عاش البريطانيون قبل قرون "عصراً بربرياً"، لخطف وتجارة الرقيق والعبيد. ولكن ما فعلوه لاحقاً للتعويض كان أسوأ.
185 عاماً مرَّت على سرِّ اتفاق يوصف بالجريمة، وتعلو الآن أصوات تطالب بالاعتذار عمَّا قبل الاتفاق وما بعده. واشتعل الجدل بعد تغريدة لوزارة المالية قبل أسابيع، أعادت المأساة إلى الأذهان بكامل تفاصيلها.
في تقرير مطوَّل على صحيفة "The Guardian"، استعرض أستاذ التاريخ بجامعة Tufts، كريس مانجابرا Kris Manjapra، تاريخ العبودية بالمملكة البريطانية العظمى. وعند الاتفاق على إلغائها أخيراً، عوضت الحكومة ملّاك العبيد عن خسارة ما كان، حتى ذلك الحين، يُعتبر ممتلكاتهم.
لم تدفع الدولة البريطانية قرشاً واحداً، ولم تقدم كلمة اعتذار واحدة لآلاف المستعبَدين. ورغم أن عام 1835 يبدو بعيداً جداً، فإن آثاره تحمَّلها دافع الضريبة البريطاني حتى عام 2015.
قانون إلغاء العبودية: التعويضات لم تذهب إلى ضحايانا
في يوم 3 أغسطس/آب 1835، في مكانٍ ما في مدينة لندن، تم توقيع الاتفاق النادر.
كان ذلك بعد عامين من قانون إلغاء العبودية، وجاء الاتفاق بين الحكومة واثنين من المصرفيين الأشهر في أوروبا، ليمنحاها أحد أكبر القروض في التاريخ لتمويل حزمة تعويض الرقيق. وافق ناثان ماير روتشيلد، وصهره موسى مونتيفيوري على قرض الحكومة البريطانية بمبلغ 15 مليون جنيه إسترليني، مع إضافة الحكومة 5 ملايين جنيه إضافية في وقتٍ لاحق. شكَّل المبلغ الإجمالي 40% من الدخل السنوي للحكومة في تلك الأيام، أي ما يعادل 300 مليار جنيه إسترليني اليوم (حوالي 421 مليار دولار).
لكن "تعويض العبيد" لم يذهب إلى العبيد المُحرَّرين؛ مقابل المظالم التي عانوها. ذهبت هذه الأموال، وبشكل حصري، إلى أصحاب العبيد.
لم تظهر الحقيقة للرأي العام، إلا في فبراير/شباط 2018، كشفت عنها وزارة المالية بتغريدة: "إليكم خبر يوم الجمعة المدهش. لقد ساعد الملايين منكم في إنهاء تجارة العبيد من خلال دفع الضرائب. هل كنتم تعلمون؟! في عام 1833، استخدمت بريطانيا 20 مليون جنيه إسترليني، أي 40% من ميزانيتها الوطنية، لشراء الحرية لجميع العبيد في الإمبراطورية. كان المبلغ المقترض لقانون إلغاء العبودية كبيراً جداً، لدرجة أنَّه لم يُسدَّد بالكامل إلا بحلول عام 2015. وهو ما يعني أنَّ المواطنين البريطانيين الأحياء ساعدوا في الدفع لإنهاء تجارة العبيد".
بعد التغريدة: "نكتشف أن إرث العبودية لم يغادر بلادنا"
بدل أن يحتفل البريطانيون بإنهاء هذا الَّدين، اندلعت موجة من الغضب.
أولاً: لم تُلغ تجارة العبيد البريطانية في عام 1833؛ بل في عام 1807
ثانياً: لم تُلغ العبودية في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية في عام 1833. وطُبِّقَ القانون الجديد على جزر الكاريبي البريطانية، وموريشيوس ومستعمرة كيب، في جنوب إفريقيا حالياً، ولكن لم يُطبَّق على سيلان (الآن سريلانكا) أو الهند البريطانية.
ثالثاً: لم يتم شراء أي حرية لعبيد المزارع في عام 1833؛ إذ كانوا مجبرين على العمل من دون أجر، وتحت التهديد المستمر بالعقاب، حتى عام 1838.
والأهم من ذلك، لم تذكر التغريدة أن البريطانيين كانوا يدفعون الضرائب لسداد قرض تعويض مُلاك العبيد، وليس العبيد أنفسهم.
