انتهى ضجيج الزيارة بانفعالاته وتشتتت الأحضان وابتعدت الأجساد، وخرج الأهالي تاركين خلفهم أبناءهم في أيدي السجانين، وتحرك السُجناء كلٌّ منهم يحمل شنطة الزيارة البلاستيكية البيضاء إلى داخل قاعة التفتيش.
يبدأ كُل سجين في السعي لاختيار مُخبر مباحث يكون لين الطبع ولا يقوم بتفتيش شنطة الزيارة وذلك بمقابل ما، قد يكون في أغلب الأحيان عبارة عن علبة سجائر كليوباترا أو LM.
وهذا لا ينفي أن جميع المُخبرين يأخذون الرشوة، ولكن هناك المُخبر السمج ثقيل الظل الباحث عن الرشوة والإيذاء في نفس الوقت، ذلك المُخبر السمج مثل المُخبر حسين لا يجد غضاضة في أن يأخذ علبة سجائر وفي نفس الوقت يقوم بتفتيش جميع محتويات الزيارة، ثم لا يلبث أن يُساومك على مُقابل آخر إذا وجد إم بي ثري أو جرائد غير مسموح بها أو كتاباً، فتضطر إلى أن تعطيه علبة سجائر أخرى أو 50 جنيهاً حتى لا يقوم بمنع هذه الاحتياجات أو إبلاغ ضابط المباحث بتهريبك لأشياء مُخالفة وإخفائِك للمال، فتكون العاقبة حينئذٍ أقوى، فيتم حرمانك من الزيارة المُقبلة ووضعك في زنزانة التأديب.
وأثناء تفتيش المُخبر حُسين لشنطة الزيارة، ستراه وهو يرى أكل والدتك ولعابه يسيل من الجوع، وفي بعض الأحيان ينظر إلى ضابط المباحث فيجده منشغلاً بتليفونه، حينئذِ يأخذ قطعة أو قطعتين من اللحم ويضعهم خلفه دون أن يُلاحظه الضابط.
سجن ليمان طُرة
عنبر 2 جنائي، زنازين الطلبة
زنزانة رقم 5/1
كنت في ذلك الوقت في مرحلة الدراسات العُليا، وتم نقلي إلى سجن ليمان طُرة كي أقوم بأداء الامتحانات. استقبلني عبد الله أحد الطلبة وكان المسؤول عن إدارة الزنزانة، وسألني عن الزيارة وهل كان الوقت كافياً، وعن جوابه الذي أعطاه لي لكي أعطيه لوالدتي للاتصال بوالدته وقراءة مُحتويات الجواب لها. وقمت بإعطاء العلب البلاستيكية المُحتوية على الطعام إلى مُهند وكريم وهما المنوط بهما القيام بأداء الخدمة اليوم.
كانت زنزانة 5/1 لها طابع فريد، فهي زنزانة يقبع داخلها ما يقرب من 40 سجيناً في وضع علبة السردين، ومساحة الزنزانة تكفي بالكاد 10 سُجناء، وكنا جميعاً من سجون مختلفة. كانت الزنزانة ذات جدران صفراء باهتة وتحتوي على بعض الشبابيك ذات الفتحات الحديدية والتي تراكمت عليها الأتربة لعقود.
وكانت الزنزانة خليطاً لا يجتمع إلا داخل السجن، فكان هناك الطلبة من المُنتمين لِجماعة الإخوان أو المتهمين بالانتماء إليها، وكان البعض الآخر من الطلاب من المتهمين بالانتماء لِجماعة داعش أو تنظيم الدولة الإسلامية كما يُحبون أن يُطلق عليهم، وكان هناك اللامُنتمون من الطلبة وإن كان تصنيف قضاياهم تحت جماعة الإخوان. وكان الجميع يعرف بانتمائي لحركة شباب 6 أبريل.
صلاتا مغرب وإفطاران!
