من سمرقند إلى بيروت.. كيف أحببت فيروز؟!

عربي بوست
تم النشر: 2024/03/10 الساعة 12:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/03/13 الساعة 07:18 بتوقيت غرينتش
عندما أصبحت فيروز جسراً يحملني إلى الثقافة العربية

في زحمة الحياة ومساراتها المتشابكة، قد يأتي النور من مصابيح لم نعلم بوجودها، ويتجلى الدليل، ليس في طيات الخرائط، بل في أثير الألحان. لم أتوقع يوماً أن تكون بوصلتي في استكشاف عوالم غير مرئية هي صدى صوت ينبعث من بعيد، يحمل في طياته روح الشرق الساحر، وأسرار الثقافة العربية العريقة. 

كشخص من أوزبكستان، كانت الثقافة العربية عالماً موازياً يلوح في الأفق، بعيد عني وغامض. ومع ذلك، أصبح صوت فيروز، بنقائه وعمقه، جسراً يعبر به قلبي نحو هذا العالم الغني بتقاليده وفنونه وحكاياته.

لم تكن معرفتي بفيروز نتاج الصدفة البحتة، وإنما كانت عبر دعوة إلى عالمها من قلب الشرق، وذلك في صباح هادئ ببيت صديقي المصري في أنقرة. كان يوماً كأي يوم، إلا أنه تحوّل إلى لحظة فارقة في حياتي. أحمد، بطقوسه الصباحية البسيطة وتحضيره للفطور، اختار أن يكون صوت فيروز خلفية لهذا الجمع. "لبيروت"، أغنية حزينة بنغماتها، لكنها عميقة بمعانيها، كانت المفتاح الذي فتح أمامي، لا أبواب الأراضي العربية فقط، بل أبواب الشرق العريق.

لم يكن صوت فيروز مجرد صوت يغني؛ بل كان صوتاً يحكي، يروي، يعزي. في تلك اللحظة، وجدت نفسي أسافر عبر الألحان إلى أماكن لم أزرها قط، أشعر بدفء البيوت وشجن الحنين، وكأنني وُلدت من جديد في عالم يعج بالمشاعر الإنسانية الخالصة. كانت هذه البداية، بداية ارتباطي الروحي بصوت فيروز، وما تمثله من مشاعر.

الفضول الذي أثاره ذلك الصباح الفيروزي دفعني إلى استكشاف أغاني فيروز أكثر، ومع كل أغنية جديدة، كنت أغوص أعمق في الثقافة العربية، أكتشف تاريخها، تقاليدها، وأسلوب حياتها. كانت كل كلمة ترجمتها من أغانيها بمثابة درس جديد في الحب، الحنين، الألم والأمل. عبر فيروز، لمست روح الشرق بكل تعقيداته وجماله، وبدأت أفهم كيف يمكن للموسيقى أن تكون لغة عالمية تتجاوز الحدود واللغات.

في أنقرة المدينة الرمادية، كانت الشمس تتسلل بخجل إلى زوايا بيت صديقي أحمد، حين عزفت أولى نوتات "لبيروت" في الفضاء. لحظةٌ لم تكن عادية بالنسبة لي، بل كانت بداية تحوّل في روحي ووعيي. كأن الزمان والمكان قد توقفا للحظة، ليتركا المسرح لصوت فيروز الذي كان يخترق الصمت بنعومة وقوة معاً.

لم يكن الأمر مجرد استماع إلى صوت جميل، بل كانت تجربة تنقل الروح إلى بُعد آخر. صوت فيروز كان يحمل في طياته الدفء والحنين، الحزن العميق، كأنه يدمر كل خطوط دفاع قلبك ليغزو كل أحشائك بانسيابية وبساطة، وبمجرد أن بدأت أولى كلمات الأغنية تتسرب إلى أذني، قلت: "لقد أحببت فيروز"، إذ شعرت حينها بانتماء غامض إلى مكان لم أزره قط. كان صوتها يحيطني كالغيمة، يأخذني في رحلة عبر الزمان إلى قريتي البعيدة عن أنقرة، إلى دفء البيوت والقصص التي تروى بجانب الحطب والنيران.

