أساطير بن سلمان
محمد بن سلمان يغيّر أصل الاتفاق الذي تأسست عليه المملكة العربية السعودية بين عائلته والعلماء الوهابيين
فكيف ستبدو المملكة بعد عشرين عاماً؟
حوار مع ستيفان لاكروا
حاوره: عبدالرحمن عياش
كيف يغيّر ولي العهد مملكة أجداده؟
كانت السعودية تكتم أنفاسها مراقبةً المشهد بقلق، عندما التقيتُ ستيفان لاكروا أول مرة في صيف عام 2011، بقلب العاصمة المصرية. حينها كانت الأمور مختلفة كثيراً عما تبدو عليه الآن. كان مبارك قد تنحى قبل أسابيع، والثورة في أوجها، والمصريون متفائلون بالمستقبل، كانت أعيننا تلمع أملاً، لكننا جميعاً كنا ننظر صوب أقدامنا، حيث يُصنع التاريخ على أرض القاهرة. أما لاكروا، أستاذ العلوم السياسية في باريس، فقد كان دوماً متجهاً إلى الشرق من مصر، إلى السعودية. كان الأكاديمي المتخصص، الذي يتحدث العربية كأهلها، قد قضى 6 سنوات كاملة في كتابة أطروحته للدكتوراه، عن تاريخ الصحوة ونشأة التيارات الدينية في السعودية، كما تمكَّن من بناء شبكة ضخمة من العلاقات، قوامها السعوديون، داخل المملكة وخارجها، من كل المشارب الفكرية والسياسية.
عمل لاكروا بجدٍّ في فهم تاريخ المملكة وكذلك الحالة الفكرية الإسلامية في السعودية، والعلاقة بين التيارات الدينية المختلفة -على تنوُّعها- بسلطة العائلة المالكة. وطوال السنوات الماضية لم يتغير رأيي: ستيفان لاكروا قد يكون أهم أكاديميّ وباحث في الشأن السياسي - الديني السعودي على الإطلاق.
درس لاكروا تاريخ الوهابية في المملكة، وهي الدعوة التي ارتبطت بتأسيس الدولة مع آل سعود، والتي تعتمد خطاباً دينياً محافظاً ظلت تفرضه على المجتمع السعودي عقوداً طويلة. كما اقترب في دراسته من حركة الصحوة، وهي الحركة التي تتشكل من علماء دين محافظين أيضاً، لكنهم يختلفون عن الوهابيين في أنهم مسيَّسون بطبيعتهم؛ إذ يرون الخطاب السياسي جزءاً من وظيفة الداعية، كما أنهم يعارضون فصل المجال الديني عن السياسي والذي فرضه اتفاق آل سعود وآل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والآن تتنوع مشاربهم، فبعضهم يقبل الديمقراطية وبعضهم يرفضها، وبعضهم تبنَّى آراء أكثر ليبرالية من غيره.
لذلك، ومع التحولات الجذرية التي تمر بها المملكة، لم أجد أفضل من صديقي ستيفان لاكروا لأُحادثه من أجل فهم طبيعة التغيرات الهائلة على المستويات الاجتماعية والثقافية في السعودية، فمعرفته العميقة بدقائق الفكر والثقافة والسياسة في البلاد تجعل منه مصدراً لا يُضاهى للفهم.
في هذا الحوار قدَّم لي لاكروا إجابات سلسة ومنطقية عن العديد من الأسئلة التي راودتني حول المشهد السعودي الحالي، وموازين القوى بين الديني والسياسي في المملكة، ومستقبل السعودية في ظل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
بن سلمان أنهى الاتفاق بين العلماء وآل سعود كما نعرفه
سألت لاكروا في البداية عن رؤيته للمشهد السعودي الحالي، وكيف يصف العلاقة بين مؤسسة الحُكم والمؤسسة الدينية في المملكة؟
اعتمدت السعودية منذ وقت طويل على توازن بين سلطات الأمراء (آل سعود) والعلماء (رجال الدين)، وتوازنُ القوى بينهما كان قد بُني على اتفاق ضمني لتقاسم السلطة. من ناحية يحكم الأمراء، ومن ناحية أخرى يحدد العلماء التقاليد الدينية ويتحكمون في المجتمع.
كان الأمراء مسؤولين عن كل ما يتعلق بإدارة الدولة، أو ما يمكن تسميته "سياسات الدولة العليا"، في حين كان العلماء مسؤولين عن القيم الدينية والاجتماعية وفرضها في المجتمع والحفاظ عليها، من خلال الذراع القسرية للعلماء التي تتمثل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كان هذا هو الاتفاق باختصار. لكن الاتفاق تطور مع الزمن، ويمكن القول إنه خلال السنوات الخمسين الأخيرة تحوَّل ميزان القوى لصالح الأمراء بشكل تدريجي، وهذا الأمر تم قبل وقت طويل من مجيء محمد بن سلمان. فالواقع الذي فرضه ظهور النفط في المملكة،
وحقيقة مسؤولية الأمراء عن الأرباح الهائلة للنفط، أعطيا لآل سعود اليد العليا فوق العلماء في المملكة. ويمكن رؤية ذلك بوضوح خلال ملاحظة العقود الأخيرة في المملكة؛ إذ نجد أن الصلاحيات الممنوحة للعلماء كانت تتقلص مع الوقت لصالح الأمراء. ومع ذلك، فقد ظلت مبادئ الاتفاق حاضرة، على الأقل حتى عام 2015، فقبل ذلك كان العلماء قادرين على التحكم في المجتمع من خلال التحكم في تعريف قِيَمه ومبادئه باستخدام "الهيئة"، وحتى رغم الضعف الذي اعترى العلماء مع الوقت فقد ظلوا محتفظين بأسس اتفاق تقاسم السلطة الأصلي.
لكن ما رأيناه في السنوات الثلاث الأخيرة، في رأيي، ليس مجرد تطوُّر أو اختلاف في درجة تطبيق الاتفاق، أي فقدان العلماء المزيد من سلطاتهم مثلاً؛ بل إن التطور الذي حدث كان تحولاً في طبيعة الاتفاق نفسه، ما رأيناه منذ تولي محمد بن سلمان ولاية العهد أنه يقدّم تعريفاً جديداً للاتفاق بين السلطة والعلماء.
هذا لا يعني أن محمد بن سلمان يريد التخلص من العلماء، كلا.. فهو يحتاجهم. وهو يدرك تماماً أنه بحاجة إليهم من أجل دعم حكمه بالشرعية، وسياساته بالتأييد الديني، لكن ما يريده بن سلمان هو استئناس العلماء بشكل كامل.
لا يريد بن سلمان للعلماء أن يحتفظوا بأي قدر من السلطة أو الهيمنة على المجتمع؛ بل يريد أن يحولهم إلى معادل لمفتي الجمهورية في مصر مثلاً، أو إلى مؤسسة دينية مثل التي توجد في أي دولة أخرى، أي لا تمتلك أي سلطة ذاتية خاصة بها، ولكن تستمد سلطتها من الحكم، ولا تقوم بشيء سوى إعطاء الشرعية والدعم اللازم للنظام الحاكم. لذلك، فهو يريد أن ينزع عن العلماء استقلاليتهم، وأن يستمر في استخدامهم، بشرط أن يكونوا منزوعي السلطات تماماً.
وهو متأكد من أن العلماء لن يستطيعوا التدخل في تشكيل الاتفاق الجديد
وهل تعتقد أن العلماء أو رجال الدين قد يطورون أي آليات لمقاومة هذا التغير في الاتفاق من أجل الحفاظ على مكتسباتهم؟
الحقيقة أن معظم هؤلاء العلماء قد تم تدجينهم بالفعل، من خلال السرديات المهيمنة التي تتحدث عن خطيئة الخروج على وليّ الأمر، والتي يعتبرها العلماء خطاً أحمر. هذا الأمر مزروع في رؤيتهم الدينية، ولا يمكن أن نتوقع منهم أن ينتقلوا إلى مربع المعارضة أو أن يعلنوا ثورة مثلاً. الوحيدون الذين كان بإمكانهم المعارضة هم "الصحوة"؛ لأن طريقة تنشئتهم مختلفة تماماً، فهم ليسوا مثل العلماء الوهابيين الذين تم دمجهم في النظام بشكل كامل، وكل ما يقرره ولي الأمر سيسيرون معه بلا أي مقاومة. لكن السؤال الأهم هنا هو: هل يستطيع محمد بن سلمان إقناعهم بالحديث علناً دعماً لحكمه وسياساته، أم أنهم سيستمرون في الصمت فقط؟
فإذا نظرنا إلى المؤسسة الدينية الرسمية وعلمائها لا يمكن أن نتوقع منهم أي نقد للنظام، لكننا نرى معظمهم صامتين تماماً إذا لم يعجبهم شيء، وهذا هو أقصى ما يمكنهم فعله؛ لأن عقيدتهم وما يدينون به لا يسمحان لهم بما هو أكثر من الصمت. لذلك أعتقد أن أحد أكبر التحديات أمام محمد بن سلمان ليس الإبقاء عليهم صامتين ولكن إقناع أكبر عدد ممكن منهم بتأييده علناً، وهذا يمكن أن نراه في بعض العلماء مثل محمد بن عبدالكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، أو أشخاص أكبر سناً مثل عبدالله المطلق، عضو هيئة كبار العلماء. وأنا أعتقد أن بقاء العلماء صامتين يمثل مشكلة للمملكة، وأعتقد أن محمد بن سلمان يريدهم أن يؤيدوه علناً.
