل إلى "مناطق كثيرة تعج بالجنون"، كما يصفان بما فيها جمهورية الكونغو الديمقراطية.

هذه المرة زيارتهما تختلف، فبريندا جاءت بدافع الإيمان، بالنسبة إليها من المذهل أن "نرى بعضاً من تلك المواقع وأن ندرك وجود الرب"، وقربها كان مايكل يستعد لغطسته الثانية، وهو مُبلَّلٌ يقطر ماءً.. كان مستمتعاً مادامت صفارات الإنذار لم تطلق بعد.

علامات: