تجول بحرية في دبي وتواصلت أميركا مع أبو ظبي للقبض عليه.. كيف نجا زعيم طالبان من الاعتقال بعد إتمام مهمته الغامضة في الإمارات؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/26 الساعة 13:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/27 الساعة 11:04 بتوقيت غرينتش

لم مسؤولون كبار في البيت الأبيض في ربيع عام 2016 أنَّ زعيم تنظيم طالبان ذهب إلى دبي لقضاء بضعة أيام للتسوق وجمع التمويل لجماعته، فمثل هذا الظهور لأختر محمد منصور متجولاً بحرية في العاصمة التجارية للشرق الأوسط يعد فرصةً لأسر خصمٍ كبير، لكنَّها كانت فرصة معقدة بفعل المخاطر السياسية والدبلوماسية بحسب ما ذكرته صحيفة The Washington Post الأميركية.

جاءت رحلة منصور هذه التي لم يُكشَف عنها سابقاً بعد وقتٍ قصير من مشاركة طالبان في مفاوضاتٍ سرية مع الحكومتين الأميركية والأفغانية، وهي المحادثات الوحيدة في تاريخ أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة.

وترجع الصحيفة سوء تصرف إدارة أوباما في ذلك الوقت مع مسألة تواجد منصور في دبي، للقرار السابق لزعيم طالبان بالبدء في المفاوضات، ما شكل عاملاً من عوامل الثقل على مسؤولي الإدارة الأميركية.

وفي النهاية، سمحت سلسلة من الحسابات الخاطئة ـوخيانة محتملةـ لمنصور بمغادرة الإمارات بلا سوء، فسافر أولاً إلى إيران، ثم إلى باكستان، قبل أن يقتل بفعل صاروخ "هيل فاير" أطلقته طائرة أميركية من دون طيار.

تساؤلات بلا إجابات

أما كيف ولماذا قتلت الولايات المتحدة رجلاً كان بعض المسؤولين يعتقدون أنَّ بإمكانه جلب طالبان إلى طاولة المفاوضات، فهذا أمرٌ يكشف عن أسئلةٍ بلا إجابات أحاطت هذه الحرب منذ أيامها الأولى، وما تزال تثير الانقسام بين الرئيس ترامب وكبار مستشاريه للسياسة الخارجية: متى يكون زعيم كبير في طالبان هدفاً؟ ومتى يكون شريك مفاوضات محتملاً؟ وكيف سوف تنتهي هذه الحرب التي وصلت الآن إلى عامها الـ17؟

منذ الأيام الأولى للحرب، شابت الازدواجية وسوء التواصل والأخطاء الجهود الأميركية للتحاور مع طالبان. فبعد وقتٍ قصير من انهيار طالبان عام 2001، كلَّف حامد كرزاي -الذي كان حينها يشغل منصب الرئيس المؤقت للحكومة الأفغانية- وسيطاً بالتحاور مع زعماء الجماعة الناجين بصدد عقد اتفاقية سلام، وذلك بحسب كتاب "Directorate S"، وهو كتاب حديث لستيف كول يؤرخ حرب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في أفغانستان وباكستان.

أما في واشنطن، فقد رفض وزير الدفاع حينها دونالد رامسفيلد مثل هذه المحادثات، ووصفها بـ"غير المقبولة"، ونُقِلَ بعض زعماء طالبان الذين حاولوا الاستسلام إلى سجن أميركي في خليج غوانتانامو بكوبا.

بعد ذلك بعشر سنوات، وبعد عشرات آلاف القتلى، ومع عودة طالبان، بدء مسؤولون أميركيون سلسلةً من مباحثات السلام المفككة توقفت عام 2012. وظلت المباحثات متوقفةً بشكلٍ كبير حتى بدايات عام 2016، أي بعد حوالي 7 أشهر من إعلان منصور زعيماً لطالبان.

من هو منصور

كان منصور، وزيراً كبيراً يُشرف على هيئة طيران طالبان، وهو منصب سمح له بجمع الرسوم من الأثرياء العرب الذين كانوا يزورون أفغانستان في رحلاتٍ لصيد الصقور، وذلك على عكس محمد عمر منشئ الجماعة وقائدها وزعميها الروحي، الذي كان نادراً ما يغادر جنوب أفغانستان، كما لم يكن يلتقي بغرباء، حتى أن طالبان لم تعترف بموته إلا بعد عامين في 2015.

تقول سيرة منصور على موقع طالبان إنَّه ولد عام 1968، وضمت السيرة صورةً له في ألمانيا في التسعينيات، حيثُ سافر لشراء معدات لشركة الخطوط الجوية الأفغانية. ويبدو منصور في الصورة جسيماً ذا لحيةٍ كثة وعمامة.