ويدرك أن المعارضة إن جاءت فستأتي من الصحوة
أما الصحوة فالمعارضة تسري في دمائهم بالفعل، لديهم الخطاب السياسي، والقدرة على الحشد، والدافع للمعارضة، وهذا ما فهمه محمد بن سلمان منذ البداية؛ ولذلك فقد كان شديد العنف ضدهم منذ اللحظة الأولى. فقد أدرك بن سلمان أن علماء الصحوة سيكونون العائق الرئيس أمام سياساته من ناحيتين: أولاً، سيعترض بعض علماء الصحوة على الإصلاحات الاجتماعية التي يقوم بها مثل السماح بقيادة المرأة للسيارة أو تأسيس هيئة الترفيه مثلاً. وثانياً، هناك القسم الذي لن تزعجه تلك الإصلاحات من ليبراليي الصحوة إذا صح التعبير، مثل سلمان العودة، وما سيُزعجهم سيكون السلطوية التي ستأتي مع تلك الإصلاحات الاجتماعية.
(ملحوظة المحرر: تم اعتقال الشيخ ناصر العُمر عقب إجراء الحوار مع ستيفان لاكروا وقبل نشره على موقع عربي بوست).
لذلك فعلى الرغم من أن العلماء على تنوعهم كانوا سيعارضون جوانب مختلفة من مشروع محمد بن سلمان، فإن ما يجعل علماء الصحوة أخطر من غيرهم هو أن السياسة لديهم، في جيناتهم بالفعل، فهم يعتقدون أن الخوض في الشأن السياسي حق لهم؛ لذلك كانت الأدوات التي استخدمها محمد بن سلمان للتعامل معهم أكثر عنفاً بكثير. فقد حاول إسكاتهم، وتهديدهم، واعتقالهم، وقد أثبتت هذه الأدوات نجاعتها حتى الآن. فمعظم الأسماء الكبرى بين علماء الصحوة إما مهددون وإما في السجن؛ ولذلك فالبقية قد قرروا أن الأصلح هو البقاء صامتين.. نجد أن سلمان العودة وسفْر الحوالي يقبعان بالسجن، في حين نجد أشخاصاً -مثل ناصر العمر- صامتين بعد أن هُددوا بشكل مباشر بأن المطاف سينتهي بهم في السجن إذا تكلموا بحرف واحد.
وأكمل جهد آل سعود بتدجين العلماء الوهابيين تماماً
لكن، هل من الممكن أن تؤثر وتيرة الإصلاحات، في موقف الوهابيين أو العلماء المقربين من السلطة ودفعهم ليكونوا أقرب إلى الصحوة؟
العلماء الرسميون تم تدجينهم ودمجهم في النظام لأبعد حد ممكن، فهؤلاء العلماء، وبغض النظر عما قد يعترضون عليه من سياسات النظام، لن يفكروا أبداً في النقد العلني، ولن يعتبروا معارضة الحاكم خياراً متاحاً على الإطلاق بعد الفصل الطويل والعميق بين الديني والسياسي.
وقد أدرك محمد بن سلمان أن التهديد الحقيقي يأتي من العلماء المسيَّسين، أو الصحوة؛ ولذلك فقد كان وحشياً في التعامل معهم؛ لأنه علم أن هؤلاء لديهم القدرة على حشد السعوديين ضد إصلاحاته، فقرر منذ البداية أن هؤلاء هم العدوّ الرئيس؛ ومن ثم فلَم يحاول جذبهم أو احتواءهم مثلما فعل مع أشخاص مثل محمد العيسى.
ومحمد العيسى شخصية مثيرة للاهتمام للغاية، فالرجل صغير السن نسبياً، كما أنه من الأشخاص القليلين -حتى الآن- الذين ليسوا متصالحين مع الصمت؛ بل إنه على استعداد لدعم المشروع وتوفير الشرعية الدينية له.
وذكاؤه يعضّده وَهَنُ الصحوة
ما يحاول بن سلمان فعله شديدُ الدهاء إذاً؛ فهو يدعم أشخاصاً مثل العيسى داخل مؤسسة العلماء الرسمية، وفي الوقت نفسه يُسكت أشخاصاً مثل العودة وتيار الصحوة، ويعتقد أنه يمكنه فعل ذلك والإفلات من أي مساءلة، وتبدو استراتيجيته ناجحة حتى الآن.
فالعلماء الرسميون لن يقوموا بفعل أي شيء يعارض حكمه، وعلماء الصحوة أضعف من ذي قبل. فالصحوة اليوم ليست صحوة التسعينيات التي كان لديها مساحة واسعة من التأثير، وأعتقد أن نسبتهم من المؤيدين قد تضاءلت كثيراً خلال السنوات الأخيرة، خاصة بين الشباب. فقد شهدت البلاد الكثير من التغيرات الاجتماعية؛ ولذلك فقد ابتعد الكثير من الشباب عن أفكار الصحوة، وربما هذا ما يراهن عليه محمد بن سلمان.. إنه يفهم تماماً أنه بسبب التغييرات الاجتماعية التي شهدتها المملكة تضاءلت نسبة مؤيدي أفكار علماء الصحوة، وأن الشباب على استعداد، إلى حد ما، لدعم مشروعه، وهذا ربما يطرح سؤالاً آخر عن مدى الإصلاح الذي سيطالب به هؤلاء الشباب؟ لكن هذا السؤال ليس مهماً على المدى القصير، المهم هو أن غالبية الشباب سيدعمون قراراته بالسماح للمرأة بقيادة السيارة مثلاً، أو تأسيس دُور السينما أو مراكز الترفيه، فهناك تغيُّرٌ جيليٌّ حقيقي في المملكة، لكن ستأتي لحظة سيطالب فيها هؤلاء الشباب بالمزيد، مثل الحقوق السياسية أو المشاركة في صنع القرار. وهذه هي لحظة الصدام، عندما يطالبون بما ليس في رغبة محمد بن سلمان أن يعطيهم إياه.
لكن، هناك مشاكل أيضاً في مشروع الصحوة، فالصحوة الآن أضعف، إلى حدٍ ما، من حيث التنظيم والوحدة مما كانت عليه في السابق. لذلك فمن حيث قدرتهم على الحشد، نعم، رموز الصحوة لهم العديد من المتابعين، إذا نظرت إلى الأرقام أو إلى متابعي "تويتر" فستجد أرقاماً مذهلة؛ سلمان العودة لديه 15 مليون متابع على سبيل المثال.. هذا رقم كبير، لكن الكثير من هؤلاء ليسوا سعوديين بالمقام الأول، كما أن السعوديين الذين يتابعونه على "تويتر" مختلفون تماماً عن متابعيه في التسعينيات.
كما أنه يعلم أن الشباب يحبون سلمان العودة لكنهم لن يموتوا من أجله
في السابق، كانت هناك تلك الثقافة من الأتباع، حين يتبع الأشخاص الشيوخ فيما يقولونه بلا سؤال، لكن الأمر اختلف كثيراً؛ إذ تحولت نظرة الشباب تجاه سلطة الشيوخ، والرابطة التي كانت تجمعهم بالشيوخ ليست كما كانت في السابق، إنهم يحبون سلمان العودة لكنهم لن يموتوا من أجل سلمان العودة!
ومحمد بن سلمان يفهم هذه التحولات، وأسلوبه فعَّال للغاية في الوقت الحالي؛ إذ إنه قادر على إرضاء الكثير من الشباب، وهو ما ألمسه في حديث الكثير من الشباب السعوديين الذين أتحدث إليهم، والذين دوماً ما يعبِّرون عن رغبتهم العارمة في أن تصبح بلادهم "طبيعية" مثل باقي البلدان. وهذا ما يخاطبه محمد بن سلمان بإصلاحاته.
