واقع بوتين المرير الذي أنسى الكرملين أزمة طرد الدبلوماسيين وفتح النيران على الحكومة

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/28 الساعة 16:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/28 الساعة 16:21 بتوقيت غرينتش
Russian President Vladimir Putin meets with victims injured during a fire in a shopping mall, at a hospital in the Siberian city of Kemerovo, Russia March 27, 2018. Sputnik/Alexei Druzhinin/Kremlin via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.

في نهاية الشهر الذي كشف خلاله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن صواريخه التي لا تُقهر وأعلن إطلاق بعثة فضائية إلى كوكب المريخ وحصل على نسبة تصويت مرتفعة للغاية في الانتخابات الرئاسية- واجه بوتين واقعاً مريراً على الأرض، يوم الثلاثاء 27 مارس/آذار 2018، حيث ثار غضب الأمة حول وفيات الأطفال المحتجزين داخل السوق التجارية المحترقة في سيبيريا.

وبحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية، انتقل بوتين إلى مدينة كيميروفو؛ لوضع أكاليل الزهور إلى جوار النصب التذكاري لعدد 64 شخصاً على الأقل، معظمهم من الأطفال الذين لقوا حتفهم في الحريق، وقد مات البعض في أثناء قرع أبواب المخارج المغلقة والصراخ عبر الهواتف النقالة من أجل الحصول على المساعدة من آبائهم.

وسأل بوتين المسؤولين في المدينة الروسية: "كيف يمكن أن يحدث ذلك؟َ!"، وهو تساؤل يدوّي بقوة حالياً في أنحاء روسيا من قِبل ناخبين قاموا بالتصويت خلال الأيام الماضية لصالح إعادة انتخاب الرئيس، الذي تباهى، خلال فترة حكمه على مدار 18 عاماً، بقدرته على أن يجعل روسيا قوية وآمنة، كما تقول الصحيفة الأميركية.

الحريق طغى على أزمة طرد الدبلوماسيين الروس

وأدى الغضب العام جراء اندلاع الحريق –والمزاعم القائلة بأن الفساد والإهمال من قِبل المسؤولين لعبا دوراً في ذلك– إلى تراجع حدَّة غضب الكرملين بشأن طرد الدبلوماسيين الروس من 23 دولة. وفي القنوات التلفزيونية المملوكة للدولة، حلّت الأنباء حول الحريق محل الإدانات الموجهة للغرب، بينما قامت 4 بلدان أخرى بطرد الدبلوماسيين الروس؛ بسبب الاعتداء بغاز الأعصاب والذي ألقت لندن اللوم به على موسكو.

وقد اعتاد الكرملين أن يستغل الأزمة الدبلوماسية في إثارة الحماسة الوطنية وترويج رؤيته حول روسيا باعتبارها قلعة يحاصرها الأجانب المصابون برهاب الروس، بحسب الصحيفة الأميركية.

وحاولت قناة "روسيا 24" الإخبارية، في وقت مبكر من صباح يوم الواقعة، الالتزام بنظامها المعتاد من البرامج الوطنية وبث مجموعة مناقشات تتناول أساليب الخطابة المثيرة ضد الغرب. ومع ذلك، فقد اضطرت إلى وقف تلك الممارسة كي تمنح المذيع وقتاً للتعبير عن تعازيه بشأن الوفيات في سيبيريا.

وبحلول المساء، ركزت التغطية بالكامل تقريباً على مأساة السوق التجارية وزيارة بوتين المخفقة السريعة إلى مدينة كيميروفو، الواقعة على مسافة 2000 ميل شرق موسكو.

وكانت كلمة التعزية التي أدلى بها بوتين في سيبيريا، حيث هاجم خلالها المسؤولين وزار النصب التذكاري، تتبارى مع الأحاديث المعارضة على الشبكات الاجتماعية حول انتشار الفساد وموقع أليكسي نفالني الإلكتروني المناهض للفساد والذي تم منعه من الترشح في انتخابات 18 مارس/آذار 2018 ضد بوتين، كما تقول الصحيفة الأميركية.