وقال أحد المسؤولين الأميركيين السابقين المشاركين في صياغة السياسة حول أفغانستان: "كان من الممكن له أن يرشو الناس، وكان ذا ميولٍ للتلاعب بالحسابات. كان شخصاً ماهراً في عقد الصفقات".

وربما كانت هذه العقلية المُخاطرة لمنصور هي ما دفعته للسماح بمحادثاتٍ تمهيدية مع المسؤولين الأميركيين والأفغان في شهر فبراير/شباط 2016. ووعد جميع الأطراف بنفي عقد هذه الاجتماعات لو ظهرت للعلن.

كان أحد الأسئلة التي قسمت المسؤولين الأميركيين حال إعدادهم لهذه المحادثات السرية هو إذا ما كانت طالبان قد تغيرت خلال السنوات التي قضتها في المنفى والتمرد.

أصر بعض المسؤولين على أنَّ السنوات التي قضتها طالبان في القتال قد جعلتها "أشرس، وأكثر شراً، وأشد ذكاءً"، وذلك على حد وصف دبلوماسي أميركي بارز. وأشار أولئك المسؤولون إلى موجاتٍ من التفجيرات الانتحارية العشوائية، التي نُفِّذَ الكثير منها بموافقة منصور، وأودت بحياة آلاف الأفغان.

وكانت هناك وجهة نظر معارضة تقول إنَّ تعرض قادة طالبان للعالم الخارجي قد جعل وجهات نظرهم أكثر اعتدالاً. إذ أقر مسؤولو طالبان في اجتماعاتهم مع الوفود الأجنبية بأنَّهم قد ارتكبوا أخطاءً عندما كانوا في السلطة، وعبروا عن دعمهم لتعليم الفتيات، وأصروا أنَّهم لا يريدون أن يكونوا منبوذين دولياً.

وشعر مسؤولون أميركيون بلمحةٍ من هذا التغير الذي حدث لبعض قادة طالبان عندما التقوا فرقاً طالبانية وأفغانية في قطر، حيثُ جرت محادثات شهر فبراير/شباط 2016.

كان الأميركيون قد أرسلوا عَرَضاً وفداً جميعه من السيدات، وهو أمر أثار خشية بعض المسؤولين في واشنطن من أنَّه قد يزعج طالبان. لكنَّ ممثلي طالبان لم يبدُ أنَّهم قد تأثروا بذلك.

وافتتح مسؤولو طالبان الاجتماع في مكتبهم بالدوحة بإهداء الوفد الأميركي مزهرية لازوردية صغيرة، وذلك بحسب مسؤولين أُطلعوا على موجز المفاوضات. وعندما أشار الأميركيون إلى أنَّ طالبان لم تُحضر هدية لضيوفها من الحكومة الأفغانية، أُرسل مسؤولٌ طالباني بسرعة لتصحيح هذا الخطأ.

أسرع المسؤول إلى محل قريب لبيع أدوات تجميل تابع لشركة سيفورا، وعاد بحقيبة صغيرة من العطور الرجالية.

"الإقلاع"

حاولت الولايات المتحدة في معظم الحرب استخدام القوة العسكرية لإجبار طالبان على المشاركة في محادثات السلام. لكن بحلول عام 2016، بدت هذه الاستراتيجية غير مجدية. إذ تقلصت القوات الأميركية في أفغانستان من 100 ألف مقاتل إلى أقل من 10 آلاف مقاتل.

وبدأت مجموعة صغيرة في وزارة الخارجية والبيت الأبيض تركز على عملية السلام في مناقشة وسائل غير تقليدية لتسريع المحادثات.

عرف المسؤولون الأميركيون أنَّ منصوراً وعدداً من الزعماء الكبار الآخرين في طالبان يقومون برحلاتٍ منتظمة إلى دبي، وفكر أولئك المسؤولون أنَّ بإمكان الولايات المتحدة استغلال هذه الرحلات. واقترحوا أنَّه من الممكن استعمال منصور كورقة تفاوض لإجبار طالبان ورعاتها على تقديم تنازلات. ودافع عددٌ من المسؤولين الأميركيين عن مسار أكثر خطراً: إذ أرادوا أسر منصور، والضغط عليه سراً للمشاركة في مفاوضات سلام، ثم يمكنهم الإفراج عنه بعد ذلك.

ولم تكن هذه الخطط قد خرجت عن حيز النظرية عندما اكتشف مسؤولون استخباراتيون أميركيون أنَّ منصوراً في دبي. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها الأميركيون على معلومةٍ استخباراتية شبه فورية عن تحركات منصور في المدينة. ولو استطاعوا أسره، فسوف تكون هذه المرة الأولى التي يكون فيها للمسؤولين الأميركيين فرصة للتحاور مع زعيم طالبان منذ وصلت الجماعة للسلطة عام 1996.