بيد أنه على المدى الطويل سيطالب السعوديون بالمزيد، خاصة مع الانخفاض المستمر في موارد البلاد الطبيعية، والتدهور المقلق للوضع الاقتصادي، الذي، بالتوازي مع الإصلاحات النيوليبرالية التي يقترحها بن سلمان، سيؤدي إلى المزيد من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية الضخمة، وسيؤثر بالسلب في مستوى معيشة المواطنين السعوديين، وهذا كله سينعكس على الواقع الاجتماعي السعودي، وحينها يمكننا تخيُّل الباب الذي ستعود منه الصحوة إلى الساحة، لتقديم نفسها كوجه المعارضة من جديد، خاصة أنه على الرغم من كل مشاكلها تبقى الصحوة هي المعارضة المنظمة الوحيدة في المملكة. وعندما يبدأ السعوديون في المعارضة حينها ستصبح الصحوة جزءاً من المشهد مرة أخرى.
ويستخدم بعض إرث محمد بن عبدالوهاب للقضاء على بعضه
معارَضة في السعودية وإصلاحات اجتماعية هائلة، ماذا تبقَّى من إرث محمد بن عبدالوهاب إذاً؟
يمكنك القول إن هناك شيئين أساسيَّين: أولاً، وعلى الرغم من كل التغيرات تبقى السعودية دولة محافظة، ويمكنك رؤية ذلك؛ فمنذ أسابيع قليلة فُصل رئيس هيئة الترفيه أحمد الخطيب بعد عرض السيرك الروسي. والنظام يفهم أن هذا مجتمع محافظ حتى الآن، وأن عليهم أن يقدموا هذه الإصلاحات بحذر.
ثاني الأشياء الباقية من الوهابية هو أن الاتفاق السعودي - الوهابي الذي قامت عليه الدولة كان يتضمن بوضوحٍ بقاء العلماء تحت سلطة الأمراء، والطاعة المطلقة لولاة الأمر أو للملك.
وبهذا المعنى، فإن الوهابية تمثل حليفاً مهماً لمحمد بن سلمان، وهذان هما وجها الوهابية الأساسيان: المحافظة الاجتماعية، وطاعة الحاكم. وأظن أن محمد بن سلمان يستخدم الأصل الثاني من الوهابية لمحو آثار الأصل الأول.
كيف ترى تأثير هذه التحولات على السلفيِّين في العالم؟
أعتقد أن هناك مبالغةً في تقييم التأثير السعودي على السلفيِّين بالعالم. فالحركة السلفية، في مجملها، ليست خاضعة للسلفيين في السعودية. نعم، هناك امتدادات واضحة للسلفية السعودية، لكن معظم الحركات السلفية في العالم تَعتبر نفسها مستقلة إلى حدٍّ كبير عن الرياض. أحياناً يكون لدى الطرفين علاقات تفاوضية، مثل أن يطلب السلفيون حول العالم مساعدات من سلفيي السعودية بشكل أو بآخر، في مقابل بعض المطالب السعودية، لكن ليس هناك تجانس تام بين سلفيي العالم والسعوديين، أو على الأقل ليس بالدرجة التي قد يتصورها البعض.
لذلك، فليس منطقياً القول إن سلفيي العالم سيتغيرون بين عشية وضحاها إذا تغير سلفيو السعودية بين عشية وضحاها.
إنه يقدم إصلاحاته الاجتماعية في قالب من التراجع السياسي
إذا تحدثنا عن التأثير المتبادل، كيف تفسِّر الحملة الشرسة التي يخوضها محمد بن سلمان ضد ليبراليي السعودية، الذين طالبوا بإصلاحات طبَّقها هو فيما بعد، مثل لُجين الهذلول وغيرها؟
أظن أن محمد بن سلمان ليس مستعداً لتقبُّل أي نوع من النقد الاجتماعي، إنه يؤمن بنموذج "الديكتاتور المستنير"، الذي يعطي لشعبه لكن دون أن يسمح له بأن يُطالب، ويؤمن كذلك بنموذج الدولة التي تأتي فيها الإصلاحات من أعلى بلا أي اعتراضات من الأسفل.
ما نراه الآن في السعودية هو نموذج رأيناه في السابق بدول عربية أخرى، وهو النموذج الذي يمكن تسميته بالديكتاتورية التحديثية، التي تأتي فيها الإصلاحات يداً بيد مع السلطوية، ربما على نمط بورقيبة في تونس أو عبدالناصر بمصر، وهذا ما يراه محمد بن سلمان؛ إذ إنه لن يسمح بأن يُشرك المجتمع في الإصلاحات أو المطالبة بها بأي شكل. إنه لا يريد أن يأتي أحد ويقول إن السعوديات حصلن على حقهن بقيادة السيارة بعد مطالبات استمرت 30 عاماً
لكنه يريد أن يراها الشعب كمَكرمة ملكية ليس إلا، وهذا يكشف عن نموذج الإدارة الذي يتبناه محمد بن سلمان، وهو أبعد ما يكون عن الديمقراطية. وإذا ما قرأنا رؤية 2030 فسنجد الحديث عن العديد من الإصلاحات، إصلاحات اقتصادية، وإصلاحات اجتماعية، وإصلاحات بيئية، كل الإصلاحات الممكنة، لكن ليس هناك كلمة واحدة عن الإصلاحات السياسية. ولذلك، فإنني أرى ما يحدث باعتباره تقدُّماً اجتماعياً مغلَّفاً في كبسولة من التراجع السياسي.
وإذا نجح مسعاه ستصبح السعودية نسخة كبيرة من الإمارات، وحينها سيحدث الصدام
التأخر السياسي والتقدم الاجتماعي يُحضران إلى الذهن النموذج الإماراتي.. هل تعتقد أن الانفتاح السعودي والفرص التي قد يُوجدها في المملكة سيؤثر سلباً على أبوظبي؟
النموذج الاقتصادي - السياسي الموجود في الإمارات أكثر رسوخاً من الذي يحاول بن سلمان أن يستورده في السعودية، لذلك لا أعتقد أن التغيرات في السعودية ستهدد الإمارات بأي شكل على المدى القصير. لكن ربما يكون ما تقوله صحيحاً، فعلى المديَين المتوسط والطويل إذا استمرت السعودية على هذا المنوال ستصبح نسخة كبيرة من الإمارات، وهذا سيمثل تحدياً لأبوظبي.
الإمارات الآن لديها علاقات دولية مميزة، ونموذج اقتصادي ناجح إلى حدٍّ كبير، وحتى حجم الدولة يسمح لها بالمناورة وبالحصول على بدائل أكثر أمناً إذا اضطرت إلى ذلك. فأبوظبي لديها شبكات قوية وعلاقات بالجميع، بالولايات المتحدة والغرب أو حتى في الشرق وروسيا. لكن إذا استمرت السعودية في هذا الاتجاه ففي لحظة قريبة سيواجه محمد بن سلمان -أو MBS كما يُعرف في الأوساط السياسية الأميركية- وليد عهد أبوظبي محمد بن زايد -أو MBZ- ولكن قبل هذه المواجهة سيكون هناك العديد من التحديات والعقبات الأخرى في السعودية، فليس من السهل تحويل السعودية لنسخة أكبر من الإمارات. وإذا كان بن سلمان يعتقد أنه يقدر على ذلك بسهولة فإنه يرتكب خطأً كبيراً.
لكن في كل الأحوال، إذا نجح بن سلمان فإن ذلك سيحدث خلال 15-20 سنة، وربما حينها فقط ينبغي للإمارات أن تقلق، لكن النموذج الذي تطبقه أبوظبي أكثر ثباتاً، وشبكاتها وشراكاتها أكثر قوة من أن يتم تهديدها بالتغييرات السعودية في المستقبل القريب.
لا أعتقد أن السعودية ستتخلص تماماً من الوهابية. ما يريده محمد بن سلمان ليس القضاء على الوهابية ولكن تحويلها إلى شيء آخر، إنه يريد الاحتفاظ بالشرعية التي تأتي بها الوهابية، والقدرة على استخدام هذه الشرعية، ويريد أن يفقد العلماء سلطتهم وتأثيرهم كذلك، إنه يريدهم أن يكونوا وكلاء للدولة بشكل أو بآخر.
يجب علينا ألا نغفل خطورة التحولات الحالية، لكن أيضاً يجب ألا نتوهَّم أن السعودية تريد التخلي عن الورقة الدينية التي تلعب بها، السعودية لا تزال تريد استخدام هذه الورقة.
وماذا عن التهديدات التي ستواجهها السعودية؟ هل تعتقد أن السعودية يمكنها أن تصمد أمام التهديدات الخارجية (إيران) أو حتى أمام الإسلام السياسي، من دون عمود الوهابية؟
ولن يتخلى أبداً عن اللعب بورقة الدِّين مهما انفتحت المملكة
محمد بن سلمان لا يريد التخلص من ورقة الوهابية، بل يريد اللعب بها واستخدامها عند الحاجة. بعبارة أخرى: هو لا يريد أن يبقى "الديني" بجانب "السياسي"، ولكنه يريد أن يضع الدين تحت السياسة.