تحذيرات بوتين للشعب

وفي محاولة منه للسيطرة على الأحداث، حذر بوتين الشعب وطالبه بالالتزام بالمعلومات الرسمية. وقال للمسؤولين والأقارب في كيميروفو: "تعلمون جيداً أن الشبكات الاجتماعية مصدر غير موثوق للمعلومات لسوء الحظ. ونحتاج إلى الاعتماد على نتائج التحريات الفعلية".

وقد اتضح مساء اليوم الثاني للواقعة أن روسيا ليست دولة الحزب الواحد متجانس التكوين، رغم إعادة انتخاب بوتين، من خلال المناسبتين اللتين تم تنظيمهما لتأبين الموتى في كيميروفو، بحسب "The New York Times".

وكانت إحداهما تحت رعاية الدولة بالقرب من مقر الكرملين، بينما انعقدت الأخرى في ميدان بوشكين من قِبل مواطني موسكو الذين رفضوا المشاركة في الحشد الرسمي. وبدأ الحشد البديل بوقوف المواطنين بالشموع ووضع الزهور وبكاء البعض، ولكنه تحول تدريجياً إلى تجمُّع سياسي على نطاق ضيق وهتافات "روسيا من دون بوتين" و"الفساد قاتل" و"العار على التلفزيون" و"الصمت يعني الموت".

وبدلاً من التعبير عن غضبه من الولايات المتحدة وحلفائها، استغل بوتين، خلال رحلته إلى سيبيريا، أداة أخرى في جعبة إجاباته على المشكلات كافة. فقد أصدر تعليماته للأجهزة الأمنية بالعمل، وأخبر أقارب الضحايا بأن لجنة التحقيقات قد كلفت 100 محقق بتلك القضية، وسوف يتم التوصل إلى المسؤولين عن الحريق ومعاقبتهم.

وألقى اللوم في الحريق على الإهمال الجنائي، حيث بدأت النيران في منطقة لعب الأطفال ثم انتقلت إلى دور السينما المجاورة المزدحمة بالشباب، بحسب الصحيفة الأميركية.

وطلب الحاكم الإقليمي، أمان تولييف، الصفح واتهم نشطاء المعارضة بمحاولة استغلال المأساة لأغراض سياسية. وقال الحاكم: "إن استغلال الحزن في حل مشكلاتك سيُعَدُّ بمثابة انتهاك للحرمات"، بحسب الصحيفة الأميركية.

وتجنَّب بوتين التحدث عما يعتقد العديدون، ومن بينهم هؤلاء الذين فقدوا أحد أفراد أسرهم، بأنه السبب الرئيسي للحريق، وهو نظام الدولة، بما في ذلك الهيئات المتعددة المسؤولة عن مكافحة الحرائق والمخاطر الأخرى، التي تفشى بها الفساد وانعدام الكفاءة.

التملص من المسؤولية

وبحسب الصحيفة الأميركية، تحظى روسيا بقوانين بناء صارمة ولوائح أمان واضحة، ولكن بدلاً من تطبيقها، كثيراً ما تتم مراوغتها بمساعدة المسؤولين الفاسدين الراغبين في تجاهل الانتهاكات مقابل الحصول على الرشى والمحسوبية. ويتعرض ضباط إنفاذ القانون، المنوط بهم منع تلك الانتهاكات، للكثير من الضغوط من قِبل رجال السياسة لتجاهل التحقيقات.

وفي إحدى الرسائل التي تم نشرها على موقع فيسبوك، قدم عضو البرلمان (من كيميروفو) أنطون جوريلكن، قائمة بالأسباب المحتملة لاندلاع الحريق –طيش الأطفال أو ماس كهربائي أو حريق متعمَّد– ولكنه ذكر أن السبب الفعلي للمأساة هو الجشع، بحسب الصحيفة الأميركية.