حُذِفت التغريدة على عجل، وبعد بضعة أيام كتب المؤرخ ديفيد أولوسوجا: "هذا ما يحدث عندما تظل المجتمعات، التي لا يمكن أن تختزل هذا التاريخ في مجرد خبر موجز يُعلن نهاية الأسبوع، ممثَّلة على نحوٍ ضعيف في المؤسسات الوطنية".
لم تكن التغريدة أمراً غريباً؛ بل كانت رمزاً للطريقة التي يستمر بها إرث العبودية في تشكيل الحياة لأحفاد العبيد سابقاً، ولجميع الذين يعيشون في بريطانيا، بغض النظر عن أصلهم. إرث العبودية في بريطانيا ليس بعيداً؛ بل نراه أمام أعيننا كل يوم.
نتذكر: سرقناهم من بلادهم وتاجرنا بهم ورمينا جثثهم في المحيط
يمكن البدء في فهم تأثير العبودية على بريطانيا اليوم، من خلال مراجعة 500 عام من تاريخ البشرية. ابتداءً من العقود الأخيرة من القرن الخامس عشر الميلادي، عندما اختُطف أفارقة من عائلاتهم، وحُشِروا في الحفر المظلمة لحصون العبيد، ثم تكدسوا في أحشاء السفن.
رجال بريطانيون حققوا ثروات هائلة من التجارة في الأفارقة المخطوفين. وعشرات الآلاف من السفن التجارية البريطانية التي تقوم برحلة "الممر الأوسط"، عبر المحيط الأطلنطي، التي حوَّلَت الأسرى من إفريقيا إلى سلع رقيق أميركية.
نُقِل أكثر من 11 مليون أسير أسود مقيدين بالأغلال إلى الأميركيتين، في الفترة من القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر، وفُقدت أعداد كبيرة منهم غير معروفة، في البحر.
أُلقي بالأسرى في البحر عندما تمكَّن منهم المرض، أو حين أظهروا إرادةً قوية، أو كانت أعدادهم تفوق بكثيرٍ المتوافر من الطعام. أُلقي بأولئك الذين نجوا من الرحلة على الشواطئ وبيعوا لأعلى مُزايد، ثم بيعوا مرة بعد مرة، مثل الأصول المالية. فُصِلَت الأمهات عن أطفالهن، والأزواج عن زوجاتهم، وتحوَّل الأشخاص إلى ممتلكات.
اكتشاف آخر: هكذا اغتصبنا النساء ونكَّلنا بالرجال
اغتُصِبَ العبيد وأُعدِموا، وكانت أجسادهم موسومة بالنار، ومسلوخة، ومشوهة. اعترف العديد من أصحاب العبيد بسهولة، في مذكراتهم، وكتاباتهم، ومراسلاتهم، بالانتهاكات والعقوبات التي فرضوها على السود في حقول القصب وببيوتهم. لنأخذ على سبيل المثال مذكرات توماس ثيستلوود، مالك عبيد بريطاني في جامايكا منتصف القرن الثامن عشر، لم يندم أو يعتذر فيها عن العنف والوحشية. سجل ثيستلوود 3852 عملية جماع جنسية مع 136 امرأة مُستعبَدة خلال أعوامه الـ37 في جامايكا.
وفي إحدى يومياته بتاريخ 23 يوليو/حزيران 1756، وصف عقابه لأحد العبيد على النحو التالي: "جلدته جلداً متوسطاً، وجعلت هيكتور يتبرَّز في فمه، ووضعت على الفور كمامةً عليه، في حين كان فمه ممتلئاً، وجعلته يرتديها 4 أو 5 ساعات".
أنشأ البريطانيون في بربادوس واحداً من أول مجتمعات الرقيق الحديثة. كانت العبودية تمارَس بالتأكيد في أجزاء كثيرة من العالم منذ العصور القديمة. ولكن، لم يحدث من قبل أن اعتمد اقتصاد كامل لدول على عمالة العبيد لصالح الصناعة الرأسمالية.
لم يكن بوسع بريطانيا أن تصبح أقوى قوة اقتصادية على وجه الأرض بحلول القرن التاسع عشر، دون قيادة أكبر اقتصاديات مَزارع العبيد على وجه الأرض. استُعبِدَ أكثر من 800 ألف شخص، وامتد تراث تلك العبودية واسعة النطاق فترة طويلة، لامس كل ما هو مألوف في بريطانيا اليوم من مبانٍ وشوارع ومدن سميت على أسماء مُلَّاك العبيد:
مبنى ويلز التذكاري في بريستول
شارعا بوكنان ودنلوب في غلاسكو
منطقة ويست إنديا دوكس في لندن
كما يملأ التراث الثقافي للرقِّ الأذواق البريطانية، بدءاً من الشاي المُحلّى، إلى أدوات المائدة الفضية والملابس القطنية، وصولاً إلى العِرق المتوطن، والفوارق الطبقية التي تميز الحياة اليومية.