التحولات الحالية كانت ستظهر أكثر خطورة من دون التقبُّل الاجتماعي الواسع لها.. هل تعتقد أن هذا القبول لإصلاحات بن سلمان يعكس حقيقة أن الوهابية لم تكن متجذرة في المجتمع السعودي مثلما كان الاعتقاد السائد؟
كما ذكرتُ من قبل، هناك تحولٌ جيليّ هائل شهدته المملكة، ويمكننا مشاهدة ذلك بسهولة، فالشباب في العشرينيات وُلدوا منتصف التسعينيات أو نهاية التسعينيات، نشأوا في مجتمع يمكن فيه لأي سعودي أن يشاهد ما يريد على التلفاز، مجتمع متصل بالإنترنت، لديه القدرة على الوصول لأي شيء، وإذا كان هذا الشاب ينتمي إلى الطبقة الوسطى فعادة ما يكون بإمكانه السفر حول العالم.
أعتقد أن هذا الجيل كوّن رؤية مختلفة تماماً للعالم عن الجيل الذي سبقه، وهذا أيضاً ما يسعى محمد بن سلمان للاستفادة منه، من خلال استغلال توجهات الجيل الأصغر للضغط على الأجيال الأكبر في المملكة.
يبقى السؤال متمركزاً حول: إلى أي مدى يدرك بن سلمان ما يريده هذا الجيل؟ وهل سيكتفي بالسماح للنساء بالقيادة أو بالذهاب للحفلات؟ بالتأكيد، في المرحلة الأولى سيكون هذا الجيل سعيداً بذلك، لكن في مرحلة ليست بعيدة سيطالب الشباب بالمزيد، على المستوى السياسي مثلاً، وهو الأمر الذي لن يكون بن سلمان مستعداً لإعطائهم إياه.
وهو يراهن على الأجيال الشابة
لكنه ليس مستعداً لمطالبهم القادمة
أما ادعاءاته التاريخية فهي أساطير سياسية
بمناسبة الحديث عن التحولات الجيلية، كيف ترى ادعاء أن السعودية كانت أكثر انفتاحاً قبل الثورة الإسلامية في إيران، وقبل صعود تيار الصحوة؟
هذه أسطورة تاريخية، ومثلها مثل أي أسطورة أخرى، فإنها تُستخدم لدواعٍ سياسية، والداعي السياسي الذي يستخدم بسببه بن سلمان هذه الأسطورة هو -ببساطة- القول بأننا لا نقوم بأي تغييرات، لكننا نعود إلى الأصل، وهذا مجافٍ تماماً للحقيقة. فتاريخياً، نظرة سريعة إلى السعودية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات تُظهر لنا مجتمعَين سعوديَّين متمايزَين يعيشان جنباً إلى جنب. أولاً المجتمع المتدين الذي يوجد هنا منذ وقت طويل، تحديداً منذ القرن الثامن عشر، مع العلماء الوهابيين الذين يتبنون عقلية محافظة للغاية، كما نرى في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الذي تُوفي عام 1969، والتي كانت أكثر تشدداً بمراحل من الفتاوى التي أصدرها أي من الدعاة الموجودين حالياً. لكنَّ الذي ميَّز هذه الفترة في السعودية هو صعود طبقة من الإنتلجنسيا (النخبة المثقفة) السعودية، التي تكونت من السعوديين الذين سافروا للخارج وكوَّنوا نواة البيروقراطية السعودية، وهي الطبقة التي كانت أكثر ليبرالية وانفتاحاً من طبقة العلماء.
وما كان موجوداً حتى السبعينيات هو وجود مجتمعات مختلفة، تضم مساحات ليبرالية ومساحات محافظة، والسبب الرئيسي في وجود هذه المساحات جنباً إلى جنب هو ضعف الدولة، فالدولة لم تكن قادرة على دمج كل هذه المساحات داخلها، وبناء مجتمع متجانس يجمع هذه المكونات كلها، لكن ما حدث منذ نهاية السبعينيات هو عملية من الدمج الاجتماعي، بعد أن أصبحت الدولة تمتلك الأدوات؛ بسبب أموال النفط القادرة على دمج هذه المساحات داخل مساحة واحدة لخلق مجتمع متجانس. ومن أجل بناء هذا المجتمع فقد اختارت الدولة أن تسبغ عليه صبغة أكثر محافظة اجتماعياً على الجميع. وهذا الأمر لا علاقة له بالصحوة كسبب وحيد. نعم، كان هذا في الوقت الذي تطورت فيه الصحوة، وكانت جزءاً من التفاعل المجتمعي، ولعبت الصحوة دوراً في عملية التجانس تلك، لكن التجانس كان عملية أكبر من الصحوة.
لأن وجود سينما بحي من أحياء جدّة لا يعني انفتاح المملكة في السبعينيات
لذلك، فعندما يتحدث الأمير أو غيره عن وجود دُور سينما بالسعودية في السبعينيات، سأقول: "نعم"، كانت موجودة بحي أو اثنين في جدة، لكن ليس بكل مكان؛ بل كان مستحيلاً أن تُبنى تلك الدور في كل مكان. وسبب وجود دُور السينما في بعض المناطق كان ضعف العلماء فيها، وعدم امتلاكهم الأدوات القسرية التي تمكِّنهم من الهيمنة على المجتمع والتحكم فيه ككل. وعندما أصبحت الدولة أقوى أصبح العلماء أقوى، وحينها أعادوا تعريف القيم والأخلاق العامة وفرضوها على الجميع، وكانت الصحوة أحد المكونات التي نشطت في هذه العملية، لكنها أبداً لم تكن السبب وراء البدء فيها.
ولذلك، علينا أن نفرّق بين ما حدث تاريخياً بالفعل، والأساطير السياسية التي يبنيها محمد بن سلمان باستمرار، خاصة أن ما يقوله يعكس ذكاءً شديداً في التعامل مع الأطراف المختلفة. ما يفعله بن سلمان أنه يضرب عصفورين بحجر واحد؛ فمن ناحية يقول إن السعودية تعود لأصلها، وبذلك فهو يحاول إسكات من يعترض من العلماء، ومن ناحية أخرى فهو يبرئ ساحة الوهابيين من التطرف الذي غرقت فيه المملكة، ويلقي باللائمة على علماء الصحوة "الراديكاليين"!
وإذا ما ضعف بن سلمان في المستقبل فستعود القبيلة للمشهد
أخيراً، هل تعتقد إمكانية تأسيس مجتمع سعودي حديث في ظل حضور القبيلة أو هيمنتها على المشهد الاجتماعي بالمملكة؟
أعتقد أن هناك مبالغةً في تقدير حجم الدور الذي تلعبه القبيلة في السعودية، فالسعودية ليست الأردن. القبيلة في السعودية ليست حاضرة بشكل رسمي. فتأسيس المملكة أصلاً في القرن العشرين كان أهم أهدافه هو إضعاف الوجود القبلي السياسي، القبائل في السعودية حاضرة اجتماعياً وثقافياً، ولكن ليس سياسياً. السعوديون فخورون بقبائلهم وبتاريخها وعوائدها؛ ولذلك فهي حاضرة في هذه المساحة، لكنها ليست حاضرة أبداً في المجال السياسي، على الأقل حتى الآن.
لكن إذا ما أردنا أن نفهم الموقف فيمكننا المقارنة بالعراق، ففي العراق حاول صدّام سنواتٍ طويلةً الخروج بالقبيلة من المجال السياسي إلى المجال الاجتماعي والثقافي فحسب؛ بل إنه حارب القبائل من أجل إخضاعها، وهو ما تحقق بالفعل منذ الثمانينيات حين تحولت القبيلة لظاهرة اجتماعية وثقافية فحسب. لكن بمجرد أن ضعفت الدولة في العراق وجدنا القبيلة تعود لتفرض حضورها السياسي من جديد؛ لذلك فأنا أعتقد أن حضور القبيلة السياسي في السعودية سيكون مرتبطاً بقدرة محمد بن سلمان على تنفيذ مشروعه. إذا فشل بن سلمان فبالتأكيد ستكون القبيلة أحد البدائل السياسية المتاحة، لكن في كل الأحوال نحن لا نتكلم عن الغد القريب، وإنما يمكننا أن نناقش ذلك بعد 10 سنوات من الآن، فنحن لا نعرف حجم الصعوبات الاقتصادية التي سيواجهها السعوديون، فإذا فقدت الدولة قدرتها على التحكم في المجتمع مثلما تفعل الآن، ستصعد القبيلة كحقيقة سياسية مرة أخرى.
