لو خُيّرت بأن تتحول حياتك إلى لقطة سينمائية واحدة متكررة، فأيها تختار؟
شخصياً كنت لأختار -وبلا تردد- مشهد طفلتي سارة وهي تركض وتقفز بجنون من آخر المنزل صوب الباب، فور إعلان عودتي من يوم عمل طويل، لترتمي في أحضاني ضاحكة صاخبة. فلقطة كهذه هي كل ما أتكل عليه لنزع هموم يوم مرهق والارتكان إلى راحة الساعات الباقية، في كنف من تستطيع أن تقسم بلا تردد أنهم يحملون لك الحب الصادق النقي (البضاعة الأنفس في الوجود برمته)، ولا شيء غيره، لقطة مفعمة بالود والرحمة كهذه، لا يضيرني لو تكررت في يومي خمس مرات أو عشراً أو مئة!
كم أحب لقاء هذه الصغيرة، لأنني موقن بمحبة لقائها لي، ولحظة اللقيا بعد الغياب هذه أكاد أجزم أنها اللحظة المناسبة التي على سارة اقتناصها من الآن فصاعداً لتفرض عليّ طلباتها وأمانيها الصغيرة، فتجد أباً ملبياً طائعاً بفرح، حتى لو كلفته الأماني هذه مالاً وجهداً كثيرين.
"وله المثَل الأعلى".. هذه الحقيقة السهلة البينة هي ما لمع حينها في خاطري وأنا متأهب للبدء في أداء صلاة المغرب، وسارة تقف إلى يميني مرتدية ملابس الصلاة الظريفة التي تم تفصيلها لفتاة في الثالثة من عمرها، بغرض الدعابة ربما لا أكثر، صلاة أخذت للأسف مع مرور الوقت الطابع الروتيني المتكرر، الذي أنفذه غالباً بحكم العادة، حتى تكاد تغيب عن خاطري أي من معانيها.
وهنا فرضت الفكرة نفسها…
لماذا يفرض عليك أن تصلي في اليوم خمساً وفي ساعات متباعدة تغطي ليلك ونهارك كاملاً؟ ولماذا كانت هذه الصلة أو "الصلاة" لقاءً محكوماً بكل هذه التفاصيل المادية في شكلها، الغارقة في المعنوية في تبريرها؟ وهو الغني عن ذلك كله، ولا يضيره منك البعد، ولا يفيده قرب؟
إنه -يا مسكين- إنما يدفعك دفعاً لأن تتخلق بأخلاق المحبين، وتحديداً: أخلاق الأطفال الملتصقين بمعيلهم المحبوب الذي لا غنى لهم عنه في ليلٍ أو نهار.
إنه يدفعك دفعاً لأن تجري إليه بلهفتك كلها، متناسياً ثقل يومك وحزن أمسك وخوف غدك، فتحييه تحية المحب الموقر المعترف بالفضل وفارق العمر والقدرة، ثم تبث إليه أمانيك كلها كبيرها وصغيرها، هذا وكل ما لديك بإزائه صغير!
في الحديث الصحيح: "أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ، فَأَكثِرُوا الدُّعاءَ".
فالسجود خنوع وذل حينما يكون لبشر محدود مكنته اللحظة البائسة من رقابنا ومصائرنا، أما وهو لمن لا يحده زمان ولا مكان، فأكاد أراه ارتماءً في أحضان قدرته، واعترافاً أقصى بكماله وإعالته لنا منذ لحظة الخلق الأولى مروراً بمشاهد الحياة جميعها حتى الختام، وهنا يفصح العيال بحاجاتهم لمعيلهم، فلا يردهم صفراً وقد رأى منهم الحب مراراً وتكراراً، فأحبهم، حاشاه!
وفي الحديث الصحيح أيضاً: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه".
فيا معشر المساكين.. من منا يأتيها محباً فرحاً متلهفاً صادقاً؛ كما تأتيها صغيرتي سارة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.