“المسجون أخو المجنون”.. هكذا خرجت من السجن لكن ما زلتُ معتقلاً في زنزانتي!

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/18 الساعة 10:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/18 الساعة 10:35 بتوقيت غرينتش
معتقل في زنزانة/ shutterstock تعبيرية

تمُر السُّنون داخل الزنازين والأرواح مُعلقة بسبيل الخروج من هذه الدائرة المظلمة، الجميع في حالة من الإنهاك، إنهاك جسدي ونفسي يُحيط به إحساس باللاطمأنينة الدائمة، المُتمثلة في الخوف من الحاضر والمُستقبل. دائماً ما يتحرك عقل السجين بسرعة لا هوادة فيها، طارحاً أسئلة، ومُختلقاً أجوبة سوداوية، وفي الوقت نفسه يحاول أن يجتذب الأمل حتى تهدأ روحه المُستنزفة المكلومة.

"المسجون أخو المجنون"، عبارة شائعة داخل أروقة وجدران السجن، يُرددها المساجين كحكمة أثيرة تتوارثها الأجيال المُتعاقبة من السجناء، توصيفاً لحالهم وحياتهم ومأساتهم المليئة بالجنون. سنوات من العُزلة والغُربة والتهجير والألم الجسدي والنفسي قادرة على الدفع بالجنون وبمشاهدة حالات ومُحاولات دؤوبة لوضع تتر النهاية لمماتِ في ظاهره الحياة.

نعم كنت مجنوناً مثل زملائي وأصدقائي المساجين، نعم كان عقلي يدور ويهرول ويبحث ويهرب ويخشى. كان عقلي دائماً يطرح أسئلة ويبحث عن أجوبة، في بعض الأحيان تُرضيه، وفي أحيانٍ أخرى تُغضبه. كان عقلي باحثاً عما سيحدث، وتأثيره على مُجريات حياتي.

 سأخبركم بالأسئلة والحوارات والصراعات داخل رأسي، والتي كادت تفتك بي، وتدفعني كثيراً إلى طلب النهاية، وذلك في المقال القادم. ولكن قبل سرد صراعات عقلي أريدكم أن تعلموا أنني أشتاق إلى الرفاق داخل السجون، أشتاق إلى الحديث معهم ومُسامرتهم، أشتاق إلى مائدة الطعام والنبطشية والخدمة (وهو نظام العمل اليومي داخل الزنزانة، وتكون بتحديد جدول ترتيبي بأسماء السجناء حيث يقوم السجين في اليوم المخصص له بمجموعة من المهام، مثل تسلم التعيين، والجراية، وهو الخبز أو العيش في العامية المصرية، وتحضير الطعام، وغسل الصحون، وترتيب المكان).

أشتاق إلى "النَّضَّارة" (وهي الفتحة أو النافذة الموجودة في باب الزنزانة)، وسماع الغناء والهتاف والإنشاد والتماسي والعنبرة (وهي غناء قصيدة دارجة بين الأجيال من المسجونين من قبل سجين لنفسه أو لسجين آخر، أي لمجموعة من السجناء، وذلك بمناسبة حدوث أمر سار كإطلاق السراح).

أشتاق إلى إخفاء الممنوعات من الهاتف أو الأموال أو قصاصات الورق داخل المخزن (وهو المكان الذي يصنعه السجين لإخفاءِ الممنوعات)، أشتاق إلى فَرشتي (مهجعي) ودولابي وعصافيري (عصافير: جمع عصفور وهو لفظ يُطلق على وسيلة يقوم بها المسجون من أجل تعليق ورفع الأغراض في أعلى حائط الزنزانة، أو من خلال شباك الزنزانة، ويتم عمل العصفورة من خلال قلم أو قداحة فارغة وخيط يتم ربطه وإحكامه عليهما وربط طرف الخيط الآخر في الحائط أو الشباك، ومن ثم يمكن تعليق الأغراض، ويُطلق المُصطلح أيضاً على المُرشدين من المسجونين).

أشتاق إلى الأحراز (أحراز: جمع حِرز وهو السجين الأناني، المحب لذاته ومصلحته الشخصية، وهو دائم التركيز والتدخل في حياة الآخرين، وتُطلق أيضاً على السجين الذي لديه ماضٍ غامض أو من لديه عقلية جبارة، أو السجين الذي يقوم بأعمال خطرة مثل التهريب، أو السجين الشمال، وفي بعض الأحيان يُقال عن السجين حِرز مكمكم، كدليل على أنه بالغ في أي من الصفات السابقة). أشتاق إلى التلصص على الضباط والمخبرين والشاويشية والمرشدين.

هل مسّني الجنون مرة أخرى كي أشتاق إلى حياتي أو لنقُل مماتي داخل السجن؟

 هل أشتاق إلى هذه المأساة؟

 هل أشتاق إلى المشقة؟ أليست مشقة الحياة كافية؟

 وهل هناك بعد مشقة الاعتقال مشقة؟

 صدقوني لا أعلم!

 لمَ لا أنسى؟ هل لأنني لا أريد أن أنسى؟

أحتفظ داخل رأسي بجميع التفاصيل، الأسماء والوجوه والأماكن والتواريخ والروائح. لا أرغب في النسيان، أحافظ على هذه الذكريات كأنها وليدي الذي أحافظ عليه داخل عقلي حتى لا يتوه منى. عند إحساسي بالحنين ألجأ إلى عقلي مُسترجعاً ذكرياتي ومُحتضنها. وعند إحساسي بالنسيان أهرول إلى عقلي مُفتشاً وباحثاً في دفاتره راغباً في استرجاع تفصيلة ما كاد أن يمسحها عقلي نهائياً، وعند استرجاعها والاطمئنان عليها أعيد ترتيبها في سياقها ووضعها في مكانها الأمين الحافظ لها بكل وسائل الدفاع والحماية من هجمات النسيان بين تارة وأخرى.

 لا أدري لمَ أكتب؟!

هل لأن الكتابة تُمثل لي وسيلة من نظام الحماية المُتّبع داخل رأسي حتى أقاوم النسيان وأحافظ على دفاتِر ثورة يناير والسجن؟

 أم أن الكتابة تُخرج ما يتملكني داخلياً من الحزن والغضب؟

 هل الكتابة تعبير عن الحنين والاشتياق؟

جميعها أسئلة أحاول البحث عن إجابة لها، ولكن الذي أعلمه بينما أكتب الآن أن إحساس الاشتياق يتملكني. أشتاق إلى صفوت، ومحمد عادل، ومحمد القصاص، ودومه، وعلاء عبد الفتاح، وهيثم محمدين، ومحمد الباقر، وعمر علي، وأيمن موسى، وجعفر الزعفراني، ومروان صدقي، ومحمود صالح، وسيد مُشاغب، والراحل مصطفى قاسم، والراحل الشيخ عبد الرحمن أبو سريع، والراحل شادي حبش، والراحل تامر سعد، ومصطفى جمال، وعمّار، وصهيب، ومحمد فوزي، والبيلي، ومئات وآلاف آخرين.

 الحُرية لهم جميعاً، ورحمة ونور وسلام على من رحل.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زين الناجي
ناشط سياسي مصري
تحميل المزيد