رام الله حين تسهر بالبارات.. الغموض والبزنس والمهرجانات في حياة الليل بمدينة الحكم الفلسطيني

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/25 الساعة 14:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/25 الساعة 17:24 بتوقيت غرينتش
RAMALLAH, WEST BANK - JUNE 25: International and Palestinian patrons gather around the bar of Beit Aneeseh on June 25, 2010 in Ramallah, West Bank. Nightlife in Ramallah is on the rise as numerous restaurants and bars are opening throughout the de facto capital of the West Bank, as economic growth has been steady since 2007 in spite of the ongoing occupation. NGO workers, international travellers and the youth of Palestine's elite, are flocking to the city's cosmopolitan scene, in-part due to the growth of venues, but also due to the restrictions on movement enforced by the Israeli occupation limiting options. (Photo by Warrick Page/Getty Images)

من شارع جانبي ضيّق وسط مدينة رام الله، ترتفع على أحد جدرانه صورة كبيرة للزعيم الراحل ياسر عرفات، تتناهى أصوات الساهرين في بار "فويغو" للسائرين بالشارع المظلم.

على مساحة بضع عشرات من الأمتار وسط بار "فويغو"، يقف عدد من الشبان تحت أضواء تمزج بين الأحمر القاني والأزرق المعتم لتشكل إيحاء خاصاً، لا يفقهه ربما إلا هؤلاء.

ما إن ينتهِ النهار حتى تلبس المدينة زخرفها وتستمع للموسيقى أو تقرأ ديواناً، في أحد المراكز الثقافية والفنية المنتشرة بالمدينة، فهي عاصمة السياسة والثقافة الفلسطينية، وبها متحف أهم الشعراء الفلسطينيين؛ محمود درويش.

المكان معبَّأ بدخان السجائر والنرجيلة بأنواعها، وبعض الفتيات يتراقصن بإيقاع بطيء في المنتصف على صوت المطرب الفلسطيني الشعبي شفيق كبها وهو يغني "جيت بوقتك ففرح قلبي".

طاولة البار المرتفعة مزدحمة بالزبائن، الذين ينتظرون طلباتهم التي لا تنتهي إلا مع ساعات الفجر الأولى، ذلك الشاب الوسيم الذي ينقل زجاجات الخمر بين يديه كلاعب سِيركٍ متمكن.

أصوات الزبائن تتعالى شيئاً فشيئاً حتى تصبح أغنيات شفيق كبها خلفية سوريالية لما يدور داخل المكان، فيما يصدح صوته بمواله الأشهر:

رأيت مليحة كالغصن مالت

يجرد لحظها سيف مهند

تتيه على ملوك الحسن عجبا

بثوب أسود والطرف أسود

 

تناقض: نرتاح قليلاً من خلية النحل

رام الله التي تأسست بصورتها الحالية عام 1903، مدينة وقور لا تستحيي من ليلها الصاخب، وفيه ترتدي ملابس البهجة لتسهر ويسهر معها سكانها في 800 مطعم ومقهى، تقدم المتعة والمرح لأولئك الذين أتعبهم النهار.

أحمد، الرجل الخمسيني، نموذج لتناقض المدينة نفسها. فهو في النهار يعمل بأحد الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، ولكنه في المساء يستعيد روح الشباب ويقاوم زحف الشيب على شعره . يقول إن رام الله تكون خلال النهار أشبه بخلية نحل، الكل يعمل في المدينة التي تعد المركز الرئيسي للضفة الغربية الذي يحتوي كل أجهزة ومؤسسات السلطة، ومقصد الباحثين عن قضاء مصالحهم أو عن وظيفة.

لكن في المساء -كما يقول رجل الأمن الخمسيني- كل شي يتغير. وهو يفضل السهر في ليلة الجمعة في بار "فويغو" بمنطقة رام الله التحتا. ورغم أن أسعار المشروبات والطعام في البار مرتفعة قليلاً، فإن هذه في رأيه ميزة، فهو يحب الجلوس بجوار أشخاص يقدرون مثل هذه الجلسات، "لا أحب الإزعاج والجلبة التي تحدث في البارات والمقاهي الشعبية".

غموض: "الحديث يدور" عن انتهاك الآداب

على بُعد شوارع قليلة، من بار "فيغو"، تتدلى أضواء خافتة من سقف مرتفع، تلقي بنورها المتقطع على مجموعة من الساهرين في بار "راديو"، الذي بات الأشهر بالمدينة. وفي زاوية ضيقة، يجلس شاب ثلاثيني نحيل الجسد متوسط القامة يرتدي ملابس أنيقة. يتلفت في كل اتجاه كأنه ينتظر موعداً، ولا يلتفت إلى طاولته إلا حين يمد يده ليتجرع ما يطفئ توتره من زجاجة البيرة محلية الصنع والتي وضعها النادل أمامه مع طبق من الترمس المملح.

