اللغات والعقائد والآنثروپولوجي من أمتع، إن لم تكن أمتع العلوم الإنسانية التي يمكن دراستها قاطبة، فهي تجعلك تفهم الكثير من مفردات الثقافة، أي ثقافة، وتقرِّب إليك كل البشر باختلاف ألسنتهم ومشاربهم ومناشئهم، حتى ولو كانوا أعداءً كلاسيكيين، فهذه العلوم قادرة على منحك جوانب تفسيرية لكل التصرفات البشرية؛ حسنها وسيئها، وكذلك مفاتيح الأفكار من ناحية موضوعية جداً، فحتى وإن لم تُزِل مشاعر العداوة تجاه جماعة ما، لكنها قادرة على أن تجعلك تتعامل معها بذكاء يفيد ولا يضر.
لكن الأمر لا يسلم من أولئك القادرين على توظيف العلوم، طبيعية كانت أو إنسانية، في النيْل من إنسانيتهم ذاتها، بل تيسير صناعة القتل والتطهير العرقي/الديني/اللغوي… إلخ.
رأيناه في أبحاث علمية سبقت الحرب العالمية خاصة في الآنثروپولوجي، وألقت بظلالها على الحروب الأهلية فيما بعد وفي كل مكان، فلم يكن سكان حوض النيل يفهمون أو يعلمون ما الفارق بين الهوتو والتوتسي، حتى قام البلجيك أوائل القرن العشرين بقياس جماجم الشعب الرواندي وتصنيفه؛ ليكتبوا في هوياتهم من يكون هوتو ومن يكون توتسي، لتشتعل حرب ضروس بعد ذلك بين الهويتين المصطنعتين في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، يحمل البلجيك كفلاً من دمائها، والكفل الأكبر على الفرنسيين لدورهم الفعال في هذه الحرب اشتعالاً وتأجيجاً، بينما قام المسلمون من الهوتو بإيواء مسلمي التوتسي لأخوة الدين، بل شمل كل من آوى إليهم من التوتسي بعدما وجدوا أن كل من آوى للكنائس الكاثوليكية قد لاقوا حتفهم بتواطؤ من الأساقفة، مما جعل الڤاتيكان يعتذر مؤخراً للرئيس پول كاجامي عما اقترفه رجال الكنيسة من أساقفة ورهبان وعوام منتمين إليها من جرائم كراهية وقتل أردت ثمانمائة ألف قتيل من الشعب الصغير خلال مائة يوم، بينما لم يُدَن أي رجل دين مسلم في تحقيقات الأمم المتحدة، الأمر الذي ساعد في انتشار الإسلام هناك ليزيد بنسبة نحو 15 ضعفاً في رواندا في آخر ربع قرن، واتخذ كاجامي إجراءات حاسمة ضد الثقافة الفرنسية واستبدالها بالإنجليزية في كل المجالات!
وإن تتبعت الأمر تاريخياً تجد أن له أصلاً توراتياً في سفر القضاة 6:12 حين كان يستوقف يفتاح الجلعادي كل رجال إڤرايم العابرين؛ ليأمروهم بأن ينطقوا كلمة شِبولت שִׁבֹּלֶת (سنبلة أو مجرى الماء) فإن قال سِبولت (بالسين المهملة لا المعجمة) فكانوا يأخذونه ويذبحونه على مخاوض نهر الأردن في الحال، حتى ذبحوا 72 ألفاً وفق القصة التوراتية!
وفي محاكاة حديثة لهذه القصة السخيفة قام حزب الكتائب الماروني اليميني في لبنان بسؤال الناس أي عبارة يستمع فيها لكلمة بندورة (طماطم) فإذا كانت نونك مفتوحة نجوت وإن سكنتها قُتلت!
وهكذا كان القتل على الهوية دافعاً للعوام من المارونيين لحفظ الفاتحة حتى إذا امتحنهم السنَّة والشيعة في أحيائهم مروا آمنين، وبالمثل حفظ العوام من المسلمين الأوراتسيو دومينيكا Oratio Dominica (أبانا الذي في السموات…) ليمروا من مناطق نفوذ المارون وكتائبهم بسلام.
وقد تعرضتُّ شخصياً لموقف مشابه من سنوات قليلة في طريقي بالمدينة القديمة بالقدس الشريف في اتجاهي للمسجد الأقصى، حين استوقفني الجنود عند الحاجز، فالسياح ليس لهم الحق في المرور إلا إذا كانوا مسلمين، أو كانوا غير ذلك، لكن في صحبة مسلمين مقدسيين، فقلت له حسناً فأنا مسلم وذاهب لأصلي الظهر، فلم يقتنع بالإجابة وامتحنني في الفاتحة، طالباً أن ألقيها على مسامعه!
وهو ما لم يحدث معي منذ سنين الروضة، فتلوتها عليه مندهشاً ومتسائلاً، وكيف لك أن تعرف إن كنت قد استظهرتها حقاً أو قلت أي كلام آخر وكأنه الفاتحة؟ فهل تحفظها؟! (وهو في الأغلب يهودي أو درزي). فقال لي كلا، لكن لو كنت حاولت ذلك لتعثرت، ولو تعثرت فلم تكن لتمر!
فضحكت من الموقف بعد ضيق، وقلت له ساخراً، خلاص في طريق العودة هل يجب علي أن ألقي صلاة "شماع" (صلاة التوحيد اليهودية) (شماع يسرائيل أدوناي إيلوهينو أدوناي يخاد…)؟ -فكل من يتعلم العبرانية يحفظها لمفرداتها السهلة، تماماً كمن يتعلم العربية يصقلها بحفظ آيات من القرآن الكريم- على مسامعك كي أعود إلى حيث أتيت؟!
فقال لي كلا، لا تحتاج إلى ذلك، فهذا الاتجاه مفتوح طول الوقت، فقط وقت الصلاة ستقف عند المعبر الآخر قبل الدخول عند الحائط، وكنت قد دخلت من باب المغاربة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.