أساطير
بن
سلمان
كيف يغيّر ولي العهد مملكة أجداده؟
كانت السعودية تكتم أنفاسها مراقبةً المشهد بقلق، عندما التقيتُ ستيفان لاكروا أول مرة في صيف عام 2011، بقلب العاصمة المصرية. حينها كانت الأمور مختلفة كثيراً عما تبدو عليه الآن. كان مبارك قد تنحى قبل أسابيع، والثورة في أوجها، والمصريون متفائلون بالمستقبل، كانت أعيننا تلمع أملاً، لكننا جميعاً كنا ننظر صوب أقدامنا، حيث يُصنع التاريخ على أرض القاهرة. أما لاكروا، أستاذ العلوم السياسية في باريس، فقد كان دوماً متجهاً إلى الشرق من مصر، إلى السعودية. كان الأكاديمي المتخصص، الذي يتحدث العربية كأهلها، قد قضى 6 سنوات كاملة في كتابة أطروحته للدكتوراه، عن تاريخ الصحوة ونشأة التيارات الدينية في السعودية، كما تمكَّن من بناء شبكة ضخمة من العلاقات، قوامها السعوديون، داخل المملكة وخارجها، من كل المشارب الفكرية والسياسية.
عمل لاكروا بجدٍّ في فهم تاريخ المملكة وكذلك الحالة الفكرية الإسلامية في السعودية، والعلاقة بين التيارات الدينية المختلفة -على تنوُّعها- بسلطة العائلة المالكة. وطوال السنوات الماضية لم يتغير رأيي: ستيفان لاكروا قد يكون أهم أكاديميّ وباحث في الشأن السياسي - الديني السعودي على الإطلاق.
درس لاكروا تاريخ الوهابية في المملكة، وهي الدعوة التي ارتبطت بتأسيس الدولة مع آل سعود، والتي تعتمد خطاباً دينياً محافظاً ظلت تفرضه على المجتمع السعودي عقوداً طويلة. كما اقترب في دراسته من حركة الصحوة، وهي الحركة التي تتشكل من علماء دين محافظين أيضاً، لكنهم يختلفون عن الوهابيين في أنهم مسيَّسون بطبيعتهم؛ إذ يرون الخطاب السياسي جزءاً من وظيفة الداعية، كما أنهم يعارضون فصل المجال الديني عن السياسي والذي فرضه اتفاق آل سعود وآل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والآن تتنوع مشاربهم، فبعضهم يقبل الديمقراطية وبعضهم يرفضها، وبعضهم تبنَّى آراء أكثر ليبرالية من غيره.
لذلك، ومع التحولات الجذرية التي تمر بها المملكة، لم أجد أفضل من صديقي ستيفان لاكروا لأُحادثه من أجل فهم طبيعة التغيرات الهائلة على المستويات الاجتماعية والثقافية في السعودية، فمعرفته العميقة بدقائق الفكر والثقافة والسياسة في البلاد تجعل منه مصدراً لا يُضاهى للفهم.
في هذا الحوار قدَّم لي لاكروا إجابات سلسة ومنطقية عن العديد من الأسئلة التي راودتني حول المشهد السعودي الحالي، وموازين القوى بين الديني والسياسي في المملكة، ومستقبل السعودية في ظل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
بن سلمان أنهى الاتفاق بين العلماء وآل سعود كما نعرفه
سألت لاكروا في البداية عن رؤيته للمشهد السعودي الحالي، وكيف يصف العلاقة بين مؤسسة الحُكم والمؤسسة الدينية في المملكة؟
اعتمدت السعودية منذ وقت طويل على توازن بين سلطات الأمراء (آل سعود) والعلماء (رجال الدين)، وتوازنُ القوى بينهما كان قد بُني على اتفاق ضمني لتقاسم السلطة. من ناحية يحكم الأمراء، ومن ناحية أخرى يحدد العلماء التقاليد الدينية ويتحكمون في المجتمع.
كان الأمراء مسؤولين عن كل ما يتعلق بإدارة الدولة، أو ما يمكن تسميته "سياسات الدولة العليا"، في حين كان العلماء مسؤولين عن القيم الدينية والاجتماعية وفرضها في المجتمع والحفاظ عليها، من خلال الذراع القسرية للعلماء التي تتمثل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كان هذا هو الاتفاق باختصار. لكن الاتفاق تطور مع الزمن، ويمكن القول إنه خلال السنوات الخمسين الأخيرة تحوَّل ميزان القوى لصالح الأمراء بشكل تدريجي، وهذا الأمر تم قبل وقت طويل من مجيء محمد بن سلمان. فالواقع الذي فرضه ظهور النفط في المملكة،
وحقيقة مسؤولية الأمراء عن الأرباح الهائلة للنفط، أعطيا لآل سعود اليد العليا فوق العلماء في المملكة. ويمكن رؤية ذلك بوضوح خلال ملاحظة العقود الأخيرة في المملكة؛ إذ نجد أن الصلاحيات الممنوحة للعلماء كانت تتقلص مع الوقت لصالح الأمراء. ومع ذلك، فقد ظلت مبادئ الاتفاق حاضرة، على الأقل حتى عام 2015، فقبل ذلك كان العلماء قادرين على التحكم في المجتمع من خلال التحكم في تعريف قِيَمه ومبادئه باستخدام "الهيئة"، وحتى رغم الضعف الذي اعترى العلماء مع الوقت فقد ظلوا محتفظين بأسس اتفاق تقاسم السلطة الأصلي.
لكن ما رأيناه في السنوات الثلاث الأخيرة، في رأيي، ليس مجرد تطوُّر أو اختلاف في درجة تطبيق الاتفاق، أي فقدان العلماء المزيد من سلطاتهم مثلاً؛ بل إن التطور الذي حدث كان تحولاً في طبيعة الاتفاق نفسه، ما رأيناه منذ تولي محمد بن سلمان ولاية العهد أنه يقدّم تعريفاً جديداً للاتفاق بين السلطة والعلماء.
هذا لا يعني أن محمد بن سلمان يريد التخلص من العلماء، كلا.. فهو يحتاجهم. وهو يدرك تماماً أنه بحاجة إليهم من أجل دعم حكمه بالشرعية، وسياساته بالتأييد الديني، لكن ما يريده بن سلمان هو استئناس العلماء بشكل كامل.
لا يريد بن سلمان للعلماء أن يحتفظوا بأي قدر من السلطة أو الهيمنة على المجتمع؛ بل يريد أن يحولهم إلى معادل لمفتي الجمهورية في مصر مثلاً، أو إلى مؤسسة دينية مثل التي توجد في أي دولة أخرى، أي لا تمتلك أي سلطة ذاتية خاصة بها، ولكن تستمد سلطتها من الحكم، ولا تقوم بشيء سوى إعطاء الشرعية والدعم اللازم للنظام الحاكم. لذلك، فهو يريد أن ينزع عن العلماء استقلاليتهم، وأن يستمر في استخدامهم، بشرط أن يكونوا منزوعي السلطات تماماً.
وهو متأكد من أن العلماء لن يستطيعوا التدخل في تشكيل الاتفاق الجديد
وهل تعتقد أن العلماء أو رجال الدين قد يطورون أي آليات لمقاومة هذا التغير في الاتفاق من أجل الحفاظ على مكتسباتهم؟
الحقيقة أن معظم هؤلاء العلماء قد تم تدجينهم بالفعل، من خلال السرديات المهيمنة التي تتحدث عن خطيئة الخروج على وليّ الأمر، والتي يعتبرها العلماء خطاً أحمر. هذا الأمر مزروع في رؤيتهم الدينية، ولا يمكن أن نتوقع منهم أن ينتقلوا إلى مربع المعارضة أو أن يعلنوا ثورة مثلاً. الوحيدون الذين كان بإمكانهم المعارضة هم "الصحوة"؛ لأن طريقة تنشئتهم مختلفة تماماً، فهم ليسوا مثل العلماء الوهابيين الذين تم دمجهم في النظام بشكل كامل، وكل ما يقرره ولي الأمر سيسيرون معه بلا أي مقاومة. لكن السؤال الأهم هنا هو: هل يستطيع محمد بن سلمان إقناعهم بالحديث علناً دعماً لحكمه وسياساته، أم أنهم سيستمرون في الصمت فقط؟
فإذا نظرنا إلى المؤسسة الدينية الرسمية وعلمائها لا يمكن أن نتوقع منهم أي نقد للنظام، لكننا نرى معظمهم صامتين تماماً إذا لم يعجبهم شيء، وهذا هو أقصى ما يمكنهم فعله؛ لأن عقيدتهم وما يدينون به لا يسمحان لهم بما هو أكثر من الصمت. لذلك أعتقد أن أحد أكبر التحديات أمام محمد بن سلمان ليس الإبقاء عليهم صامتين ولكن إقناع أكبر عدد ممكن منهم بتأييده علناً، وهذا يمكن أن نراه في بعض العلماء مثل محمد بن عبدالكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، أو أشخاص أكبر سناً مثل عبدالله المطلق، عضو هيئة كبار العلماء. وأنا أعتقد أن بقاء العلماء صامتين يمثل مشكلة للمملكة، وأعتقد أن محمد بن سلمان يريدهم أن يؤيدوه علناً.