حرَّرناهم: حملات النساء والطبقات العاملة لإنهاء الجريمة
في عام 1833، لعبت المرأة البريطانية والطبقات العاملة دوراً حاسماً في صفوف إلغاء العبودية. وانهالت آلاف الالتماسات على البرلمانين البريطانيّين من أشخاص عاديين، يضغطون عليهم لإصدار قوانين تقضي في النهاية على العبودية.
أكد القائمون على إلغاء العبودية في بريطانيا، أنَّ العبودية كانت مخالفة لإرادة الله. ولكي يشجعوا المواطنين الآخرين على النظر إلى وجه المستعبَدين، ليروهم على أنَّهم بشر مثلهم، وزَّعوا قصص حياة أشخاص عانوا العبودية.
لو استطاع الجمهور البريطاني فقط سماعَ أصوات السود من خلال كتاباتهم، فعندئذ يمكن أن يتعاطفوا مع اضطهادهم، ومن ثمَّ، سيصبح من الممكن النظر في عيون المستعبَدين، ورؤية شخص يحدِّق في أعينهم بالمقابل.
بيد أنَّ روايات إلغاء الرق لا يمكن اختزالها في قصة محسنين بيض ملائكيين يمنحون الحرية إلى القُصَّر السود.
حرَّرناهم: لأن العبودية لم تعد مفيدة اقتصادياً
كان التمرد متوطِّناً في العبودية، وبحلول العقد الأول والثاني من القرن التاسع عشر، شهدت العديدُ من مجتمعات الرقيق في منطقة البحر الكاريبي البريطانية حركات تمرد، وكان ردُّ الحكومة عنيفاً، وتسبَّب في موت المئات.
بحلول عشرينيات القرن التاسع عشر، اصطدمت العبودية بمبدأ اقتصادي جديد للرأسماليين البريطانيين؛ ألا وهو التجارة الحرة. ورأى مؤرخ العبودية الذي أصبح أيضاً أولَ رئيس وزراء لترينيداد المستقلة في عام 1962، إيريك وليامز، أنَّ العبودية أُلغيت لأنها لم تعد مفيدة اقتصادياً.
أراد العديد من التجار البريطانيين المتورِّطين في بيع السكر القادم من كوبا والبرازيل والهند الشرقية ببريطانيا، أن يروا نهاية لجميع الواجبات وإجراءات الحماية التي تحافظ على احتكار سكر الهند الغربية. كما رأى الرأسماليون البريطانيون إمكانات جديدة للربح في جميع أنحاء العالم، من أميركا الجنوبية إلى أستراليا، حيث أتاحت وسائل النقل الجديدة والتقنيات العسكرية -البواخر والزوارق الحربية والسكك الحديدية- للمستوطنين الأوروبيين اختراق حدود جديدة.
التعويض: أموال دافعي الضرائب تذهب إلى السادة
كانوا نحو 80 برلمانياً ممن لديهم علاقات مع المُستعبَدين الكاريبيين، موالين لمجموعة الهند الغربية، ومعارضين للعبودية. بحلول عام 1830، قدَّموا طرحاً لإنهاء العبودية، يتضمَّن فكرة "تعويض الحرية"، أو الدفع لمُلَّاك العبيد مع إنهاء العبودية، كطريقة للتعامل مع حقِّهم في الملكية. وأيَّدهم الآلاف من المناصرين النافذين.
كان مفهوم "تعويض الحرية" حديثاً نسبياً، وارتكزت الحجة لصالح تعويض مُلَّاك العبيد على منطقٍ ملْتوٍ. فوفقاً للقانون الإنكليزي، كان من الصعب المطالبة بتعويضٍ على خسارة ملكية متاع؛ مثل الممتلكات المنزلية أو الأدوات أو الماشية. وشُبِّه المُستعبَدون بالأراضي أو المباني أو حتى الأعضاء البشرية، لا البشر!
ووفقاً لإحدى الحجج، كما عوَّضت الحكومة لمُلَّاك الأراضي من أجل الأعمال العامة كالسكك، فإن عليها أيضاً أن تدفع أيضاً لمُلَّاك العبيد؛ لأنها استخدمت عبيدهم.