دارت بعض المناقشات الأولية في البيت الأبيض حول آليات طلب أسر منصور من الحكومة الفيدرالية للإمارات، دون إعلام مسؤولي دبي المحليين الذين قد يسمحون له بالهرب. وكانت هذه المحادثات جارية حين وصلت معلومةٌ استخباراتية جديدة قلبت الوضع: منصور سيغادر دبي في وقتٍ أقرب من المتوقع.

اتصلت مستشارة الأمن القومي الأميركي آنذاك سوزان رايس بالسفير الإماراتي في واشنطن، الذي وعد بتحريك القوات الأمنية في بلاده.

بعد ذلك بدقائق، تلقت رايس معلومة تفيد بأنَّ منصور كان بالفعل يستقل طائرةً لإيران في طريقها للـ"إقلاع" أو أنَّها قد أقلعت بالفعل، وذلك بحسب مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين.

طلبت رايس إعادة الطائرة. لكنَّ الإماراتيين قالوا إنَّ الأوان قد فات.

انتقد بعض المسؤولين الأميركيين البيت الأبيض تحت قيادة أوباما لاستغراقه وقتاً طويلاً في النقاش. وجادل آخرون بأنَّ الإماراتيين قد دبروا قصة الهرب هذه.

وقال بروس ريدل المسؤول السابق بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الذي أشرف على المراجعة الأولى لسياسة إدارة أوباما في أفغانستان: "أسوأ ما كان يمكن أن يحدث من وجهة نظرهم هو اعتقال الملا منصور في دبي، ومن ثم ينكشف علناً أنَّهم (الإماراتيين) كانوا يمولون من يقتلون الجنود الأميركيين".

ورفض مسؤولون في الإمارات، التي قاتلت قواتها جنباً إلى جنب مع القوات الأميركية في أفغانستان، التعليق على وجود منصور في بلادهم أو جهودهم للقبض عليه. ومع ذلك، فقد اعترفوا سراً إلى المسؤولين الأميركيين بوجود زعيم طالبان في بلادهم. وقال المسؤول السابق في البنتاغون: "كانوا ليقولوا: أنتم لا تفهمون الأمر، أو هذا أمرٌ معقد".

وقال مسؤولون أميركيون إنَّهم ليس لديهم الكثير من المعلومات حول الوقت الذي قضاه منصور في إيران بعد أن غادر دبي. لكنَّ المفترض أنَّه كان هناك للبحث عن رعاة ماليين جدد من شأنهم مساعدته على تقليل اعتماد حركته على المخابرات الباكستانية، وذلك بحسب مسؤول أميركي سابق.

فرصة نادرة أخرى

وتلقى مسؤولون في البيت الأبيض في 20 مايو/أيار معلوماتٍ استخباراتية تُفيد بمغادرة منصور إيران، وبمكانه المحتمل في اليوم التالي في باكستان، حيثُ توجَّه للزواج بامرأة جديدة. وقال أحد المطلعين على هذه المعلومة الاستخباراتية: "كانت هذه واحدة من الفرص النادرة". ولهذا تحركت طائرة أميركية بدون طيار إلى هذا الموقع.

وكان على الرئيس باراك أوباما حينها اتخاذ قرار قتل منصور.

كان المسؤولون العسكريون الأميركيون متشككين للغاية في التزام منصور بالمحادثات. فحتى مع موافقة الأخير على إجراء مفاوضاتٍ سرية، رفض جهود سلام دولية عالية المستوى. واستمرت قوات طالبان تحت قيادته بتنفيذ الهجمات الانتحارية في كابول، وشن الحرب على القوات الأميركية.

وقال الجنرال جون نيكلسون قائد القوات الأميركية في أفغانستان في حوار صحفي حديث إنَّ هذه العوامل قد أثبتت أنَّ منصور "لم يكن مهتماً بالسلام".

وكانت هناك مخاوف سياسية داخلية أيضاً. فقد خشي المسؤولون في واشنطن من تبعات التسريب الإعلامي لمعلومة أنَّ الولايات المتحدة قد فوتت فرصةً لضرب زعيم منظمة قتلت جنوداً أميركيين وروَّعت الأفغان.

ورد المسؤولون الأميركيون الذي فضلوا عدم قتل منصور بأنَّ ذلك قد يشعل غضب متشددي الحركة بعد أن سمح لممثليه بلقاء المسؤولين الأميركيين والأفغان في الدوحة. وربما لا يفعل خلفه الأمر ذاته.