Posted by ‎راديو الراديو‎ on Mittwoch, 13. September 2017

أسعد، شاب ينتمي إلى كبرى عائلات مدينة الخليل -التي تبعد 35 كيلومتراً عن القدس التي استولت المستوطنات الإسرائيلية على نحو 25% من أراضيها- يعمل في إحدى شركات البورصة وأسواق المال.

ويعتبر أسعد أحد أشهر زبائن بار "راديو" كما قال لي أحد النادلين الذين يعملون في البار. يأتي إلى البار "بحثاً عن الهدوء وتخفيف الضغط والتوتر، خاصة أن العمل في مجال أسواق المال يجلب المرض"، قبل أن يقطع حديثه بقهقهة لم يلتفت إليها أحد من رواد المكان.

يسألني: "تعرف بيت أنيسة؟".

وقبل أن أجيبه، قال: "بيت أنيسة، كان أشهر البارات في رام الله وربما في المنطقة كلها، قبل أن تغلقه السلطة في عام 2014؛ لأن حكايات الليل بداخله بدأت تتداول على ألسنة العامة، كما بدأ الحديث يكثر حول انتهاك الآداب".

ويضحك قبل أن يكمل: "قفلوا بيت أنيسة من هون.. وفتحو بداله أكثر من مقهى جديد".

كثيرون مثل أسعد الخليلي يختارون القدوم مساء الي رام الله التي تبعد 15 كيلومتراً عن القدس؛ لينالوا قسطاً من المتعة، التي لا تتوافر في كثير من المدن الفلسطينية، يقول أسعد: "أين سأذهب؟ في مدينتي الخليل لا أقدر على فعل ما أفعله هنا، والمطاعم والمقاهي الموجودة هناك لا تقدم الخدمات الموجودة هنا في رام الله.. ليس أمامي سوى خيارين؛ الأول: مدينة رام الله إلى جفنا (قرية صغيرة تبع قضاء رام الله، وغالبية سكانها من المسيحيين، وتشتهر بكثرة المقاهي والبارات)".

بزنس: كل هذه المقاهي في مدينة واحدة!

"كراج"، "زرياب"، "كاستلو"، "سنو بار"، "تشيرز"، وغيرها، أسماء أشهر الملاهي الليلية في مدينة رام الله، التي تغص بعدد كبير من المقاهي والمطاعم والبارات التي يصل عددها إلى 800 مكان بمدينة لا تزيد مساحتها على 19 ألف كيلومتر مربع، ولا يزيد عدد سكانها على 35 ألف نسمة. إنها الملاذ الآمن للباحثين عن المتعة، في وطن يظن الكثيرون أنه يرزح تحت الاحتلال، ولا مجال فيه للهو والمرح.

ويرجع انتشار هذه البارات والمطاعم إلى تحوُّل رام الله إلى مدينة مركزية، فإلى جانب أنها عاصمة سياسية وثقافية، باتت عاصمة الأعمال والاستثمار أيضاً بعدما شهدت موجة استثمار كبيرة، شارك فيها نحو 700 من المستثمرين الفلسطينيين والعرب والتي أسهمت في تطوير المدينة، وانخفاض نسبة البطالة بين أبنائها وعرفت انتشار المقاهي والمطاعم. لكنها وضعتها وسكانها تحت رحمة القروض والديون.

بزنس آخر: ضرائب باهظة على المشروبات

وبحسب ماجدة، الصحفية الفلسطينية التي تعيش في مدينة البيرة الملاصقة جغرافياً لمدينة رام الله، والتي فضلت عدم ذكر اسمها كاملاً؛ بسبب ظروف الرقابة الأمنية الصارمة- فإنه لا يوجد وجه للمقارنة بين الحياة في رام الله والحياة بأية مدينة فلسطينية أخرى.

"السبب -كما ترى- بسيط للغاية؛ وهو أن المدينة تعتبر مركزاً للدولة الفلسطينية. والنظام الذي قامت على أساسه السلطة الفلسطينية يتساهل مع أي استثمار من شأنه أن يرفع القيمة السياحية للمدينة". فلا تحظر السلطات شرب الكحول، لكن تفرض ضرائب باهظة على المشروبات الروحية، ما يمثل بالنسبة لها مصدر دخل كبير لميزانية السلطة.