انزعج الكثير من دعاة إلغاء العبودية من مسألة تعويض مُلَّاك العبيد، لكنَّهم برَّروا ذلك بأنها طريقة براغماتية، وإن كانت غير مثالية، لتحقيق هدفٍ جدير. وعلى الجانب الآخر، احتشد معارضون.
اتَّبعت دولٌ أخرى مثل فرنسا والدنمارك وهولندا والبرازيل، النموذج البريطاني لتعويض الحرية في العقود التالية؛ لكن التعويض الذي دفعته بريطانيا لمُلَّاك العبيد فيها كان الأسخى.
ذهب أكثر من 50% من أموال التعويضات إلى 6% فقط من عدد الناس الذين طالبوا بها. وانتقلت فوائد تعويضات مُلَّاك العبيد من جيلٍ لآخر من النخبة البريطانية، ومن بين أحفاد المستفيدين من هذه التعويضات لمُلَّاك العبيد رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون.
التعويض: والعبيد يعملون بالسخرة في فترة "التلمذة"
في منتصف ليلة 1 أغسطس/آب 1834، تحرَّرَ العبيد من الشق القانوني لعبوديتهم، ليُزَجَّ بهم على الفور في مؤسسة جديدة أُطلِقَ عليها "التلمذة". كان يُفتَرَض لهذا الإجراء بدايةً أن يمتد إلى 12 عاماً، لكنه في النهاية اختُصِرَ إلى 4 أعوام فقط.
خلال تلك الفترة من "التلمذة"، أعلنت بريطانيا أنها تعتزم تعليم السود كيف يستخدمون حريتهم بصورةٍ مسؤولة، وأنها تعتزم تدريبهم لإخراجهم من حالة الهمجية؛ لكن هذا التدريب تضمَّنَ عملاً متواصلاً غير مدفوع الأجر للسادة أنفسهم، وفي المَزارع نفسها التي عملوا فيها من قبلُ عبيداً. بطريقةٍ ما، كانت سنوات "التلمذة" أكثر قساوةً مِمَّا سبقها.
طُبِّقت عقوبات للمتكاسلين خلال فترة التلمذة، أكثر مما طُبِّقت في ظل العبودية. وبينما ظلَّت الدولة البريطانية، حتى بعد التحرُّر، تفشل في النظر إلى السود كأشخاصٍ عاديين، استوطن المُستعبَدون مجتمعاً مُعقَّداً أنشأوه بأنفسهم.
آثار الجريمة: رواسب متأصلة والمطلوب أن نعتذر
في يوليو/تموز 2015، سافر رئيس الوزراء آنذاك، ديفيد كاميرون، إلى جامايكا في زيارةٍ رسمية. وهناك، نيابةً عن الأمة البريطانية، قال بوضوح: "حان الوقت للانتقال من هذا الإرث المؤلم، والاستمرار في البناء من أجل المستقبل".
لكن، كيف يمكن الانتقال من شيءٍ لم يتوقف حدوثه بعد؟ فلا تاريخ العبودية البريطاني، ولا عملية التحرير التي أعادت إنتاج العبودية، ولا عظام المُستعبَدين على الشواطئ البريطانية، ولا ديون تعويض مُلَّاك العبيد، قادرةٌ على جعل مُمَثِّلي الأمة يعترفون بجرائمها ضد الإنسانية.
الكاتبة كريستينا شارب، قالت عن "جثث السود" التي أُلقِيَت في البحر المظلم خلال "الممر الأوسط": "المحيط الأطلنطي هو بمثابة قبوٍ يعج بتداعيات العبودية. لكن، هكذا أيضاً بحر الدَّين الوطني البريطاني، الذي عبره تحوم أشباح المُستعبَدين لقرونٍ من الزمن، بانتظار حسابهم المستحق، في انتظار اعتذارٍ من الدولة البريطانية والتزامها بالتعويض عمَّا سعت العبودية إلى طمسه: شخصية الشخص الأسود التي نشأت من هذه الإمبراطورية، مثلي ومثل أجدادي".
إن تراث العبودية والعنصرية ليس أقل حضوراً في بريطانيا نفسها، حيث يعمل العمال السود بأعمالٍ مؤقتة أو غير مستقرة، أكثر مرتين من نظرائهم من العمال البيض. وفي حين أن 3% فقط من سُكَّان بريطانيا من السود، يُشكِّل السود 12% من السجناء. ولا يزال السُّكَّان المُلوَّنون مُمَثَّلين تمثيلاً أقل من نسبتهم في مواقع السلطة في بريطانيا؛ في السياسة، والمؤسسات الأكاديمية، والقضاء على وجه الخصوص.