ربما اعتاد بعضنا الظلام، وألِفَه، وصار جزءاً منه، فعميت عيناه وطُمِست عند آخرين، ثم انسحب ذلك على بقية حواسّهم، لكن الكثيرين منا كانوا ينشّطون أوتار أعصابهم على الحركة ويتخيّلون الضوء لئلا يعتادوا الظلام الذي تركّب فوقهم، وكانت أكثر خيالاتهم ذكريات تضم خيبة البدايات إلى تفاؤل النهايات.
وقد كنا من النفر الذين تسلّل إليهم ضوء محمول على سارية سفينة يخفق فيها شراع العودة إلى الديار، وتراقص الضوء في أعيننا كحلم عابر ينتقل من جيل إلى جيل، حتى باتت ألذّ كلماتي إلى أبنائي أن أقول لهم: إن أعظم أمانة أضعها بين أيديكم أن تمزّقوا هذه الوثيقة التي تحمل أسماءكم، وقد كتبوا فوقها: لاجئ؛ ولا يكون ذلك بالحصول على وطن بديل، بل بالعودة الحقّة إلى قريتكم التي ولد فيها جدّكم، وسلّمني تلك الأمانة التي أنقلها لكم.
لقد أمضينا عقوداً طويلة بين اللجوء والاغتراب في شتات الأرض نبحث عن مراكب تعيدنا إلى وطننا الكبير، إلى حلمنا المسافر، إلى حيث ننتمي، إلى منابتنا الأولى وعشقنا العريق. المكان الذي نريد العودة إليه ليس صورةً لمكان عشنا فيه، بل هو حلمٌ سكن فينا وبتنا نتواصل مع بعضنا من خلاله! وكنتُ أعلّم أولادي أن الأحلام لا تنتهي، ولا تُقْمَع، ولا تذوب!
رغبتنا الشديدة في العودة ليست حنيناً لوطن لم نره يوماً، بل التزاماً واعتقاداً تراكم بشغفٍ فوق قلوبنا الغاضبة المتمردة، وهناك مشاعر قوية تجتاحنا، وتملؤنا بالتحدّي والإصرار الغريب، وهي مشاعر لا تعبر، بل تستقر وتتيح الفضاء لمشاعر أخرى أن تمرّ وتلتصق بالمكان الذي نحلم به.
لقد كنا من قبل نسمع صفير مراكب تنادينا من كل مكان قصيّ، ثم أدركنا أنها كانت تريد رمينا إلى أبعد مسافة عن فلك الحلم الموعود، لذلك بقينا حيث نحن نتلمّس طريق العودة في مراسي الانتظار.
لم تكن مراكب الوهم هذه تشوّش علينا أحلامنا، فقد كانت هناك عناوين غاوية لمكاتب تحمل أسماء مألوفة لدينا، وقد رأينا بعض من دفع تذاكر الدخول إليها يعود باكياً.
أصبحنا اليوم ملايين، نحن ثلثا هذا الشعب اللاجئ المطرود، إننا المنفيّون المطرودون، المهجّرون المبعَدون، لم نعُدْ كما كنا أول مرة… لقد أصبحنا شعباً عنيداً جاهزاً للعودة!
إننا اليوم نصنع مراكبنا، ونرسم خطوط عودتنا، وتَعلّمنا الخوض في أنواء البحر العاتية، ولجج الموج العالية، ولكن مراسي الوطن ليست مهيّأة لاستقبالنا، لأن في أرضنا قوماً غرباء آخرين عاشوا دهراً فوق أرضنا التي اغتصبوها منا، وأنشأوا فيها أجيالاً، وقالوا لهم إن هذا وطنكم، كان لكم من قبل، وعاد لكم بعد آلاف السنين، وإياكم أن تفتحوا الميناء لأي عائد، لأنه سيأخذ منكم وطنكم!
لقد عرفنا عن هذا الجيل الكاذب الذي زرعوه في أرضنا الكثير، فلن يستطيعوا استغفالنا ثانية، فنحن نعرف اليوم أن ادعاء الحق التاريخي لقومٍ في مكانٍ ينسف العالَم، ويؤسس للفوضى في كل مكان، إذ يمكن لكل قوم وصلوا إلى أرض يوماً أن يدّعوا أنها لهم باسم التاريخ؛ كما أننا اليوم نحمل وثائق ملكيّتنا لأرضنا، ودلائل استحقاقنا، ولدينا روايتنا القويّة، وما زال أجدادنا يحدثوننا عن أجدادهم في أرضنا التي انتُزعت منا.