وأكد وينتر تشيري أنه ما كان ينبغي السماح بفتح السوق التجارية؛ بسبب "مشكلات صارخة تتعلق بالسلامة"، واتهم نائب الحاكم، الذي لم يذكر اسمه، بالسماح بافتتاح السوق التجارية عام 2013 بعد تلقي رشوة. وأكد عضو البرلمان أنه "تجاهلَ تلك المشكلات بسبب المال".

وألقى إيجور فوستريكوف، الذي فقد زوجته وأبناءه الثلاثة وشقيقته بالحريق، باللوم على المسؤولين الجشعين، في رسالة غاضبة نشرها على الشبكات الاجتماعية. وكتب فوستريكوف: "لم يعد لدي أُسرة! النظام الحاكم هو المذنب الرئيسي. ويحلم كل بيروقراطي بالسرقة على غرار بوتين. ويتعامل كل مسؤول بالدولة مع الناس باعتبارهم نفايات".

وأضاف فوستريكوف أن محققي الحكومة "سوف يجدون كبش فداء، وسوف يتم إغلاق القضية، ولكن المخاطر –انعدام الكفاءة وانتشار الفساد والإدمان وانهيار المجتمع ككل– سوف تظل قائمة".

وعلى بُعد أمتار قليلة من مقر الحكومة الإقليمية، حيث اجتمع بوتين بالمسؤولين المحليين، تجمَّع الآلاف في الميدان الرئيسي بمدينة كيميروفو وطالبوا الحاكم بالاستقالة، وسخروا من هؤلاء الذين كانوا يذكرون أعداد الوفيات الرسمية الصادرة عن الدولة والتي يعتقد البعض أنها أقل كثيراً من الأعداد الفعلية للضحايا.

وظل بوتين والحاكم تولييف بعيدَين عن الميدان. وقام نائب الحاكم، سيرغي تسيفيليف، بزيارة الميدان وقوبل بصيحات وهتافات "الحقيقة" و"الاستقالة" ومطالبات بأن يأتي بوتين ويلقي كلمته إلى تلك الحشود، بحسب ما ذكره موقع زناك الإخباري الإلكتروني.

بوتين يعرف كيف يخرج من أزماته

وبحسب "The New York Times"، يعرف بوتين من خلال خبراته المريرة كيف يمكن أن تعود عليه أصداء تلك المأساة. ففي عام 2000، وهو عامه الأول في رئاسة البلاد، انتقل إلى أحد الموانئ البحرية بدائرة القطب الشمالي، في محاولة كارثية للتخفيف من أحزان أرامل وأقارب 118 من رجال البحرية الذين اختفوا بعد غرق الغواصة كورسك، وهو الحادث الذي رفضت خلاله موسكو المساعدات الأجنبية لإنقاذ طاقم الغواصة رغم عدم توافر المعدات اللازمة لتنفيذ عمليات الإنقاذ.

وبعد الإخفاق في إنقاذ طاقم الغواصة كورسك، سرعان ما حاول الكرملين السيطرة على قناة NTV الخاصة، التي سمحت للأرامل الثكلى بالتعبير عن أحزانهم من خلالها وساهمت في حدوث كارثة بالعلاقات العامة بدت وكأنها قد تطيح ببوتين، الذي كان رئيساً حديث العهد للبلاد. وتخضع قناة NTV حالياً لسيطرة الدولة، وتعد حالياً واحدة من أقوى الأصوات المؤيدة لبوتين.

وسرعان ما تم تعزيز انعدام ثقة العامة، الناجم عن مأساة كورسك، من خلال العديد من الكوارث، بما في ذلك انعدام كفاءة السلطات واستجابتها الوحشية لعملية إنقاذ الرهائن من أيدي الإرهابيين بأحد مسارح موسكو عام 2002، خلال أداء إحدى المسرحيات الغنائية، وبإحدى المدارس في مدينة بسلان الواقعة جنوب روسيا عام 2004.