ويدرك أن المعارضة إن جاءت فستأتي من الصحوة
أما الصحوة فالمعارضة تسري في دمائهم بالفعل، لديهم الخطاب السياسي، والقدرة على الحشد، والدافع للمعارضة، وهذا ما فهمه محمد بن سلمان منذ البداية؛ ولذلك فقد كان شديد العنف ضدهم منذ اللحظة الأولى. فقد أدرك بن سلمان أن علماء الصحوة سيكونون العائق الرئيس أمام سياساته من ناحيتين: أولاً، سيعترض بعض علماء الصحوة على الإصلاحات الاجتماعية التي يقوم بها مثل السماح بقيادة المرأة للسيارة أو تأسيس هيئة الترفيه مثلاً. وثانياً، هناك القسم الذي لن تزعجه تلك الإصلاحات من ليبراليي الصحوة إذا صح التعبير، مثل سلمان العودة، وما سيُزعجهم سيكون السلطوية التي ستأتي مع تلك الإصلاحات الاجتماعية.
لذلك فعلى الرغم من أن العلماء على تنوعهم كانوا سيعارضون جوانب مختلفة من مشروع محمد بن سلمان، فإن ما يجعل علماء الصحوة أخطر من غيرهم هو أن السياسة لديهم، في جيناتهم بالفعل، فهم يعتقدون أن الخوض في الشأن السياسي حق لهم؛ لذلك كانت الأدوات التي استخدمها محمد بن سلمان للتعامل معهم أكثر عنفاً بكثير. فقد حاول إسكاتهم، وتهديدهم، واعتقالهم، وقد أثبتت هذه الأدوات نجاعتها حتى الآن. فمعظم الأسماء الكبرى بين علماء الصحوة إما مهددون وإما في السجن؛ ولذلك فالبقية قد قرروا أن الأصلح هو البقاء صامتين.. نجد أن سلمان العودة وسفْر الحوالي يقبعان بالسجن، في حين نجد أشخاصاً -مثل ناصر العمر- صامتين بعد أن هُددوا بشكل مباشر بأن المطاف سينتهي بهم في السجن إذا تكلموا بحرف واحد.
(ملحوظة المحرر: تم اعتقال الشيخ ناصر العُمر عقب إجراء الحوار مع ستيفان لاكروا وقبل نشره على موقع عربي بوست).
وأكمل جهد آل سعود بتدجين العلماء الوهابيين تماماً
لكن، هل من الممكن أن تؤثر وتيرة الإصلاحات، في موقف الوهابيين أو العلماء المقربين من السلطة ودفعهم ليكونوا أقرب إلى الصحوة؟
العلماء الرسميون تم تدجينهم ودمجهم في النظام لأبعد حد ممكن، فهؤلاء العلماء، وبغض النظر عما قد يعترضون عليه من سياسات النظام، لن يفكروا أبداً في النقد العلني، ولن يعتبروا معارضة الحاكم خياراً متاحاً على الإطلاق بعد الفصل الطويل والعميق بين الديني والسياسي.
وقد أدرك محمد بن سلمان أن التهديد الحقيقي يأتي من العلماء المسيَّسين، أو الصحوة؛ ولذلك فقد كان وحشياً في التعامل معهم؛ لأنه علم أن هؤلاء لديهم القدرة على حشد السعوديين ضد إصلاحاته، فقرر منذ البداية أن هؤلاء هم العدوّ الرئيس؛ ومن ثم فلَم يحاول جذبهم أو احتواءهم مثلما فعل مع أشخاص مثل محمد العيسى.
ومحمد العيسى شخصية مثيرة للاهتمام للغاية، فالرجل صغير السن نسبياً، كما أنه من الأشخاص القليلين -حتى الآن- الذين ليسوا متصالحين مع الصمت؛ بل إنه على استعداد لدعم المشروع وتوفير الشرعية الدينية له.
وذكاؤه يعضّده وَهَنُ الصحوة
ما يحاول بن سلمان فعله شديدُ الدهاء إذاً؛ فهو يدعم أشخاصاً مثل العيسى داخل مؤسسة العلماء الرسمية، وفي الوقت نفسه يُسكت أشخاصاً مثل العودة وتيار الصحوة، ويعتقد أنه يمكنه فعل ذلك والإفلات من أي مساءلة، وتبدو استراتيجيته ناجحة حتى الآن.
فالعلماء الرسميون لن يقوموا بفعل أي شيء يعارض حكمه، وعلماء الصحوة أضعف من ذي قبل. فالصحوة اليوم ليست صحوة التسعينيات التي كان لديها مساحة واسعة من التأثير، وأعتقد أن نسبتهم من المؤيدين قد تضاءلت كثيراً خلال السنوات الأخيرة، خاصة بين الشباب. فقد شهدت البلاد الكثير من التغيرات الاجتماعية؛ ولذلك فقد ابتعد الكثير من الشباب عن أفكار الصحوة، وربما هذا ما يراهن عليه محمد بن سلمان.. إنه يفهم تماماً أنه بسبب التغييرات الاجتماعية التي شهدتها المملكة تضاءلت نسبة مؤيدي أفكار علماء الصحوة، وأن الشباب على استعداد، إلى حد ما، لدعم مشروعه، وهذا ربما يطرح سؤالاً آخر عن مدى الإصلاح الذي سيطالب به هؤلاء الشباب؟ لكن هذا السؤال ليس مهماً على المدى القصير، المهم هو أن غالبية الشباب سيدعمون قراراته بالسماح للمرأة بقيادة السيارة مثلاً، أو تأسيس دُور السينما أو مراكز الترفيه، فهناك تغيُّرٌ جيليٌّ حقيقي في المملكة، لكن ستأتي لحظة سيطالب فيها هؤلاء الشباب بالمزيد، مثل الحقوق السياسية أو المشاركة في صنع القرار. وهذه هي لحظة الصدام، عندما يطالبون بما ليس في رغبة محمد بن سلمان أن يعطيهم إياه.
لكن، هناك مشاكل أيضاً في مشروع الصحوة، فالصحوة الآن أضعف، إلى حدٍ ما، من حيث التنظيم والوحدة مما كانت عليه في السابق. لذلك فمن حيث قدرتهم على الحشد، نعم، رموز الصحوة لهم العديد من المتابعين، إذا نظرت إلى الأرقام أو إلى متابعي "تويتر" فستجد أرقاماً مذهلة؛ سلمان العودة لديه 15 مليون متابع على سبيل المثال.. هذا رقم كبير، لكن الكثير من هؤلاء ليسوا سعوديين بالمقام الأول، كما أن السعوديين الذين يتابعونه على "تويتر" مختلفون تماماً عن متابعيه في التسعينيات.
كما أنه يعلم أن الشباب يحبون سلمان العودة لكنهم لن يموتوا من أجله
في السابق، كانت هناك تلك الثقافة من الأتباع، حين يتبع الأشخاص الشيوخ فيما يقولونه بلا سؤال، لكن الأمر اختلف كثيراً؛ إذ تحولت نظرة الشباب تجاه سلطة الشيوخ، والرابطة التي كانت تجمعهم بالشيوخ ليست كما كانت في السابق، إنهم يحبون سلمان العودة لكنهم لن يموتوا من أجل سلمان العودة!
ومحمد بن سلمان يفهم هذه التحولات، وأسلوبه فعَّال للغاية في الوقت الحالي؛ إذ إنه قادر على إرضاء الكثير من الشباب، وهو ما ألمسه في حديث الكثير من الشباب السعوديين الذين أتحدث إليهم، والذين دوماً ما يعبِّرون عن رغبتهم العارمة في أن تصبح بلادهم "طبيعية" مثل باقي البلدان. وهذا ما يخاطبه محمد بن سلمان بإصلاحاته.