في تلك اللحظات، كانت فيروز تنسج من الكلمات والألحان جسراً بيني وبين عالم لم أعرف عنه الكثير، عالم الثقافة العربية بكل ألوانه وطقوسه. من خلال صوتها، بدأت أشعر بروح الشرق تتسلل إلى وجداني، تعلمني الشوق والحنين إلى مكان يعيش في الذاكرة، مكانٌ قد لا يكون موجوداً في الواقع، لكنه حاضر بقوة في عالم فيروز الساحر.

كلمات الأغنية، وإن كنت في بادئ الأمر لا أفهم معانيها الدقيقة، كان لها وقع السحر على روحي. كان هناك شيء في طريقة ترديدها، في نغمات الألحان المحملة بالشجن والأمل، يجعل القلب ينفتح لعوالم جديدة. ومع كل مرة أستمع فيها إلى فيروز، كنت أكتشف طبقة جديدة من الشعور، كأن كل أغنية تفتح أمامي باباً جديداً إلى النفس وإلى العالم.

هذه اللحظة، اللحظة التي تجلت فيها فيروز كصوت يمتزج بروح الشرق ويعبر عنها بكل نقاء وعمق، كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت في داخلي الرغبة في الاستكشاف أكثر، في التعلم والترجمة، في الغوص في عمق الكلمات والألحان لأكتشف معنى أكبر، معنى يربطني بالثقافة العربية ويجعلني أدركها أكثر.

مع كل أغنية أكتشفها لفيروز، كنت أدخل عالماً جديداً، عالماً مليئاً بالقصص والعبر والمشاعر التي تخطت حدود الزمان والمكان. أغانيها، التي كانت تصف الحب والوطن والحنين، أصبحت لي دروساً في الثقافة والتاريخ والإنساني.

إحدى الأغاني التي تركت بصمة عميقة في روحي هي "زهرة المدائن"، التي تعبر عن حب فيروز لمدينة القدس. في هذه الأغنية، تغني فيروز "عيوننا إليك ترحل كل يوم، ترحل كل يوم، تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد يا ليلة الإسراء يا درب من مرّوا إلى السماء، عيوننا إليك ترحل كلّ يوم" وهي الكلمات التي تحمل في طياتها الشوق والحنين إلى المدينة المقدسة، معبرةً عن المعاناة والأمل في الوقت نفسه. هذه الأغنية كانت بمثابة نافذة لي لفهم الأهمية الروحية والتاريخية للقدس في الثقافة العربية، وكيف أن الفن يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن المقاومة والحب في آن واحد. كما كانت هناك "كيفك إنت"، أغنية تبدو بسيطة في كلماتها لكنها عميقة في معانيها.  

في رحلتي مع أغاني فيروز، كان كل عمل فني لها يفتح أمامي عالماً جديداً، عالماً يعبر عن مختلف جوانب الحياة والثقافة العربية بدقة وعمق شعوري لا مثيل له. من خلال استكشافي لهذه الأغاني، بدأت أدرك كيف أن فيروز لم تكن مجرد مغنية، بل كانت راوية تنقل بصوتها تاريخاً، ثقافةً، وحياة شعوب بأكملها.

القدس والمقاومة

في أغانٍ مثل "زهرة المدائن"، تجسد فيروز الألم والأمل الذي يعيش في قلب كل من يتأمل مدينة القدس. تنقل هذه الأغنية ليس فقط مشاعر الحزن والفقدان التي تسود ظلالها على المدينة، بل تحمل أيضاً رسالة أمل وإيمان بالحق في العيش بسلام على تلك الأرض. هذه الأغنية، بكلماتها ولحنها، تفتح نافذة نطل من خلالها على عمق الصراع وجمال المقاومة في سبيل الحق والعدالة.

ليالي الحب وبيوتنا الدافئة

أغاني فيروز عن الحب والشباب، مثل "كان عنا طاحون" و"ع هدير البوسطة"، تحمل بين طياتها مشاعر الحنين والذكريات الجميلة التي تحكي لنا عن أيام الشباب الضائعة. في هذه الأغاني، يكون الحب هو البطل الذي ينتصر على الزمن، مخلفاً وراءه ذكريات لا تُنسى. تعبر فيروز من خلال هذه الأغاني عن جمال الحب البسيط والصادق، الذي يظل ينبض في القلب رغم مرور السنين.