كان الجو شديد الحرارة وكنا جميعاً نتصبب عرقاً وفي حالة من العطش الشديد نتيجة للصيام. وكان كريم ومُهند يقومان بتجهيز طعام الإفطار وكان يعاونهما عبد الله بإعداد السلطة، وحين اقترب موعد الإفطار، بدأ الجميع في التوجه إلى دورة المياه للوضوء، وحين انطلق أذان المغرب، بدأ الجميع في تناول بعض ثمرات التمر وشُرب المياه وبعض العصائر الرمضانية من التمر هندي والسوبيا والعرقسوس الذي أحضره أحد السُجناء الجنائيين القدامى بالعنبر.
وهنا بدأ أول مظهر تعبيري عن الوضع داخل الزنزانة، حيث قام طلبة الإخوان ومعهم البقية بأداء صلاة المغرب، ثم حين انتهوا من الصلاة، قام الطلبة المتهمون بالانتماء لداعش للصلاة، فحسب مذهبهم لا يجوز الصلاة خلف الإخوان أو غيرهم، وذلك لفساد مُعتقد الاَخرين حسب معتقداتهم، ولكن يُسمح لأي شخص بالصلاة خلفهم، فالنقطة الجوهرية أن يكون الإمام صحيح العقيدة، أي منهم.
بدأ كريم ومهند بوضع مفرش لوضع الأطعمة وتقسيم الطعام في وجبات لكل فرد، وتقسيم النوايب، أي نصيب كل فرد من اللحم أو الدجاج، وقام الجميع بالجلوس على أرضية الزنزانة إلا مجموعة المتهمين بالانتماء إلى داعش، فقد قاموا بإعداد طعامهم الخاص، وقاموا بوضع وجباتهم في آخر الزنزانة والجلوس منغلقين مع بعضهم البعض كي يتناولوا الإفطار.
كانت الزنزانة على اختلاف الثقافات والبيئات والأفكار والأيديولوجيات داخلها، سمتها الطاغية هي احترام كل شخص للمساحة الشخصية للآخر، وكان ذلك من المُحال رؤيته في أي مكان آخر.
بعد الإفطار بدأت الخدمة بتجميع بقايا الطعام وتجميعه في كيس الزبالة، والبدء في غسل المواعين، وتنظيف المكان الذي وُضع فيه الطعام. ويبدأ كل طالب بالاتكاء على فرشته الخاصة، أو تجاذب أطراف الحديث مع البعض، وفي بعض الأحيان يقوم الطلبة ببعض السمر مثل تكوين بعض الفرق وطرح بعض الأسئلة العامة عن أسماء عواصم الدول والأسئلة المُتخصصة عن العلوم الشرعية الإسلامية.
وكان الطلبة (المتهمون بالانتماء لداعش) يعقدون مجلساً خاصاً بهم يُناقشون فيه ما بلغ إلى أسماعهم عن إصدارات التنظيم في رمضان، ويلتفون حول أميرهم وهو طالب تمت مُبايعته منهم على الإمارة؛ لأنه أكثرهم علماً بالعلوم الشرعية حيث يقوم بإعطائهم درساً من الدروس الشرعية، وتسلّم الاستفسارات الشرعية منهم والإجابة عليها.
كان "دبّور" يُطلق على نفسه أنه مُنتمٍ لداعش، ويأتي إليّ في بعض الأحيان لسؤالى عن أسباب انتمائي إلى حركة 6 أبريل. وكان دبور أصغر منّي سناً ببضع سنين، وكان لا يتوانى عن مُحاولة تقديمي لأميره؛ حيث كان الصراع مُشتعلاً بين طلبة الإخوان و"داعش" على التقرب من الطلبة واستقطابهم لفريقهم، وكنت أعتبر عنابر الطلبة هي الأخطر في الترويج للأفكار، وإن كنت أجد كمّ المُحاولات التي واجهتها من قِبَل أفراد التنظيمات الأخرى مُضحكة لي!