وقال أحد المسؤولين المشاركين في السياسة الأميركية في أفغانستان: "لم يبدُ لي قتله قط أمراً منطقياً، إلا لو كنتَ تعتقد أنَّ قتله سوف يدمر التنظيم. ولا أعتقد أنَّ أي شخص كان يرى ذلك".

وبعد وقتٍ قصير من عبور منصور إلى باكستان، أطلقت طائرة أميركية بدون طيار صاروخاً فجر سيارة الأجرة التي كان يستقلها قائد طالبان، فقتلته هو والسائق.

وعُثِرَ على جواز سفر في الموقع أشار إلى أنَّ منصور قد سافر في 13 رحلة إلى دبي في السنوات السابقة.

أما بحسب روايات الأخبار، قال مسؤولون أميركيون إنَّ سبب قتل منصور أنَّه كان يشكل عقبةً أمام السلام. وأغضب هذا التوصيف من كانوا منخرطين في المحادثات.

لقد كان هذا الأمر بحسب مسؤول أميركي سابق "هراءً تماماً".

قتالٌ أكثر، محادثاتٌ أقل

بعد أيام قليلة من وصول دونالد ترامب إلى منصب الرئاسة الأميركية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أرسلت طالبان رسالةً إلى المسؤولين الأميركيين من خلال وسيط: أرادوا أن يعرفوا إذا ما كان الأميركيون لا يزالون مهتمين بمحادثات السلام.

ورد المسؤولون الأميركيون بأنَّهم يحتاجون إلى التواصل مع الإدارة الجديدة قبل الرد.

جاءت الإجابة الشهر الماضي، عندما أعلن الرئيس ترامب استراتيجيته في حرب أفغانستان. إذ ضاعف المسؤولون العسكريون حجم القوات الأميركية ليصل إلى حوالي 15 ألف جندي، وزادوا من معدل الضربات الجوية الأميركية والأفغانية سبعة أضعاف لتصل إلى قرابة 500 ضربة في الشهر.

وقرر البيت الأبيض أيضاً إغلاق مكتب وزارة الخارجية الذي كان يركز على أفغانستان وباكستان، وسرَّح الفريق الصغير من الموظفين المدنيين الذين كانوا يعملون على محادثات السلام.

ومع ذلك، فلم تتوقف الاتصالات بين المسؤولين الأميركيين ومسؤولي طالبان، على الرغم من تقليلها بشكلٍ كبير. وأُجِّلَ مؤقتاً مقترح إغلاق مكتب طالبان في قطر الذي كان القناة الأساسية للمحادثات. وسمحت إدارة ترامب العام الماضي بزيارتين سريتين على الأقل لمسؤولين من وزارة الخارجية إلى مكتب قطر.

وكان آخر أولئك المبعوثين آليس ويلز، المسؤولة في وزارة الخارجية الأميركية عن جنوب ووسط آسيا.

وقالت ويلز الشهر الجاري في خطابٍ لها في واشنطن إنَّ الهدف الأميركي في أفغانستان هو "دفع طالبان إلى طاولة المفاوضات".

وبدت ويلز في بعض الأوقات كما لو كانت تتحدث بشكلٍ مباشر إلى قادة التمرد. إذ قالت: "تقول طالبان إنَّها تطورت كمنظمة. إذاً، أظهروا ذلك.. أظهروا بأفعالكم أنَّكم جزء من أفغانستان الجديدة هذه".

وحتى مع تخطيط المسؤولين العسكريين الأميركيين للمزيد من المعارك في فصل الربيع، فإنَّهم يدعون بإلحاح لمبادرة سلام.

ومع ذلك، هذه الآراء لا تبدو متفقةً مع وجهة نظر أعضاء إدارة ترامب الأكثر تشدداً، الذين أصروا على حتمية استعادة القوات الأميركية والأفغانية للزخم في أرض المعركة قبل إجراء أية مفاوضات.

ولا تعكس هذه الآراء آراء ترامب المتغيرة حول الحرب. إذ وصف الرئيس هذا الصراع بأنَّه بالوعة للموارد الأميركية. وفي لحظاتٍ أخرى، صرَّح الرئيس بعزمه الانتصار في هذه الحرب.

إذ قال ترامب في شهر يناير/كانون الثاني بعد أن فجرت طالبان قنبلةً في كابول قتلت 103 أفغانيين إنَّه سوف يمر "وقتٌ طويل" قبل أن تتحاور الولايات المتحدة مع طالبان.

وقال ترامب للصحافيين: "سوف ننهي ما ينبغي لنا إنهاؤه، وما لم يستطع أحد آخر إنهاءه. سوف نكون قادرين على فعل ذلك".

تحميل المزيد