نحن نمتلك الوعي الكامل اليوم، وربما تفرّقنا سبل استعادة حقوقنا، وكيفية تعاملنا مع محتلّ أرضنا، لكننا نفهم جيداً أننا عائدون حقاً، وسنستعمل كل وسيلة لتحقيق عودتنا الكاملة.
وإذا سألني أحدهم عن سرّ يقيني بذلك، فكنتُ آخذه إلى مقابرنا، وأُريه كيف كتبنا على كل شاهد قبر، أنه لفلان أو فلانة ابن فلان وعائلته، ونكتب أيضاً أنه من قرية كذا المهجّرة، وهذا يعني لكل حيّ منا أن مكان دفنه لا ينبغي أن يكون هنا حيث ثبَت، بل يجب أن يكون من حيث نبتَ، وأننا يجب أن نعود إلى طينتنا التي تخلّقنا منها.
ثم إنني كنتُ آخذ بيده إلى مخيماتنا، وأشير له إلى أسماء الشوارع والأزقّة والأحياء، وعناوين المجالس والدواوين العائلية التي تحمل أسماء القرى المهجّرة التي جاء منها أهل المخيم، ثم أطوف به على المكتبات الصغيرة في حروف المخيم التي اجتهد المثقفون في تسجيل ذاكرة قراهم وبلداتهم، وتوثيقها ووضعها بين يدي الجيل الحاضر والقادم.
ثم كشفتُ له عن مشروعي الخاص لتسجيل ذاكرة كل نبات نبت في فلسطين، وكيف صنّفه أهلنا القدماء وتعاملوا معه، في زينتهم ودوائهم وطعامهم، وكيف يخزنونه ويموّنونه ويجففونه ويخللونه، وكل الفنون والمهن المرتبطة به؛ وقلت له إن كل ما يتعلق بهذا النبات أصبح عندنا ذا مذاق وطنيّ، ثم إن ابن الجبل يعرّف قومه بما في جبله من أشجار ونبات وزهور، وابن الساحل وابن الصحراء والبرّيّة والغور.
ولم تتقبّل نفسي إلى اليوم أن المنفى حقيقة يجب تقبّلها رغم أن النفي قد مورس على والدي وجدّي منذ أكثر من سبعين عاماً، ولم أتقبّل إلى اليوم أن منفاي هو وطني البديل، والحقيقة التي أنا عليها اليوم هي أن منفاي صورة عن وطني الذي أتخيّله وأريد استعادته، لأنه قائم أمامي، وكل ما في الأمر أن ثمة من يمنعني من الوجود عليه والتواصل معه.
ولا يمكن لعقلي وروحي أن تتقبّل فكرة القهر أن هذا الوطن يقبل القسمة على اثنين، وأن إنسانين يمكنهما اقتسام مساحة الذات نفسها، أو أننا ظِلّان في مكان يحتاج إلى شخص واحد.
إن كل أشعاري التي أكتبها عن فلسطين أكتشف فيها أنها تتنفّس بوطن مكتوم في صدري، وأنا اللاجئ الذي ولدت ونشأت وكبرت وهرمت خارج هذا الوطن الذي أحلم به، لقد أصبح وطني في عيني كبيراً واسعاً كالفردوس الموعود؛ وقد تضخّم هذا الوطن إلى الدرجة التي أحس فيها بالأقدام التي وطئته يوماً، والكلمات التي تغنّى بها القرويون في أعراسهم، والأنغام التي ترنّم بها المزارعون في حصادهم، وأصوات تكبيرات العيد في مساجدهم القديمة المنثورة في بلداتهم… أي أنني أشعر بغنائيّة ذاتيّة قويّة تجتاحني، لكنها أيضاً متصلة بروح ملحميّة جماعية لا تنفكّ عنها.
والمكان الذي اتخذتُه وطناً لا أملك صورة حيّة في ذهني عنه، وإنما صورة متخيّلة، فوطني حلم يسافر، أي أنني هنا لا أحنّ إلى وطن أعرفه، بل إنني أندفع للانتماء إليه والإحساس به، وهذا يعني أن أشعاري هذه لا تنتمي إلى شعر الحنين، وإنما إلى شعر الهوية والانتماء.
ولأنني ولدت في مخيم صغير، ونشأتُ فيه، وتدرّجت في سككه وأزقته الضيقة وحاراته الملتصقة وساحاته المجوّفة ومدارسه الزرقاء وشواهده العائدة إلى قراه التي هُجِّر منها، فقد عرفتُ مخايل ابن المخيم وكيف أثّر المخيم عليه:
فابن المخيم ينمو في بيئة قاسية شرسة، تعلّمه فنون العيش، ومصارعة الخُطوب الصعاب، والصبر العنيد، والحسم السريع، وكما تُعلّمه ليتقن ذلك فإنها تروّضه ليرضى بما هو عليه.