بعد صلاة العشاء، أقيمت صلاة التراويح، وقام أنس بإمامة الصلاة؛ نظراً لأنه حافظٌ للقراَن بالعشر قراءات وصوته عذب وقام بالدُعاء لفك كرب المحبوسين، والمُصلون من خلفه يرددون آمين كأنها تخرج من أغوار أنفسهم. وحين انتهت صلاة التراويح، بدأ بعض الطلبة من نظارات الأبواب الحديدية بالإنشاد وإلقاء التواشيح؛ حيث قام طالب من زنزانة 15 للإنشاد "قمر سيدنا النبي قمر" بصوته العذب، وحين انتهى ألحَّ عليَّ بعض الطلبة بتقديم فقرة العنبرة:
"عنبر كله يسمع
حتى الحديد يسمع
واحد يا موحد الواحد
اثنين يا جد الحسين
ثلاثة يا سَوّ الشماتة
أربعة يا حِبر المطبعة
خمسة يا عزمي يا حيّ
ستة يا بكرا يا جاي
سبعة يا قلبي يا مَايل
ثمانية يا شوق الزمايل
تسعة يا دنيا يا واسعة
عشرة يا خاين يا حشرة
أعرّفكم جميعاً أن السجن سور، وأعرّفكم جميعاً أن الفكرة نور"- قصيدة العنبرة لأحمد فؤاد نجم.
وحين حانت الساعة الثانية عشرة بعد مُنتصف الليل، تم غلق الأضواء، وخلد البعض للنوم، وبدأ بعض الطلبة صلاة القيام في مجموعة صغيرة أو فُرادى، والبعض الآخر ما بين قراءة القرآن، أو قراءة رواية، أو كتاب، أو الاستماع إلى الراديو.
السحور والأذان الكاذب!
قُبيل الفجر بساعتين، تمت إضاءة الأنوار حتى تبدأ الخدمة اليومية الجديدة بإعداد السحور، وبدأ بعض الطلبة في صلاة القيام وتلاوة القراَن. ويبدأ السحور ويجلس الجميع إلا مجموعة الطلاب المنتمين لداعش. وتتفنن الخدمة في إعداد السحور بأن تقوم بتغيير ملامح وطعم الجُبن الميري، أي جُبن السجن، من خلال خلطِه بالبهارات والفلفل والطماطم، وهرس الفول، وسلق البيض، وإعداد السلطة الخضراء.
يجلس الجميع للسحور ويتجاذب البعض الحديث أثناء السحور، ويتخلل الحديث المزاح، وعند الانتهاء تُمارس الخدمة دورها المُعتاد في تجميع بقايا الطعام وتنظيف المكان وغسل بعض الصحون، بينما يبدأ البعض في احتساء الشاي أو بعض العصائر والمياه، وحين يبدأ أذان الفجر يتوقف الجميع، ولكن!
حين أمسك أغلب الطلاب عن الطعام والشراب، بعد أذان الفجر كان دبور بجانبي حين وجدته يبدأ سحوره هو وأصدقاؤه وذلك للخلاف والصراع الفقهي حول توقيت أذان الفجر في مصر، وأن الأذان الحالي لصلاة الفجر في مصر يسبق الوقت الصحيح بما يقرب من 20 إلى 30 دقيقة. كان ذلك يُمثل دهشة لي، فهذه أول مرة ألاحظ مثل هذا الخلاف، حيث يُمسك البعض عن الأكل والشراب في حين يأكل البعض الآخر حتى بعد أذان الفجر، وإن كان ذلك لم يكن يُمثل لي مُشكلة حينها، فالجميع أحرار في تصرفاتهم وعباداتِهم.
قام الطلاب إلى صلاة الفجر، ثم أعقب ذلك صلاة الفجر الأخرى، وتم غلق الأضواء، وخلد الجميع إلى النوم لبدء يوم جديد لأداء الامتحانات في شهر رمضان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.