بيد أنه على المدى الطويل سيطالب السعوديون بالمزيد، خاصة مع الانخفاض المستمر في موارد البلاد الطبيعية، والتدهور المقلق للوضع الاقتصادي، الذي، بالتوازي مع الإصلاحات النيوليبرالية التي يقترحها بن سلمان، سيؤدي إلى المزيد من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية الضخمة، وسيؤثر بالسلب في مستوى معيشة المواطنين السعوديين، وهذا كله سينعكس على الواقع الاجتماعي السعودي، وحينها يمكننا تخيُّل الباب الذي ستعود منه الصحوة إلى الساحة، لتقديم نفسها كوجه المعارضة من جديد، خاصة أنه على الرغم من كل مشاكلها تبقى الصحوة هي المعارضة المنظمة الوحيدة في المملكة. وعندما يبدأ السعوديون في المعارضة حينها ستصبح الصحوة جزءاً من المشهد مرة أخرى.
ويستخدم بعض إرث محمد بن عبدالوهاب للقضاء على بعضه
معارَضة في السعودية وإصلاحات اجتماعية هائلة، ماذا تبقَّى من إرث محمد بن عبدالوهاب إذاً؟
يمكنك القول إن هناك شيئين أساسيَّين: أولاً، وعلى الرغم من كل التغيرات تبقى السعودية دولة محافظة، ويمكنك رؤية ذلك؛ فمنذ أسابيع قليلة فُصل رئيس هيئة الترفيه أحمد الخطيب بعد عرض السيرك الروسي. والنظام يفهم أن هذا مجتمع محافظ حتى الآن، وأن عليهم أن يقدموا هذه الإصلاحات بحذر.
ثاني الأشياء الباقية من الوهابية هو أن الاتفاق السعودي - الوهابي الذي قامت عليه الدولة كان يتضمن بوضوحٍ بقاء العلماء تحت سلطة الأمراء، والطاعة المطلقة لولاة الأمر أو للملك.
وبهذا المعنى، فإن الوهابية تمثل حليفاً مهماً لمحمد بن سلمان، وهذان هما وجها الوهابية الأساسيان: المحافظة الاجتماعية، وطاعة الحاكم. وأظن أن محمد بن سلمان يستخدم الأصل الثاني من الوهابية لمحو آثار الأصل الأول.
كيف ترى تأثير هذه التحولات على السلفيِّين في العالم؟
أعتقد أن هناك مبالغةً في تقييم التأثير السعودي على السلفيِّين بالعالم. فالحركة السلفية، في مجملها، ليست خاضعة للسلفيين في السعودية. نعم، هناك امتدادات واضحة للسلفية السعودية، لكن معظم الحركات السلفية في العالم تَعتبر نفسها مستقلة إلى حدٍّ كبير عن الرياض. أحياناً يكون لدى الطرفين علاقات تفاوضية، مثل أن يطلب السلفيون حول العالم مساعدات من سلفيي السعودية بشكل أو بآخر، في مقابل بعض المطالب السعودية، لكن ليس هناك تجانس تام بين سلفيي العالم والسعوديين، أو على الأقل ليس بالدرجة التي قد يتصورها البعض.
لذلك، فليس منطقياً القول إن سلفيي العالم سيتغيرون بين عشية وضحاها إذا تغير سلفيو السعودية بين عشية وضحاها.
إنه يقدم إصلاحاته الاجتماعية في قالب من التراجع السياسي
إذا تحدثنا عن التأثير المتبادل، كيف تفسِّر الحملة الشرسة التي يخوضها محمد بن سلمان ضد ليبراليي السعودية، الذين طالبوا بإصلاحات طبَّقها هو فيما بعد، مثل لُجين الهذلول وغيرها؟
أظن أن محمد بن سلمان ليس مستعداً لتقبُّل أي نوع من النقد الاجتماعي، إنه يؤمن بنموذج "الديكتاتور المستنير"، الذي يعطي لشعبه لكن دون أن يسمح له بأن يُطالب، ويؤمن كذلك بنموذج الدولة التي تأتي فيها الإصلاحات من أعلى بلا أي اعتراضات من الأسفل.
ما نراه الآن في السعودية هو نموذج رأيناه في السابق بدول عربية أخرى، وهو النموذج الذي يمكن تسميته بالديكتاتورية التحديثية، التي تأتي فيها الإصلاحات يداً بيد مع السلطوية، ربما على نمط بورقيبة في تونس أو عبدالناصر بمصر، وهذا ما يراه محمد بن سلمان؛ إذ إنه لن يسمح بأن يُشرك المجتمع في الإصلاحات أو المطالبة بها بأي شكل. إنه لا يريد أن يأتي أحد ويقول إن السعوديات حصلن على حقهن بقيادة السيارة بعد مطالبات استمرت 30 عاماً
لكنه يريد أن يراها الشعب كمَكرمة ملكية ليس إلا، وهذا يكشف عن نموذج الإدارة الذي يتبناه محمد بن سلمان، وهو أبعد ما يكون عن الديمقراطية. وإذا ما قرأنا رؤية 2030 فسنجد الحديث عن العديد من الإصلاحات، إصلاحات اقتصادية، وإصلاحات اجتماعية، وإصلاحات بيئية، كل الإصلاحات الممكنة، لكن ليس هناك كلمة واحدة عن الإصلاحات السياسية. ولذلك، فإنني أرى ما يحدث باعتباره تقدُّماً اجتماعياً مغلَّفاً في كبسولة من التراجع السياسي.
التأخر السياسي والتقدم الاجتماعي يُحضران إلى الذهن النموذج الإماراتي.. هل تعتقد أن الانفتاح السعودي والفرص التي قد يُوجدها في المملكة سيؤثر سلباً على أبوظبي؟
النموذج الاقتصادي - السياسي الموجود في الإمارات أكثر رسوخاً من الذي يحاول بن سلمان أن يستورده في السعودية، لذلك لا أعتقد أن التغيرات في السعودية ستهدد الإمارات بأي شكل على المدى القصير. لكن ربما يكون ما تقوله صحيحاً، فعلى المديَين المتوسط والطويل إذا استمرت السعودية على هذا المنوال ستصبح نسخة كبيرة من الإمارات، وهذا سيمثل تحدياً لأبوظبي.
الإمارات الآن لديها علاقات دولية مميزة، ونموذج اقتصادي ناجح إلى حدٍّ كبير، وحتى حجم الدولة يسمح لها بالمناورة وبالحصول على بدائل أكثر أمناً إذا اضطرت إلى ذلك. فأبوظبي لديها شبكات قوية وعلاقات بالجميع، بالولايات المتحدة والغرب أو حتى في الشرق وروسيا. لكن إذا استمرت السعودية في هذا الاتجاه ففي لحظة قريبة سيواجه محمد بن سلمان -أو MBS كما يُعرف في الأوساط السياسية الأميركية- وليد عهد أبوظبي محمد بن زايد -أو MBZ- ولكن قبل هذه المواجهة سيكون هناك العديد من التحديات والعقبات الأخرى في السعودية، فليس من السهل تحويل السعودية لنسخة أكبر من الإمارات. وإذا كان بن سلمان يعتقد أنه يقدر على ذلك بسهولة فإنه يرتكب خطأً كبيراً.
لكن في كل الأحوال، إذا نجح بن سلمان فإن ذلك سيحدث خلال 15-20 سنة، وربما حينها فقط ينبغي للإمارات أن تقلق، لكن النموذج الذي تطبقه أبوظبي أكثر ثباتاً، وشبكاتها وشراكاتها أكثر قوة من أن يتم تهديدها بالتغييرات السعودية في المستقبل القريب.
وماذا عن التهديدات التي ستواجهها السعودية؟ هل تعتقد أن السعودية يمكنها أن تصمد أمام التهديدات الخارجية (إيران) أو حتى أمام الإسلام السياسي، من دون عمود الوهابية؟
ولن يتخلى أبداً عن اللعب بورقة الدِّين مهما انفتحت المملكة
لا أعتقد أن السعودية ستتخلص تماماً من الوهابية. ما يريده محمد بن سلمان ليس القضاء على الوهابية ولكن تحويلها إلى شيء آخر، إنه يريد الاحتفاظ بالشرعية التي تأتي بها الوهابية، والقدرة على استخدام هذه الشرعية، ويريد أن يفقد العلماء سلطتهم وتأثيرهم كذلك، إنه يريدهم أن يكونوا وكلاء للدولة بشكل أو بآخر.
يجب علينا ألا نغفل خطورة التحولات الحالية، لكن أيضاً يجب ألا نتوهَّم أن السعودية تريد التخلي عن الورقة الدينية التي تلعب بها، السعودية لا تزال تريد استخدام هذه الورقة.
محمد بن سلمان لا يريد التخلص من ورقة الوهابية، بل يريد اللعب بها واستخدامها عند الحاجة. بعبارة أخرى: هو لا يريد أن يبقى "الديني" بجانب "السياسي"، ولكنه يريد أن يضع الدين تحت السياسة.