 ولم تؤدِّ الرقابة والسيطرة المتزايدة على وسائل الإعلام الإخباري، والتي تصاعدت حدتها في أعقاب كل من تلك المآسي، إلى التخفيف من حدة انعدام الثقة؛ بل ربما أدت إلى تفاقمها، بحسب الصحيفة الأميركية.

 وكتب المحامي والمسؤول الحكومي السابق كالوي أكليجوف على موقع تويتر، قائلاً: "حتى لو كان عدد الوفيات الرسمي يعكس الحقيقة، ففي نهاية المطاف يدرك الشعب أن الحكومة كانت كاذبة فيما يتعلق بكوارث بسلان ونورد أوست وكيرسك، والعديد من الأماكن الأخرى. ولذا ينبغي ألا تلقي الحكومة اللوم إلا على نفسها جراء تصاعد معدلات انعدام الثقة بها".

تجاهل تلفزيون الدولة إلى حد كبير، احتشاد الثلاثاء في الميدان الرئيسي بمدينة كيميروفو، وركز بدلاً من ذلك على زيارة بوتين إلى أحد المستشفيات وتقديم التعازي إلى أهالي الموتى.

وأظهره التلفزيون أيضاً وهو يشير بأصبع الاتهام إلى صغار المسؤولين المحليين، ويتجنب التساؤل عما إذا كان النظام، المثقل بالفساد، هو ما يمثل المشكلة الفعلية.

أسوأ سجل في الأمن والسلامة بالعالم

وترى الصحيفة الأميركية أنه ورغم قوانين مكافحة الحرائق الصارمة وجيش المحققين المسؤول عن تطبيقها، فإن روسيا لديها أسوأ سجلات الأمن والسلامة من الحرائق على المستوى العالمي. ففيما بين عامي 2001 و2015، بلغ متوسط الوفيات الناجمة عن الحرائق في روسيا 7.5 وفاة بين كل 100 ألف شخص، وفقاً لدراسة صادرة عن الجمعية الدولية للحرائق وخدمات الإنقاذ، مقارنة بوفاة واحدة في الولايات المتحدة و2.7 بكازاخستان و0.5 في فرنسا وألمانيا. وجاءت روسيا بالمرتبة الأخيرة بين 41 دولة تغطيها تلك الدراسة، حيث يشتهر محققو مكافحة الحرائق هنالك بتلقي الرشى.

ولم يذكر بوتين شيئاً عن سجلات روسيا المحزنة والمعروفة جيداً في مجال السلامة، ولكنه أعرب عن غضبه الشديد من احتراق المركز التجاري ومقتل العديد من المواطنين.

وذكر بوتين، من خلال نص قرأه في اجتماع مع مسؤولي كيميروفو: "ماذا يحدث هنا؟! إنها ليست حرباً وليست انفجاراً بغاز الميثان. جاء الناس للاسترخاء. إننا نتحدث عن السكان ونفقد العديد من المواطنين"، بحسب "The New York Times".

ومع ذلك، لم تهتم الحشود في الميدان بالنص الرسمي. وحينما أعلن نائب الحاكم، تسيفيليف، تسجيل 64 حالة وفاة، صاح أحد الأشخاص: "لماذا تكذبون؟!"، وأظهر البث المباشر شخصاً آخر يندفع وسط الحشود لمواجهة تسيفيليف.

وبدلاً من تهدئة الحشود، قام نائب الحاكم بإثارة غضبهم بأن أشار إلى أن البعض يستغل المأساة لجذب الانتباه. وأدى ذلك إلى رد غاضب من فوستيكوف، صاحب الرسالة التي تدين الفساد على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقال: "فقدت شقيقتي سباداش أليونا إيجوريفنا، وزوجتي فوستريكوفا إلينا سيرجيفنا، وأطفالي الثلاثة البالغين من العمر 7 أعوام و5 أعوام وعامين. هل جئت إلى هنا من أجل الدعاية والترويج لنفسي؟!".

تحميل المزيد