في أي تجمع بشري يتطلب مني تعريف نفسي للآخرين أحاول عدم ذكر تخصصي الدراسي وأخشى أن يلتفت أحد لذلك فيسألني: "انت دارس إيه؟".
فأحاول المرواغة أحياناً، وأحياناً أخرى أحاول تجميل الإجابة بالشرح أنني دارس لعلوم التربة، وأتمنى أن يكتفي السائل بهز رأسه وتنتهي المعاناة إلى هذا الحد، لكن ما أن يقرر السائل المزعج وتوجيه السؤال مرة أخرى: "يعني كلية إيه؟!".
حتى أجد أنه لا مفر من الإجابة وأقول بصوت أحاول مزجه بالثقة: كلية زراعة.
ذات مرة كنت أتعرف إلى شخص ما، وكان يمد يده ويسلم بحرارة وعندما عرف ماذا أدرس اختفت ابتسامته فجأة ولم يعلق بشيء. أتفهم ما حدث فهذا موقف لطيف إذا قورن بمواقف مشابهة. فمرة قال لي أحد الأشخاص عندما أجبته: "لا حول ولا قوة إلا بالله، لماذا لم تدرس في كلية أخرى؟!، لن تجد عملاً بعد التخرج".
كان هذا قاسياً بعض الشيء، لكن لا أتذكر أقسى من موقف الطالب الذي قابلته يوم تقديم الأوراق اللازمة للالتحاق بالكلية وسألني عن ماذا أنوي التقديم؟ فتعجبت كثيراً من هذا السؤال الساذج، فنحن في كلية الزراعة وفي يوم تقديم الملفات، فماذا في ظنك سيكون سبب مجيئي إلى هنا؟ التقديم في كلية الشرطة مثلاً!! دار هذا الحوار في رأسي لكني أجبته كما أراد أن يسمع: كلية الزراعة.
فانتفخ صدره ورفع حاجبيه وقال بنبرة عالية: "ولماذا لم تقدم على الهندسة الزراعية فهي أفضل من الزراعة، فأنا عن نفسي جئت لأقدم على قسم الهندسة الزراعية"، أدركت أن سؤاله غرضه الاستعراض لا الاستفهام، فالجميع يعلم في مصر أن خريجي قسم "علمي علوم" في شهادة الثانوية العامة لا يستطيعون التقديم على قسم الهندسة الزراعية، لكنه أراد أن يمرر لي من تحت السطور أنه قد استطاع تحقيق هدفه من اختيار "علمي رياضة" ولو جزئياً بدخوله فرع من فروع الهندسة بينما أنا لم أستطع تحقيق هدفي ودخولي كلية الطب من علمي علوم، فنحن في مصر خلال فترة الدراسة الثانوية العامة التي تسبق الجامعة نعرف أنفسنا كطالب "علمي علوم" و"علمي رياضة" بينما من يختار القسم الأدبي، فهم الشباب الأقل طبقة في أعين المصريين جميعاً ربما حتى معلميهم، إذ يوصمهم المجتمع بأنهم الفاشلون مسبقاً أصحاب المستقبل الضبابي الذي لم يجدوا ضالتهم في التعليم.
طب أم هندسة؟
إذ يحصر أغلب المصريين النجاح التعليمي والاجتماعي في كليتين "الطب" والهندسة"، فنجد جميع الأهالي تسأل أطفالها "طب أم هندسة؟"، إذ لا تتمنى لأبنائها شيئأ أكثر من أن يصبحوا أطباء ومهندسين، حتى لو لم يكونوا هم أنفسهم من الأطباء والمهندسين فهكذا سيكون حلمهم المستقبلي لهم، فهكذا هي الخيارات المتاحة، فلسان حالهم دائماً يقول: نحن نربي ونتعب وندفع تكاليف الدروس الخصوصية من دمائنا وأرواحنا حتى تختار بين الطب والهندسة، فأغلب المصريين ينظرون لاختيار دراسة التخصص الجامعي كمن يشاهد الدوري المصري لكرة القدم، حيث يكون الاختيار بين نادي الأهلي والزمالك، أما باقي فرق الدوري فليس لها قيمة ولن تجني منها خيراً ولن يحترمها أحد.
في مصر هكذا علمونا نحن الشباب وأفهمونا في المدارس والشوارع وحتى المساجد، قيدونا في الخيال وفي المجال وفي المال، ومن بين الكليتين "الكبار" أعطونا حق الاختيار، وربما هذا ما يفسر شهرة عبارة شهيرة في مجتمعنا: "لا أحد هنا يصبح ما يريد".. ومن هنا يبدأ تصنيف الاجتماعي.
إن التعليم أساس بناء الإنسان، وعلامة نهضة الأمم والمجتمعات، وليس وسيلة للتمييز والتفرقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، لذلك يجب أن يكون التعليم قائماً على الفكر، والنقاش الذي ينمي عقل الإنسان ويجعله قادراً على التفكير الحر والاختيار الحر، وليس وسيلة للتعالي أو للتمييز الاجتماعي وتنميط الأفراد، فهذا يدمر جوهر التعليم ومخرجاته؛ مما يجعل المؤسسات التعليمية بأكملها لا تتعدى كونها مصنعاً يخرج أنماطاً معينة لتخدم عجلة الاستهلاك والشركات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.