أغانٍ مثل "ياريت انتو و انا بالبيت"  و"بيتي أنا بيتك"، تصور البيت كملاذ آمن ومصدر للدفء والحنان. خلال هذه الأغاني، ترسم فيروز صورة للبيت الذي يحمل في جنباته قصص العائلة، الضحكات  والحزن والوداعات التي لا تنتهي، واللحظات الدافئة التي تجمع الأحباء. البيت، في رؤية فيروز، ليس مجرد مكان، بل هو مساحة للانتماء، الأمان، والحب الذي يبقى راسخاً في القلب، مهما طال الزمن.

حين أحببت فيروز
فيروز في إحدى الحفلات

حين أحببت فيروز.. أصبحت جسراً يحملني إلى الثقافة العربية

وعندما بحثت عن فيروز عرفت كيف تمكنت من بناء شهرتها العالمية، فبصوتها الناعم وأدائها المعبر، نجحت بترك بصمة لا تُمحى في قلوب وأرواح الناس حول العالم، فعندما نكون في عالم تسوده الفوارق والحدود، برز صوت فيروز كمثال على القوة الجامعة للموسيقى. ليس فقط في العالم العربي، حيث تعد فيروز أسطورة حية، بل في أرجاء المعمورة، تجد أغانيها صدى لدى مستمعين من مختلف الثقافات واللغات.

كمستمع من أوزبكستان، لم يكن لدي أدنى فكرة عن الأثر الذي يمكن أن تتركه موسيقى من ثقافة مختلفة تماماً في قلبي. ولكن، مع كل نغمة وكلمة من فيروز، وجدت ذلك الصدى العميق الذي يتجاوز اللغة والجغرافيا. تجربتي مع فيروز هي دليل على قوة الفن في جمع الناس وفي تقديم رسالة الأمل والتآخي، حتى في أكثر الأوقات تحدياً.

في الحقيقة، كل أغنية استمعت لها من أغاني فيروز كانت لي بمثابة فصل جديد في كتاب الحياة، يعلمني دروساً عن الحب، الفقد، الأمل، والصمود والمقاومة. مع كل كلمة ولحن، كنت أشعر بروح الثقافة العربية تتسلل إلى قلبي، تعلمني كيف يمكن للفن أن يكون جسراً يوحد الشعوب، يعبر عن مشاعرها، ويحتفل بتراثها وتاريخها.

من خلال ترجمة كلمات هذه الأغاني، بدأت أكتشف الطبقات الغنية للغة العربية، وكيف تمكنت فيروز من استخدام هذه الكلمات لتصوير مشاعر وأحداث تلامس القلب والروح. كانت كل عملية ترجمة بمثابة رحلة إلى داخل الثقافة، مكتشفاً العادات، الأماكن، والقصص التي كانت تغني عنها.

لعل أكثر ما لفت انتباهي في هذه الرحلة هو كيفية تعبير أغاني فيروز عن مفاهيم مثل الوطن، الهوية، والانتماء بطريقة تتجاوز الحدود الجغرافية وتصل إلى القلب مباشرةً بكلمات شعبيه بسيطه. كان هذا الاكتشاف بمثابة تذكير بأن الثقافة العربية، مثل كل ثقافة عظيمة، هي مزيج من التعقيد والجمال، الألم والأمل، الفرح والحزن.

تعلمت من خلال فيروز أن الثقافة ليست مجرد مجموعة من العادات والتقاليد، بل هي تجربة حية تنبض بالحياة من خلال الألحان والكلمات. كانت هذه الأغاني بمثابة دعوة للتعرف على عالم غني بتاريخه، بأدبه، بفنونه، وبشعره، عالم يفتح ذراعيه لمن يرغب في استكشافه بقلب مفتوح وروح متعطشة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مظفر حبيبوليف
كاتب وطالب دكتوراة في الأدب من أوزبكستان
تحميل المزيد