وابن المخيّم يتمتع بذكاء مكتسب من بيئته المؤهّلة بثقافة الاستعداد والتكيف مع ظروف المواجهة.
وابن المخيم عظيم الولاء لمجتمعه الصغير لا يكاد يحيد عنه إذا التزم به وآمن عن قناعة وحبّ وامتنان. وهو شخصية اجتماعية مندمجة، تذوب أنانيته ونرجسيته في التفاصيل الاجتماعية.
وابن المخيّم طيّب وعفويّ فهو ابن مجتمعه المترابط الذي يعرف بعضه بعضاً بلا زينة، ولديه قدرة احتمال عالية، ولا يكاد ييأس، ويحبّ المغامرة والتجريب، ولا يحسب حسابات الخطوة التالية بتعقيد، ولا يعنيه ما يحصل إذا فعل الفعل عن قصد.
وفيه شهامة ورجولة وعزّة نفس عالية، وكثيراً ما يدفع ثمن ذلك إذا اندفع لمواجهة مَن يمسّ ذلك منه. وهو يحب الوضوح، ويكره الغموض، ولا يحسن المجاملة المتوارية وراء النفاق الاجتماعيّ، إذا صدَقْتَه صدَقك، وإذا كذَبتَه لم يلبث أن ينقلب عليك. وهو يحب الفرح والسرور والنكتة المباشرة، ويكره الهمّ والغمّ، ربما لكثرة أسبابهما في عالمه الضيّق الصغير.
وهو جادّ حريص يركض دائماً، لا تجد لديه ميوعة المسترخين، ولا سيولة المتردّدين، ولا يقف في منتصف الطريق ليستريح. له أحلام صغيرة لكنها كبيرة في عينه، فقد اعتاد العيش في الزوايا الحادّة، والمربعات المخنوقة، والحبس المفتوح. وهو سخيّ الطموح إلى حدّ السذاجة أحياناً، ولديه الكثير من الأسباب ليطير بطموحه المتعالي. وهو حسّاس جداً حتى إنّك ترى لون القهر في عينيه، لكنه يزدري هذا القهر ويتعالى عليه ويسخر من تأثيره.
وهو متواضعٌ خَدومٌ لا يكاد يعرف معنى الكبر والغرور، لكنه شديد المفاخرة بإقدامه وعناده. وهو متمرّد عنيدٌ بطبعه لذلك يحب الأقوياء ويجاريهم ويخلص لهم، ويكره الضعفاء والمهزوزين. وقلبُه ناريّ غضوب يشتعل بالحبّ والكراهية بسرعة، ويجيد حبس أوجاعه، وتجفيف دموعه قبل أن تراها.
وهو ثائر حرّ يعشق الحرّية، ويبغض العزلة، ويقاتل من أجل التمدّد إلى ظلالها وتنفُّس هوائها. وهو قوي الشخصية، لديه إيمانٌ شديد بأهميته، ويستند في ذلك إلى شعور عميق بالظلم والحرمان، وأنه ضحية تاريخية ما زال يقاسي آثارها، وأن الله اختاره ليكون مقاتلاً ثائراً مدافعاً عن حقّه. ولكنه فقد وطنه فهو يحبّ التملّك ولا يتنازل بسهولة عما في يده، ويجدّد حياته باستمرار على قاعدة ذهبيّة: حقّي لا أضيعه.
ونحن إزاء النكبة جيلان اشتركا في المخيم، ثم تناسل منا أهالي المخيمات، جيل كان في الوطن الذي فقدناه وهم جيل النكبة، وجيل نشأ مع نشأة المخيم وبدأ قصته بالولادة فيه أول ما وُلد المخيم وهم جيل الشتات.
وأنا أقرب ما يكون إلى جيل الشتات فقد ولدت في مخيم عمره عشر سنوات، وتعلّمت هناك فقه النكبة، وكنتُ أدرّس لطلاب الأدب والنقد ودراسات اللاجئين أدب النكبة وأدب الحنين وأدب العودة وأدب رثاء المدن والديار، وكنتُ كثيراً ما أضع لهم هذه المقدمة بأن النكبة هي المصيبة والمحنة العظيمة وما يصيب الإنسان من حوادث الدهر، وأصلها أن المنكوب يتعثر بحجارة الطريق فيدمى ويرهق، ويبذَعِرّ الألمُ بوطْأته حتى يقال له على سبيل الدعاء: نَعَشَكَ الله من هذه النكبة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.