رام الله التي تأسست في القرن السادس عشر عندما نزحت إليها قبيلة عربية وتحمل اسمها من كلمة "رام" الكنعانية، ثم أضاف إليها العرب كلمة "الله" لتصبح تلة الله المرتفعة

زائرها لن تخطئ عيناه تحولها الأخير إلى عاصمة سياسية مؤقتة، تلك المسحة الأوروبية لمبانيها التي تُشعره بأنه في مدينة غربية، كما أن أغلب المقاهي والفنادق الموجودة هناك بُنيت على الطراز الأوروبي. ومن وجهة نظرها، فإن "النظام السياسي الفلسطيني هو الذي يتحمل المسؤولية عن كل تلك الظواهر الغريبة، فهو يريد مدينة عصرية وسياحية".

ورام الله مشغولة بالحكم أكثر من انشغالها بالمقاومة، لا ينتشر فيها حمل السلاح، مشغولة بحديثين: في الصباح حديث السياسة والدبلوماسية، وفي الليل صخب السهر.

وبحسب ماجدة، فإن "السلطة ألغت فكرة المقاومة الحقيقية ووضعت مكانها مصطلح (المقاومة الشعبية)؛ للحفاظ على هذا الكيان الهش"، علي حد قولها.

"أنا حتى هذه اللحظة، لا أفهم المقصود بهذا المصطلح. هل هي المقاومة الفيسبوكية وتغيير صور البروفايلات؟ أم أن أقوم بتظاهرة على حاجز إسرائيلي وأرشق جنود الاحتلال بالمناديل الورقية بدلاً من الحجارة؟!".

مهرجانات: الاحتفال بالبيرة الفلسطينية

يعتبر زياد، ذلك الرجل الخمسيني الذي يعيش في رام الله، أن الحياة بالمدينة تعتبر رمزاً للبهجة، وتثبت رغبة الفلسطينيين في الحياة بعيداً عن هموم الاحتلال وضنك العيش، وأن السبب الذي جعل من رام الله مركزاً رئيسياً للدولة الفلسطينية، أنها تحتوي الكثير من الثقافات ويقصدها الناس من كل القرى والمدن الفلسطينية، على حد قوله.

وكما يحيي الفلسطينيون ذكرى النكبة في الـ15 من مايو/أيار كل عام، تحتفل بلدة "الطيبة"، الواقعة إلى الشمال من رام الله، في أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، بحدث فريد من نوعه بالشرق الأوسط، "مهرجان البيرة السنوي"، الذي يقلد مهرجان البيرة الشهري في مقاطعة بافاريا الألمانية.

المهرجان الذي يقام خصيصاً للاحتفال ببيرة "طيبة" محلية الصنع، والتي يتم إنتاجها في مصانع هذه القرية المسيحية، القريبة من رام الله، على الطريقة الفلسطينية التقليدية. ويبدأ الحفل بالرقص والغناء، بالإضافة إلى صفٍ من الطاولات التي تحمل على ظهرها ما لذ وطاب من المأكولات. وتوزَّع زجاجات البيرة بشكل مجاني على الحضور الذين جاءوا طامعين في بعض المرح.

وأحلام: الرقص تحت خط الفقر

انتشار المقاهي والبارات في رام الله، يعكس محاولة السلطة الفلسطينية -بحسب الكثيرين ممن قابلناهم في المقاهي- جعل مدينة رام الله النموذج العصري للدولة الفلسطينية المستقبلية، في محاولة لدحض أي ادعاء إسرائيلي بسيطرة التيارات المحافظة على القرار بالضفة الغربية؛ سعياً لتعطيل إقامة الدولة.

وحين يهمس أحدهم في أذنك خلسة بأنه لا توجد رقابة بأي شكل من الأشكال على غالبية السلع والمنتجات، فهذا مؤشر قوي على مدى سوء الأوضاع هناك.

وهذا ما يشير اليه سليم الشاعر، الذي عاش في رام الله 10 سنوات قبل أن ينتقل إلى الإمارات: "المشكلة الأساسية في رام الله، أنه لا توجد رقابة على أي شيء، لا على الخمور ولا على غيرها من السلع. فمن الممكن أن تشتري سلعة من شارع في المدينة بسعر معين، وتشتريها من شارع آخر بسعر أغلى أو أقل!".

يكشف "الشاعر" مَلمحاً من ملامح وجه المدينة؛ وهو الاستسلام لطبيعة الحياة، فالسلطة الفلسطينية -على حد قوله- تركز جهدها ومراقباتها لمن يروج فكراً يدعو إلى المقاومة بالسلاح أو حتي بالكتابة على صفحات التواصل الاجتماعي التي تخضع لضوابط وضعتها السلطة الفلسطينية.

وإذا كان "الناس على دين ملوكهم" كما يقول المثل الشعبي العربي، فإن المجتمع -كما يقول سليم- يسير على هوى السلطة، ويُؤْثر السلامة، وإلا كان المعتقل مصيره".

يبتسم سليم وهو يقول: "أما لو كنت من رواد المقاهي والبارات، فلا غبار عليك".