وهو يراهن على الأجيال الشابة لكنه ليس مستعداً لمطالبهم القادمة
التحولات الحالية كانت ستظهر أكثر خطورة من دون التقبُّل الاجتماعي الواسع لها.. هل تعتقد أن هذا القبول لإصلاحات بن سلمان يعكس حقيقة أن الوهابية لم تكن متجذرة في المجتمع السعودي مثلما كان الاعتقاد السائد؟
كما ذكرتُ من قبل، هناك تحولٌ جيليّ هائل شهدته المملكة، ويمكننا مشاهدة ذلك بسهولة، فالشباب في العشرينيات وُلدوا منتصف التسعينيات أو نهاية التسعينيات، نشأوا في مجتمع يمكن فيه لأي سعودي أن يشاهد ما يريد على التلفاز، مجتمع متصل بالإنترنت، لديه القدرة على الوصول لأي شيء، وإذا كان هذا الشاب ينتمي إلى الطبقة الوسطى فعادة ما يكون بإمكانه السفر حول العالم.
أعتقد أن هذا الجيل كوّن رؤية مختلفة تماماً للعالم عن الجيل الذي سبقه، وهذا أيضاً ما يسعى محمد بن سلمان للاستفادة منه، من خلال استغلال توجهات الجيل الأصغر للضغط على الأجيال الأكبر في المملكة.
يبقى السؤال متمركزاً حول: إلى أي مدى يدرك بن سلمان ما يريده هذا الجيل؟ وهل سيكتفي بالسماح للنساء بالقيادة أو بالذهاب للحفلات؟ بالتأكيد، في المرحلة الأولى سيكون هذا الجيل سعيداً بذلك، لكن في مرحلة ليست بعيدة سيطالب الشباب بالمزيد، على المستوى السياسي مثلاً، وهو الأمر الذي لن يكون بن سلمان مستعداً لإعطائهم إياه.
أما ادعاءاته التاريخية فهي أساطير سياسية
بمناسبة الحديث عن التحولات الجيلية، كيف ترى ادعاء أن السعودية كانت أكثر انفتاحاً قبل الثورة الإسلامية في إيران، وقبل صعود تيار الصحوة؟
هذه أسطورة تاريخية، ومثلها مثل أي أسطورة أخرى، فإنها تُستخدم لدواعٍ سياسية، والداعي السياسي الذي يستخدم بسببه بن سلمان هذه الأسطورة هو -ببساطة- القول بأننا لا نقوم بأي تغييرات، لكننا نعود إلى الأصل، وهذا مجافٍ تماماً للحقيقة. فتاريخياً، نظرة سريعة إلى السعودية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات تُظهر لنا مجتمعَين سعوديَّين متمايزَين يعيشان جنباً إلى جنب. أولاً المجتمع المتدين الذي يوجد هنا منذ وقت طويل، تحديداً منذ القرن الثامن عشر، مع العلماء الوهابيين الذين يتبنون عقلية محافظة للغاية، كما نرى في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الذي تُوفي عام 1969، والتي كانت أكثر تشدداً بمراحل من الفتاوى التي أصدرها أي من الدعاة الموجودين حالياً. لكنَّ الذي ميَّز هذه الفترة في السعودية هو صعود طبقة من الإنتلجنسيا (النخبة المثقفة) السعودية، التي تكونت من السعوديين الذين سافروا للخارج وكوَّنوا نواة البيروقراطية السعودية، وهي الطبقة التي كانت أكثر ليبرالية وانفتاحاً من طبقة العلماء.
وما كان موجوداً حتى السبعينيات هو وجود مجتمعات مختلفة، تضم مساحات ليبرالية ومساحات محافظة، والسبب الرئيسي في وجود هذه المساحات جنباً إلى جنب هو ضعف الدولة، فالدولة لم تكن قادرة على دمج كل هذه المساحات داخلها، وبناء مجتمع متجانس يجمع هذه المكونات كلها، لكن ما حدث منذ نهاية السبعينيات هو عملية من الدمج الاجتماعي، بعد أن أصبحت الدولة تمتلك الأدوات؛ بسبب أموال النفط القادرة على دمج هذه المساحات داخل مساحة واحدة لخلق مجتمع متجانس. ومن أجل بناء هذا المجتمع فقد اختارت الدولة أن تسبغ عليه صبغة أكثر محافظة اجتماعياً على الجميع. وهذا الأمر لا علاقة له بالصحوة كسبب وحيد. نعم، كان هذا في الوقت الذي تطورت فيه الصحوة، وكانت جزءاً من التفاعل المجتمعي، ولعبت الصحوة دوراً في عملية التجانس تلك، لكن التجانس كان عملية أكبر من الصحوة.
لأن وجود سينما بحي من أحياء جدّة لا يعني انفتاح المملكة في السبعينيات
لذلك، فعندما يتحدث الأمير أو غيره عن وجود دُور سينما بالسعودية في السبعينيات، سأقول: "نعم"، كانت موجودة بحي أو اثنين في جدة، لكن ليس بكل مكان؛ بل كان مستحيلاً أن تُبنى تلك الدور في كل مكان. وسبب وجود دُور السينما في بعض المناطق كان ضعف العلماء فيها، وعدم امتلاكهم الأدوات القسرية التي تمكِّنهم من الهيمنة على المجتمع والتحكم فيه ككل. وعندما أصبحت الدولة أقوى أصبح العلماء أقوى، وحينها أعادوا تعريف القيم والأخلاق العامة وفرضوها على الجميع، وكانت الصحوة أحد المكونات التي نشطت في هذه العملية، لكنها أبداً لم تكن السبب وراء البدء فيها.
ولذلك، علينا أن نفرّق بين ما حدث تاريخياً بالفعل، والأساطير السياسية التي يبنيها محمد بن سلمان باستمرار، خاصة أن ما يقوله يعكس ذكاءً شديداً في التعامل مع الأطراف المختلفة. ما يفعله بن سلمان أنه يضرب عصفورين بحجر واحد؛ فمن ناحية يقول إن السعودية تعود لأصلها، وبذلك فهو يحاول إسكات من يعترض من العلماء، ومن ناحية أخرى فهو يبرئ ساحة الوهابيين من التطرف الذي غرقت فيه المملكة، ويلقي باللائمة على علماء الصحوة "الراديكاليين"!
وإذا ما ضعف بن سلمان في المستقبل فستعود القبيلة للمشهد
أخيراً، هل تعتقد إمكانية تأسيس مجتمع سعودي حديث في ظل حضور القبيلة أو هيمنتها على المشهد الاجتماعي بالمملكة؟
أعتقد أن هناك مبالغةً في تقدير حجم الدور الذي تلعبه القبيلة في السعودية، فالسعودية ليست الأردن. القبيلة في السعودية ليست حاضرة بشكل رسمي. فتأسيس المملكة أصلاً في القرن العشرين كان أهم أهدافه هو إضعاف الوجود القبلي السياسي، القبائل في السعودية حاضرة اجتماعياً وثقافياً، ولكن ليس سياسياً. السعوديون فخورون بقبائلهم وبتاريخها وعوائدها؛ ولذلك فهي حاضرة في هذه المساحة، لكنها ليست حاضرة أبداً في المجال السياسي، على الأقل حتى الآن.
لكن إذا ما أردنا أن نفهم الموقف فيمكننا المقارنة بالعراق، ففي العراق حاول صدّام سنواتٍ طويلةً الخروج بالقبيلة من المجال السياسي إلى المجال الاجتماعي والثقافي فحسب؛ بل إنه حارب القبائل من أجل إخضاعها، وهو ما تحقق بالفعل منذ الثمانينيات حين تحولت القبيلة لظاهرة اجتماعية وثقافية فحسب. لكن بمجرد أن ضعفت الدولة في العراق وجدنا القبيلة تعود لتفرض حضورها السياسي من جديد؛ لذلك فأنا أعتقد أن حضور القبيلة السياسي في السعودية سيكون مرتبطاً بقدرة محمد بن سلمان على تنفيذ مشروعه. إذا فشل بن سلمان فبالتأكيد ستكون القبيلة أحد البدائل السياسية المتاحة، لكن في كل الأحوال نحن لا نتكلم عن الغد القريب، وإنما يمكننا أن نناقش ذلك بعد 10 سنوات من الآن، فنحن لا نعرف حجم الصعوبات الاقتصادية التي سيواجهها السعوديون، فإذا فقدت الدولة قدرتها على التحكم في المجتمع مثلما تفعل الآن، ستصعد القبيلة كحقيقة سياسية مرة أخرى.
وإذا نجح مسعاه ستصبح السعودية نسخة كبيرة من الإمارات، وحينها سيحدث الصدام